رلى موفّق *
بكثير من الوضوح، يعتبر الباحث جوزيف باحوط، الذي عُيِّن حديثاً مديراً لمركز عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية، أن جزءاً من أزمة لبنان وانهياره الذي سيُدخله في الجحيم له علاقة بالعوامل الخارجية والإقليمية والدولية التي لا بد من انتظار نتائجها، ولكن جزءاً آخر من هذا الجحيم صُنع في لبنان، وبالتالي لا بد من إنجاز الحل داخلياً قبل أن تُسقَطَ التسوية الإقليمية على البلاد بما لا يُفيدها.
ويرى باحوط أن لبنان انعكاس ثانوي للملف الإيراني في الإدارة الأمريكية الحالية، وسيستمر هكذا مع الإدارة الجديدة إلى حين، وأن انتخاب رئيس أمريكي جديد أو الإبقاء على الرئيس الحالي لن يُترجم بالضرورة ارتياحاً في الملف الإقليمي أو اشتداده بطريقة صدامية، ما يعني أن الانعكاس لن يكون مباشراً بالزمن ولا بالنتيجة الحتمية الراديكالية.
ويلفت إلى أن ثمة مشروعين في لبنان يتناقضان اليوم، أحدهما كان في مرحلة الصعود، ويواجه الآن مجتمعاً ممانعاً، بينما الثاني ما زال يعيش في زمن غابر ولا يُعيد اختراع نفسه، محذراً من أن الانهيار سيؤدي إلى انفجار العنف الذي سيأخذنا إلى مزيد من الوجع، ولن يُوّلدَ نظاماً جديداً لأنه لا نظام يقوم على وقع الانهيار. وهنا التفاصيل:
– نحن على بعد أيام من الانتخابات الأمريكية التي ستنعكس نتائجها على قضايا كثيرة. برأيك، أي انعكاسات ستحملها على لبنان المنهار مالياً واقتصادياً والغارق في أزماته الداخلية؟
= الانعكاس سيكون حسب النتائج. أشك أن أحداً قادر على التكهن بالنتيجة رغم استطلاعات الرأي وما يظهره الواقع الأمريكي. مثل هذه الأيام عام 2016 كانت هيلاري كلينتون متقدمة بفارق مريح إنما فاز دونالد ترامب.
المقولة أن أي انتخابات أمريكية تنعكس على واقعنا الشرق أوسطي واللبناني هي مقولة دائمة. في زمن الحرب اللبنانية كنا كل 4 سنوات نقول إن الأمور ستُحل لأن رئيساً أمريكياً جديداً سينُتخب، لكنها استمرت 15 عاماً. الانعكاس لم يكن يوماً مباشراً بالطريقة التي يُفكر بها الناس. أكيد يوجد انعكاس، إنما يجب معرفة أنه في الإدارة الأمريكية الحالية، والأرجح أن هذا سيستمر لوقت مع الإدارة الجديدة، لا يُوجد ملف للبنان قائم بذاته إلى جانب ملفات شرق أوسطية أخرى، هناك جزء من ملف أو فصل اسمه لبنان، سوريا، العراق ضمن ملف كبير اسمه إيران. بمعنى أننا في لبنان انعكاس ثانوي للملف الإيراني في الإدارة الحالية.
عند الفرنسيين يوجد ملف للبنان قائم بذاته، ولهذا السبب يوجد اختلاف بين المقاربتين الأمريكية والفرنسية. المقولة الأمريكية مفادها أن إيران يجب أن تخضع لإعادة تفاوض على الملف النووي وما يتفرَّع عنه، أي الموضوع البالستي، ووجودها الإقليمي… إلخ، عبر الخضوع لما يسمى ضغوط الحد الأقصى.
هذه الضغوط القصوى تُطبَّق على إيران عبر العقوبات وعلى الأماكن التي لإيران يد طولى فيها، وبالأخص لبنان لأن موضوع “حزب الله” هو الأبرز في الإقليم بما يتعلق بوهج النفوذ الإيراني. لغاية الآن هذه هي المقاربة، وكنا على قاب قوسين أو أدنى من اعتبار لبنان الرسمي مساوياً لـ”حزب الله”. هذا هو المنطق السائد في واشنطن. يفصلنا فقط “إنش واحد” عن هذا الموضوع، ولكن على اللبنانيين أن يتنبهوا، ففي أي لحظة قد نصل إلى هذا المكان. حتى الجيش اللبناني قد يصبح خاضعاً لهذه المعادلة ما يؤدي إلى وقف كل أشكال المساعدة.
حدثت تغييرات جزئية في هذا الموضوع في الفترة الأخيرة لها علاقة بانفجار المرفأ، وأيضاً بضرورة ألا يموت لبنان كلياً قبل أن تحدث الاستحقاقات الجديدة في المنطقة، ربما يتم إنعاشه بقليل من الأوكسجين حتى لا يموت بشكل مباشر. من هنا تبرز “الحلحلة” الحالية في عملية تشكيل الحكومة، ولكنها لا تغيّر الإطار العام.
في حالة فوز ترامب ستُطرح عدة أسئلة: كيف سيُكمل الضغط الأقصى على إيران لإجبارها على الحضور إلى طاولة المفاوضات في وقت كل خبراء ملف إيران في الولايات المتحدة يقولون إن هذا الموضوع قد يستغرق سنوات؟ والسؤال الآخر هو كيف سيتم سدّ الثغرات في الجدار الذي وضع بوجه إيران والتي تستغلها للنفاذ، لا سيما وأن النظام الدولي لا يقف ثابتاً خلف الأمريكان، من روسيا إلى الصين إلى تركيا؟ وإلى أي حد سيختلف الهدف الأقصى الأمريكي عن النتيجة السابقة، بمعنى كم سيستطيع ترامب أن يُحسِّن الاتفاق الجديد مع إيران بالمقارنة مع الاتفاق القديم، فقد يزيد فصلاً على الموضوع البالستي أو على موضوع النفوذ الإقليمي لإيران، لكن في الواقع إذا لم يتغيَّر ميزان القوى بشكل حقيقي بين إيران والدول الغربية وأمريكا والخليج بشكل خاص فلن تخضع إيران لهذه المشيئة.
الخيار الآخر، هو الخيار العنفي الحربي، وهنا توجد أسئلة عدة حول مَن سيقوم به، الأمريكيون أم الإسرائيليون؟ فعقيدة ترامب ثابتة بأنه لا يريد إدخال بلاده في حروب جديدة في المنطقة مُكلفة مالياً وبشرياً. تبقى الأداة المباشرة هي إسرائيل والخليج، وهنا نرى التقارب الجديد بين إسرائيل والخليج، ولكن لا أحد يستطيع أن يتصوّر أن بإمكان هذا الثنائي أن “يكسر” إيران بمعنى “النموذج العراقي”، أي تغيير النظام في إيران، فهذا ليس في متناول اليد. إذن سيبقى صراع عض أصابع وحرب باردة طويلة بين هذا الثنائي وإيران، وبالتالي يمكن أن يُدخل المنطقة في دوامة جديدة من الصراعات في لبنان أو اليمن أو سوريا أو العراق.
– وإذا فاز المرشح الديمقراطي؟
= الناس تنطلق من فرضية أنه إذا فاز بايدن، وكونه كان نائباً لأوباما، فإنه سوف يعمل على إحياء الاتفاق النووي في اليوم التالي بعد انتخابه، وهذا ليس بالشيء المؤكد. ثمَّ إن بايدن وإنْ كان ملتزماً بشكل معنوي وربما سياسي بالاتفاقية حول النووي، كما كان سابقاً، إلا أنه براغماتي، ويرى أنه حتى لو كان هناك انتقاد كبير لما قام به ترامب، لكن في نهاية الأمر هناك مكتسبات وسوف يستفيد منها، كإضعاف إيران وخنقها اقتصادياً. لا يمكنه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن إلى أي مدى سيستثمر ذلك؟
على كل، الأمور ستأخذ وقتاً قبل أن تبدأ المفاوضات مع إيران، هذا إذا بدأت. قد تمرُّ سنة أو أكثر حتى تُجهِّز الإدارة الجديدة نفسها، وحتى تفتح القنوات غير المباشرة. هنا لا بد من الإشارة إلى الواقع العربي الجديد. أيام أوباما فُتحت القنوات عبر سلطنة عمان وأطراف أخرى، أما اليوم فهذه الأطراف لم تعد مرشحة لأن تلعب دور الوسيط، فقد حدثت تغييرات. سلطان عُمان توفي، وكذلك أمير الكويت، والخليج طبَّع مع إسرائيل. الأمر أصبح أصعب تقنياً، ويستلزم فتح قناة مباشرة أو جديدة بين إيران وأمريكا.
وهناك احتمال دخول موضوع آخر على الأجندة الأمريكية يضع إيران في المرتبة الثانية أو الثالثة، مثلاً كوريا الشمالية أو انهيار الاقتصار العالمي بسبب كوفيد-19، وقد يرى الإيرانيون أن عليهم أن يختبروا الرئيس الجديد، وهذا الأمر قد يستغرق أكثر من سنة لمراقبة سلوكه في أماكن أخرى مثل سوريا واليمن… إلخ.
– إذن الرهان على حلول قريبة هو رهان خاطئ؟
= ما أقصده أن انتخاب رئيس أمريكي جديد أو الإبقاء على الرئيس الحالي لن يُترجَم بالضرورة ارتياحاً في الملف الإقليمي أو اشتداده بطريقة صدامية. من المؤكد أنه سيكون هناك انعكاس مهم جداً للانتخابات الأمريكية سيطال العالم، لكن علينا أن نبقى هادئين لأن الانعكاس لن يكون مباشراً بالزمن ولا بالنتيجة الحتمية الراديكالية.
بالنسبة للبنان، برأيي أن جزءاً من أزمته ومن انهياره الذي سيدخله في الجحيم له علاقة بالعوامل الخارجية، الإقليمية والدولية، وهو ليس له يد فيها، وعليه أن ينتظر نتائجها، ولكن هناك جزء من هذا الجحيم صُنع في لبنان.
سأذهب أبعد من ذلك، إذا جاءت تغييرات إقليمية وهناك جزء لبناني لم يُنجز، فلن يكون لهذه المتغيرات الانعكاس المرتجى على لبنان. إذا كان هناك “فرض” لم يُنجز، فمن الممكن أن تُسقَـطَ “الطبخة” الإقليمية على لبنان بشكل لا يُفيده، بمعنى أنه إذا كانت هناك تسوية بين أمريكا وإيران، أو صدام بين أمريكا وإيران، ولم يكن العمل المطلوب لبنانياً قد أُنجز كالإصلاحات وتغيير السلوك السياسي والخروج مثلاً من بعض المحاور الإقليمية، فلن يستفيد لبنان من “الطبخة” الإقليمية، وربما سيشبه الأمر فترة التسعينيات عندما أُسقط على لبنان “اتفاق الطائف” لأنه كان انعكاساً لتسوية إقليمية ودولية، وبرهنت التجربة أن هذا الموضوع لا يدوم.
من المؤكد أن هناك انتظاراً مفهوماً من قبل لبنان للمتغيرات الإقليمية التي ستعكسها الانتخابات الأمريكية، ولكن هناك أموراً يجب أن تُنجز في لبنان على الأقل لإبقائه على قيد الحياة إن لم نقل لإعادته إلى عافيته.
– بمعنى الطبقة السياسية الحاكمة لا تتعامل على أساس أن هناك أزمة حقيقية، بل وكأن ما يجري هو فقط لعبة صراعات، فريق يرى أن علينا أن نصمد في وجه أمريكا مع إيران، وآخرون ينتظرون…
= صحيح، برأيي حدثان كان يمكنهما أن يُغيّرا عقلية الطبقة السياسية في لبنان، لجهة روحيتها ومقاربتها. الحدث الأول هو مفاجأة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، غير أن يقظة الشَّارع اللبناني لم تصمد أكثر من شهر أو شهرين بتأثيراتها على الطبقة السياسية. في البداية كانت كمن أصيب بلكمة فترنحت وفهمت أن شيئاً ما يتغيَّر، وأنه يجب القيام بعمل ما حتى تستعيد توازنها. لسوء الحظ، استطاعت تخطي هذه المرحلة، وساعدها الشارع بموت الحراك. وأظهرت الطبقة السياسية أنها أقوى بكثير من هذه اللكمة. ترنح النظام لكنه وجد سريعاً مخرجاً لأزمته، حينها من خلال وصفة حسان دياب التي مرَّرت الوقت، والآن من خلال وصفة سعد الحريري المتجددة والتي هي مهمة جداً برمزيتها، أي في العيد السنوي للثورة يعود سعد الحريري بهذا الشكل التسووي وبتسويات خفية. هذا الأمر أظهر أن الطبقة السياسية اجتازت القطوع الأول.
أما الحدث أو القطوع الثاني الذي كان بإمكانه المساهمة بوعي الطبقة السياسية وأن تفهمَ أن اللعبة انتهت، هو الانهيار الاقتصادي واشتداد الأزمة والوصول إلى الحائط المسدود. فعندما يقول حاكم مصرف لبنان إنه لم يعد يستطيع تأمين الدعم، ورئيس الجمهورية يقول إننا ذاهبون إلى جهنم، والتحويلات المصرفية لم تعد ممكنة، كان بالإمكان القول إن حليف الوعي في لبنان هو الأزمة الاقتصادية والانهيار، لكن لسوء الحظ، ظهرَ أن هذا أيضاً غير كاف… لماذا؟ لأن الانهيار بدل أن يُضعف شبكات الزبائنية التي تستعملها الطبقة السياسية لتسطو على المجتمع، ساعدها، بمعنى أن الناس أصبحوا اليوم – في ظل العوز والحاجة – يلتفتون أكثر إلى الطبقة السياسية ليروا ماذا بإمكانها أن تعطيهم بعد. وبدل أن يثوروا، يعودون إلى إحياء هذه الطبقة التي لُفظت في البداية. أيضاً العودة إلى تسمية سعد الحريري واعتبار بعض الناس الذين كانوا ناقمين على النظام السياسي أن ما قاموا به يعتبر انتصاراً، هي برهان على إفلاس هذه الموجة التغييرية. هذا لا يعني أن الحراك انتهى ولكن يجب أن يُعيد اختراع وتنظيم نفسه.
جواباً على سؤالك، اللبنانيون يعيشون حالة إنكار وهذا الأمر واضح. من جهة، الطبقة السياسية عاشت لفترة قصيرة بحالة وعي، تملَّكها الخوف على نفسها، لكنها عادت وفهمت أين مكامن خلل الخصم ومكامن قوّتها واستعملتها لآخر مدى. ومن جهة ثانية، حالة الإنكار عند الناس ما زالت موجودة. جزء من اللبنانيين يقول إننا نتألم اليوم، ولكن بعد شهرين ستحدث تسوية إقليمية ونرتاح وتأتي الأموال، وكأن الأموال ستمطر مباشرة بعد التسوية الإقليمية، أو كأن التسوية الإقليمية ستحدث مباشرة بعد الانتخابات. وجزء آخر يقول إنه بعد شهرين أو ثلاثة ستنهار إيران وستصبح البوارج الأمريكية قبالة شواطئنا، و”حزب الله” سيستسلم ونعود إلى تركيب نظام سياسي آخر، وتستتب الأمور فتتدفق أموال الخليج إلى لبنان وأموال اللبنانيين في الخارج تعود. هذا وهم مطلق، وهنا أعود إلى الوهم اللبناني لأقول إن الاثنين يتغاضيان كلياً عن شيء لن تجد له حلاً أي إرادة دولية إذا لم يُحل لبنانياً، وهو حجم الفجوة الاقتصادية – الاجتماعية التي حدثت في البلد، والتي لها علاقة أكيدة بالتطورات الإقليمية، وأيضاً لها علاقة بديناميات محلية. وحتى أقولها بشكل محسوس أكثر: إذا كان صحيحاً أن هناك 60 إلى 80 مليار دولار من الثروة الوطنية تبخّر، أي خسرناه وأنا أعتقد أنه صحيح، فمهما حدث من تغيّرات إقليمية فلن تُغيّر من أن حجم اقتصاد لبنان انتقل من 100 إلى 40، بمعنى أن البالون تقلّص، وهذا لن يعود. ومهما حدث إقليمياً، ولو قلنا إن الأمور تحلحلت وعادت الحركة إلى الدوران، لا يمكننا التغاضي عن أن هناك شيئاً خسره لبنان، وهو كمن بُترت يده أو خسر كُليته، بإمكانه العيش ولكنه سيعيش بعضوٍ ناقصٍ. هذه برأيي هي حالة الإنكار.
– لم تعد هناك إمكانية لأن يعود لبنان إلى ما كان عليه؟
= هناك شيء سياسي وشيء اقتصادي وشيء معنوي وشيء ثقافي، هذه الكيمياء اللبنانية التي كانت موجودة انتهى شيء منها إلى غير رجعة.
– برأيك ألم نمر بمرحلة سابقة كنا نقول فيها الشيء نفسه؟
= صحيح. وقد حدثت تحوّلات في تاريخ لبنان غيّرت وجه البلد. الناس لا تُحب كثيراً سماع هذا الكلام. لنأخذ الواقع الطائفي الجديد، أو الواقع السوسيولوجي في لبنان، هل بإمكاننا اعتبار أن لبنان اليوم يُشبه لبنان الكبير في الـ1920، بتركيبته والسطوة الثقافية والسياسية التي كانت لبعض الطوائف والمجموعات في لبنان؟ لا، وجه البلد تغيَّر. خلال الحرب تغيَّر تدريجياً ولهذا لم نعد نشعر به. طريقة حكم لبنان عشية الحرب الأهلية وما بعد الحرب الأهلية تغيّرت راديكالياً وكذلك طريقة معيشته، ولكن هذا حدث على مدى 20 عاماً، أما الآن فالتغيير يحدث مرة واحدة: الانهيار والمصارف والهجرة، والإقليم. كل هذا يتغيَّر مرة واحدة، وهذه المرَّة بشكل أقوى وأفظع على الناس. هذا الأمر أصبح واضحاً ولا أعتقد – إلا إذا حدثت أعجوبة – أن القطاع المصرفي اللبناني سيعود إلى ما كان عليه بعد الذي أصابه من عطبٍ تقني ومعنوي. المصارف لن تعود مكوناً للحياة الاقتصادية في لبنان.
توجد أسئلة يجب على اللبنانيين أن يطرحوها على أنفسهم بمعزل عن المتغيرات الإقليمية، هل سيبقى لبنان مُصدِّراً لأولاده؟ وأي وظيفة ستكون له… بلد صناعي أم زراعي؟ وهل سيعود بلداً سياحياً؟ هل العالم ما زال مستعداً لاستقبال أولادنا؟ الغرب يتغيَّر واللبنانيون يجب أن يفكروا بهذا الموضوع. ماذا سيفعلون إذا حدثت تسوية كبيرة في المنطقة. إذا حدث تطبيع مع إسرائيل ميناء حيفا وميناء بيروت سيعودان للتنافس، كم تحضَّرنا لهذا الموضوع؟ إذا حدثت تسوية لا أحد سيُقدِّم لنا الهدايا، ويُعطينا الميزة التنافسية لميناء بيروت التي كانت موجودة في ظل الصراع العربي – الإسرائيلي، هذه كلها تغييرات جوهرية تُحتم على اللبنانيين التفكير بخياراتهم المستقبلية، وليس فقط ترقب ما سيحدث في الإقليم حتى نقرر ماذا سنفعل، وماذا نفعل لنكون حاضرين لهذه المنافسة؟
– مَن تقصد؟
= النخب اللبنانية كافة، النخب السياسية الحاكمة، النخب السياسية المعارضة، جزء منها من مسؤولية الحراك والثورة الطامحة للتغيير التي لم أسمع منها شيئاً بهذا الموضوع، النخب الاقتصادية التي ما زالت على فكر كلاسيكي وممل، وكيف نعيد المصارف إلى حركتها، وكيف ننهي الخسارات؟ أنتِ كشخص لديكِ خسارة وستجدين طريقة لسداد ديونكِ ولكن كيف ستُعلّمين أولادك وأين ستسكنين؟ هذه الأشياء بحاجة إلى بحث. كذلك النخب الثقافية والفكرية التي أَنتجتْ في المرحلة السابقة الفكر الذي كان ملازماً لمسيرة النجاح اللبناني في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، هذا انتهى وهذه النخبة الثقافية رحلت. فبماذا تفكر النخبة الثقافية الموجودة اليوم حتى تجد ليس فقط وظيفة اقتصادية للبنان وإنما كرسالة ودور؟ هل بإمكاننا بعد أن نكون أرض التعايش أو المسالمة بين الأديان؟
– أنا سألتك مَن تقصد لأن هناك قناعة بأن فريق من اللبنانيين لديه مشروعه، وآخرون متمسكون بلبنان ولكن يظهرون عاجزين وقاصرين…
= إذا كنتِ تقصدين ما يُمثّله “حزب الله” أكيد لديه مشروع رديف للبنان، ولكن أولاً هذا ليس مشروعاً متكاملاً، إنما مشروع جزئي له علاقة بالممانعة السياسية وربما الأمنية، وربما له علاقة بتصوّر ما، للانحياز إلى بعض المنظومات في المنطقة ضد منظومات أخرى، ولكن هذا لا ينشئ بلدًا بحد ذاته، هذا ملائم لمرحلة معينة ولكن هذا لا يكون جزءاً من هوية بلد، وإنما جزء من مهام آنية. كما أن هذا لا يترجم سياسة اقتصادية ولا يترجم سياسة ثقافية. لنفترض أن هذا عبارة عن مشروع، أين الجانب الاقتصادي منه؟ ربما هو الانفتاح باتجاه الشرق ولكن هذا لا يكفي؟ ماذا يفعل بباقي الأجزاء؟ كيف أتعامل معه؟ وهناك سؤال آخر بمعيار قبولية المشروع في المجتمع اللبناني؟ وماذا يفعل لكي يحوز على الأكثرية؟ وإذا لم يأخذ الأكثرية كيف سيترجم؟ هل بالتسلط؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن تطرح.
من الجانب الآخر هناك تقصير في التفكير المراد. جزء يعيش “نوستالجيا” بأن لبنان القديم ممكن أن يعودَ عندما يتغيَّر الإقليم، وهذه موجودة منذ آخر الحرب في لبنان، وهي على فكرة شاركت وساهمت بإنتاج وفبركة ما سمي وقتها الإحباط المسيحي. لقد ظل المسيحيون يعيشون لمدة عشر سنوات في “الثلاجة” على أمل أن يُرفع الغطاء عن “الطنجرة” فيخرج الموضوع السوري من المعادلة ونعود إلى لبنان الستينيات. هذا لن يعود لأنه تغيّر. جزء يعيش هذه النوستالجيا وجزء يعيش الإمكانية الثانية، بأن تحدث تسوية ويعود الخليجيون إلى إرسال الأموال ونعود نحن للعمل سماسرة لديهم وننظر لما يريده الأمريكيون، بمعنى أنه ليس عندنا رأي حول ماذا سنفعل بأنفسنا.
المشروعان يتناقضان اليوم، أحدهما صاعد، بينما الثاني ما زال يعيش في زمن غابر ولا يُعيد اختراع نفسه. الوضع مؤلم وصعب لأننا عالقون بين نموذج إقليمي – دولي – لبناني انتهى، ونموذج بديل لم يتبلور بعد ومتعثر الولادة وقد طال الوقت. هذا ما تكلم عنه (أنطونيو) غرامشي عن أوروبا في العام 1940. هناك عالم يموت وعالم آخر عصيّ على الولادة، وبينهما شيء مُخيف. نحن نعيش في هذا الشيء المخيف، حيث الخيالات مسموحة، وتكثر النظريات الواقعية وغير الواقعية التي فيها بعض الحقيقة لكن لا أحد يستطيع حسم النتيجة.
برأيي هذا الأمر ليس سلبياً بالمطلق، هناك شيء إيجابي، بمعنى أنه طالما هناك وقت ضائع في المنطقة والعالم، وطالما أننا في “القعر” ولدينا هذه التخمة من المشاريع، إذن دعونا نتحاور حول مستقبلنا، لكن هذا الحوار يجب أن يتمَّ على وقع المساواة. البعض يرى أن هذا الأمر صعب راهناً بوجود مشروع قادر على فرض نفسه على الآخرين لأنه يملك أدوات السلطة، لكن ذلك وإنْ حصل لا يعطيه الشرعية كونه لا يملك القدرة على إقناع الجميع بقيمة مشروعه.
– لكن هناك نظرية أخرى تقول إنه حتى يستطيع “حزب الله” فرض مشروعه، تمَّت رشوة هذه الطبقة السياسية بالفساد الذي نشهد ارتداداته… (مقاطعاً)
= هناك إفساد حصل للآخرين شرط السماح لمشروعه بإكمال مسيرته، لكن هذا لم يحظ بالانسيابية في المجتمع. وأنا برأيي هذا من أسباب القلق الكبيرة المفروض أن تكون لدى “حزب الله”، وهي تختلف عمّا كان يجري في التسعينيات، بمعنى أن “حزب الله” اليوم يطل على مجتمع ممانع بشكل كبير لمشروعه، بشكل أكبر مما كان يعتقد. اليوم استدرك الأمر واستدرك أنه يوجد فريق كامل يرفض هذا المشروع. من المؤكد أنه يفكر بطرق بديلة، والانهيار الاقتصادي عامل مساعد آخر في دكّ مشروع “الحزب”. فليس بإمكانه عزل نفسه عن هذا الانهيار الذي يحدث اليوم. هو مأزوم كما القوى الأخرى، إنما الفرق أن أزمته أقل من أزمتهم لأنه ليس طرفاً لبنانياً بالكامل، ولأنه طرف كان في مرحلة الصعود وربما الآن توقف صعوده. ومن هنا جاء القول للأمريكيين إنه إذا كان رهانكم أن الجوع في لبنان سيؤدي إلى انهيار “حزب الله”، فإن لبنان سينهار قبل “الحزب”.
– الرأي المقابل يقول إنه لولا هذا الضغط على لبنان لما تكوَّن الوعي اللبناني بخطورة مشروع “حزب الله”؟
= صحيح، لكنه لا يُغيِّر في الصورة العامة، سيُغيِّر عند الناس الذين كان عندهم وهمٌ أن “الحزب” لديه مشروع، اليوم يقولون إن هذا المشروع قائم على تجويعنا.
– لا حلول سريعة والوقت قاتل بالنسبة للبنان وكأن لا خيارات أمامه سوى الانهيار، هل يمكن أن يخلق ذلك شيئاً غير متوقع؟
= غير المتوقع هو انفجار العنف الذي سيُدخلنا إلى مكان آخر. وماذا يمكن أن يُخلّف الانهيار غير مزيد من الوجع واحتمال العنف؟ هل سيولّد نظاماً جديداً؟ لا… لأنه لا يقوم نظامٌ على وقع الانهيار.
* كاتبة صحفية لبنانية
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.