بكر صدقي *
بهذا العنوان المثير نشر الباحث التركي بكير آغردر كتاباً تناول فيه أحوال تركيا والعالم، بمختلف وجوهها ومشكلاتها، مستثمراً خبرته العلمية والتقارير الدورية لمؤسسة «كوندا» لاستطلاعات الرأي التي يقوم بإدارتها.
«لقد كشف وباء كورونا المعروف بكوفيد 19 عن عمق المشكلات التي يعاني منها العالم منذ أكثر من أربعين عاماً، وتم غض النظر عنها وكأنها غير موجودة». من هذه المقدمة ينطلق آغردر ليقول إن السردية التي ستحدد مستقبل البشرية تتعلق بأشياء أكثر من الوباء وحده. يشير الباحث إلى التناقض الصريح الذي كشفه الوباء بين مواجهته بأداة هي الدولة القومية، في حين أن مواجهة فعالة تتطلب منظمة فوق قومية تتمتع بسلطة حقيقية. أما منظمة الصحة العالمية فقد كشف الوباء، أول ما كشف، قصورها عن مواجهة أزمة بهذه الخطورة. فلا مواردها المحدودة سمحت بتطوير وسائل مواجهة فعالة، ولا هي تتمتع بصلاحيات حقيقية تخضع لها حكومات العالم. فقد ترك الأمر لحكومات الدول القومية لاتخاذ الإجراءات التي تراها كافية، فتصرفت كل حكومة بطريقة مختلفة ورائزها الأساسي التأثير السلبي لتدابير الإغلاق على الاقتصاد وارتداداته الاجتماعية ـ السياسية.
التناقض الثاني الذي لم يكن بحاجة لظهور الوباء لنعرفه هو بين اقتصاد معولم إلى أبعد مدى ودول قومية تزداد في الآونة الأخيرة انغلاقاً بسبب صعود التيارات والقادة الشعبويين في كثير من الدول بينها دول عظمى.
يتحدث آغردر عن ثلاث ديناميات تدفع نحو التغيير هي: التغير الذي تخضع له الكرة الأرضية، ومن مفرداته ارتفاع حرارة الكوكب، وارتفاع نسبة الكربون في الغلاف الجوي، وثقب الأوزون، والجفاف، واتجاه الموارد الطبيعية نحو النفاد، بما في ذلك مياه الشرب، وانقراض الأنواع النباتية والحيوانية، وتلوث الماء والهواء والتراب وغيرها من المشكلات الكبيرة التي تعني البشرية جمعاء ولا يمكن حلها ببرامج قومية منعزلة. «والحال أننا تصرفنا كالنعامة، متجاهلين هذه الأخطار المحدقة بنا، فلم نعمل على تغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك الراسخة منذ الثورة الصناعية» الدينامية الثانية تتعلق بتسارع الحياة اليومية للبشر بفعل التطورات التكنولوجية في مجالات المعرفة والاتصالات والمواصلات، أو ما يسمى باختصار بالثورة التكنولوجية. وتزداد عملية الإنتاج استقلالاً عن الزمان والمكان، فلا يقتصر تأثير ذلك على تسارع إيقاع الحياة اليومية، بل يخلخل أيضاً التراتبية الاجتماعية والستاتيكو الراسخ.
وتتعلق الدينامية الثالثة، في رأي آغردر، بالتغير الجاري على حركة البشر بين البلدان والقارات المختلفة، فتنشغل الدول القومية بالبحث عن وسائل لوقف هذا الحراك أو الحد منه، في حين أن حركات الهجرة تتسع باطراد فتشمل ملايين البشر الذين يحلمون بتحسين ظروف حياتهم أو يفرون من أوضاع لا تطاق.
في مواجهة هذه المشكلات والديناميات الدافعة نحو التغيير، يستمر العالم فيما اعتاد عليه من أنماط التنظيم والإدارة والإنتاج والاستهلاك، بنظام دولي قائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأثبت قصوره، فضلاً عن افتقاده للعدالة، في مواجهة المشكلات الإقليمية والدولية ناهيكم عن المشكلات الكونية فوق السياسية. كذلك تبدو أنماط التفكير السائدة قاصرة عن مواكبة التطورات العاصفة في حياة البشر، في حين تحتاج هذه التطورات تغييراً متناسباً معها في أنماط التفكير. يكمن جوهر المشكلة، في رأي آغردر، في فقدان الأمل، أو بعبارة أخرى افتقاد البشر ليوتوبيات إيجابية تشكل قوة دفع للعمل والتغيير. بالمقابل لدينا كم هائل من التصورات الديستوبية، في الأدب والسينما وغيرها من وسائل التعبير، من شأنها تثبيط الهمم ورفع جدران الخوف وتسليم المصير لسلطات غاشمة. بالمقابل تتصف الحركات الاجتماعية الجديدة باللامركزية وغياب التنظيم والقيادة وضبابية الأهداف. وتزداد قوى الأمر الواقع شراسة في دفاعها عن الوضع القائم.
هذا هو الإطار العام لكتاب آغردر الذي يطغى عليه الوصف، مقابل زيادة جرعة التحليل بصورة ملحوظة حين يخص حال تركيا بقسم مهم من الكتاب.
تبدو تركيا الموصوفة في الكتاب، بلداً غارقاً في مشكلات مزمنة لا يعرف كيف يعالجها، حائراً في توجهه بين شرق وغرب، إسلام وعلمانية، نصف مصنّع، نصف متمدين، ينقسم مجتمعه بين هويات منغلقة على ذاتها.
يستعيد آغردر، في كتابه، تحليله اللافت للاستقطاب الاجتماعي – السياسي الحاد الذي يسمم الحياة العامة في تركيا ويحرمها من المضي قدماً نحو المستقبل. ويستند تحليله إلى نتائج عمليات الاقتراع التسع التي جرت في تركيا منذ العام 2011، كالانتخابات العامة والرئاسية والمحلية والاستفتاء على الدستور، إضافة إلى نتائج استطلاعات الرأي الدورية قامت بها مؤسسة كوندا التي يقوم آغردر بإدارتها. يقوم تحليل آغردر على نمط توزع أصوات الناخبين على الأحزاب السياسية والمناطق الجغرافية والهويات الاجتماعية ـ السياسية ـ الإثنية. هناك محوران لنمط التوزع هذا، أحدهما عمودي والآخر أفقي. على المحور العمودي لدينا اعتبارات تتعلق بمستوى التنمية الاقتصادية، مستوى الدخل الفردي، المستوى التعليمي، درجة التديّن؛ أما على المستوى الأفقي فالاعتبار الأهم هو الهوية الإثنية. تبدو خريطة تركيا المزودة بنتائج عمليات الاقتراع مقسمة إلى ثلاثة قطاعات، يغطي الأول المناطق الساحلية على شواطئ بحور مرمرة وإيجة والمتوسط، تصوت غالبية ناخبيها لحزب الشعب الجمهوري، وتتميز بمستوى أعلى من التنمية الاقتصادية والتمدين والتعليم ونمط الحياة العلمانية؛ أما المنطقة الوسطى والساحلية على شواطئ البحر الأسود، فتصوت بغالبيتها لتحالف الجمهور المكون من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، وتتصف بمستوى تنموي أدنى من المنطقة الأولى، وكذلك فيما يتعلق بمستوى الدخل والتعليم، وسكانها أكثر تديناً من سكان المنطقة الأولى؛ أما المنطقة الثالثة فهي شرق الأناضول وجنوبها الشرقي الذي يتمتع فيه حزب الشعوب الديمقراطي بشعبية كبيرة تنعكس عادةً على نتائج الانتخابات، وتلك المنطقة تقبع في أدنى سلم التنمية ومستوى الدخل والتعليم.
وينقسم الناخبون قبل كل شيء بين مؤيدي الحزب الحاكم (وحلفائه) ومعارضيه بصورة حادة وثابتة. أي أن الشخص المعارض لا يتحول إلى مؤيد، ولا العكس يحدث. بالمقابل يلاحظ آغردر أن الأحزاب السياسية تفقد نفوذها في المجتمع باطراد، مقابل ارتفاع أهمية منظمات المجتمع المدني كأنصار البيئة والمنظمات النسائية وغيرها. الكتاب غني ولا يمكن تلخيصه في بضع صفحات. حاولت في الأسطر السابقة أن أقدم فقط بعض لمحات منه.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.