علي محمد فخرو *
تقيّم كل فترة تاريخية من حياة الأمم، لا بالأحداث التي حدثت إبان تلك الفترة فقط، وإنما أيضا بقيم الفضائل أو الرذائل التي كانت وراء تلك الأحداث أو التي حكمتها. ذلك أنه بالنسبة للكثيرين من الفلاسفة، اعتبرت الفضيلة، قوة وإرادة تحدد مقدار إنسانية الإنسان، وبالتالي مقدار إنسانية المجتمعات، والعكس يقال بالنسبة للرذيلة.
مناسبة إثارة هذا الموضوع هي التحولات المقلقة التي تطال الفكر والسلوك والقيم الأخلاقية، في بعض أجزاء الوطن العربي، سواء في تعبيرات ومواقف بعض الأفراد، أو في تصرفات وقرارات بعض المؤسسات الرسمية.
ولعل أكبر وأعمق وأفدح تحول، هو ما أصاب فضيلة الوفاء، أو الإخلاص لتعهدات والتزامات، ومواقف وأفكار سابقة. ونحن هنا نتحدث عن الإخلاص النبيل المحب الملتزم، وليس الإخلاص المظهري الكاذب. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل نحن أمام إشكالية ضعف، في تذكر أقوال ومواقف والتزامات الماضي، وهو ما يمكن حدوثه عند الأفراد، بسبب المرض أو الخرف أو الجنون؟ أم أننا أمام إشكالية تراجع في حساسية ونبل أخلاقيات ضمير الإنسان، الذي ما عاد يحكم تصرفات بعض الأفراد أو بعض المؤسسات؟ وهنا، هل نحن أمام ظاهرة وصفها الفيلسوف الألماني نيتشه «بأن الكذب الأكثر انتشارا هو الكذب على النفس»؟ وفي هذه الحالة «فإننا نهدد أسس كل الفضائل، وهو التوقف عن الكذب» كما قال الكاتب والشاعر الإنكليزي توماس هاردي. نحن بالطبع لسنا ضد تغيير الأفكار والقناعات والالتزامات السابقة بسبب تغير حقائق الواقع والظروف المستجدة، ولكن هل يستطيع أحد إقناعنا بأن هناك أسبابا حقيقية موضوعية مقنعة في الواقع العربي تحتم عدم الإخلاص لكل مكونات الماضي البعيد والقريب؟
هل حقا أن هناك أسبابا موجبة للانقلاب على هوية العروبة الجامعة، التي تمتد قرونا في تاريخ العرب الطويل، والتي أوجدت تاريخا مشتركا، ولغة واحدة، وثقافة فكرية وأدبية واحدة، وسلوكا اجتماعيا واحدا، وإلى حد كبير دينا واحدا يقبله الجميع كمكون أساسي في ثقافة الأمة؟ هل حقا أن هناك أسبابا جدّت لانغماس الشعوب في لعبة فاجرة، تقودها قوى خارجية استعمارية متعددة، من أجل إدخال الشعوب في صراعات عبثية، ومناكفات مخجلة، وغمز ولمز بذيئين، واتهامات ملفقة، وتناس لتعاضد أخوى عبر القرون، وجعل بلادات وجهالات شبكات التواصل الاجتماعي هي الحاكمة للمشاعر وللأقوال؟ هل حقا أن هناك أسبابا موجبة لقراءة كل حدث صغير في أي بقعة عربية، يقوم به جاهل أو غاضب أو يائس، جعله أساسا لعلاقة هذا الشعب العربي بذاك الشعب العربي الآخر. ألا يرى الإنسان العربي العادي أن وراء كل ضجة حول كل حدث تافه صغير، استخبارات أجنبية أو جهات داخلية تعيش على استعمال الدين، والعرق والجنس والمذهب، والجهة الجغرافية، وأخطاء التاريخ بصور انتهازية، من أجل تغطية هذه الخيانة أو تلك؟
كل ذلك، وأكثر من ذلك بكثير لا يفسره إلا التراجع المذهل في فضيلة الوفاء والإخلاص، إما بسبب الهجمة المركزة على إضعاف ذاكرة الأمة والأفراد، وبالتالي نسف وتدمير ما قاله أيضا نيتشه «من ضرورة أن نكون وارثين لقيم الأخلاق في الأزمنة الماضية حتى لا نبدأ من الصفر» أو بسبب نجاح ثقافة عولمية مسطحة نجحت في ترسيخ فردية ذاتية منغلقة مجنونة في الإنسان العربي. والنتيجة وصول الأفراد والمجتمعات إلى تبني رذيلة عدم الإخلاص والوفاء لكل قيمة اجتماعية إنسانية نشأوا عليها وشربوا من حليبها طيلة حياتهم السابقة، واليوم ينسونها.
ما يحتاج شباب وشابات هذه الأمة أن يعوه ويحكموا حياتهم به ويتذكروه دوما، هو أن أفظع جرائم العصر ارتكبت باسم مستقبل كاذب متوهم. هكذا نجح أمثال هتلر وستالين عندما أمّلوا ابناءهم بمستقبل أنساهم ماضيهم وحاضرهم. اليوم، هذا بالضبط ما تقوم به جهات خارجية وداخلية، إقناع هذه الأمة بالانقلاب على كل ثوابت الماضي والحاضر، وذلك من أجل الانخراط في لعبة مسامحة المجرمين على حساب الضحايا العرب، بل نسيان ما ارتكب وما يرتكب من جرائم بحق إخوانهم العرب، من خلال تدمير فضيلة الوفاء والإخلاص للمبادئ والثوابت والقيم الأخلاقية التي إن ماتت فان كل الفضائل الأخرى ستموت معها.
* كاتب بحريني
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.