عمار ديوب *
تطمح إسرائيل، بتحالفها مع الإمارات والبحرين، أخيرا، إلى “إعادة تشكيل وعي المنطقة وثقافتها، وبما يسمح بدمج إسرائيل فيه”؛ والسؤال: هل اندمجت إسرائيل مع مصر والأردن وفلسطين؟ كانت الاتفاقات السابقة، اتفاقات أنظمةٍ، ولصالح تعزيز سيطرتها، ولصالح إسرائيل، ولم تعد بأية فائدةٍ على الشعب المصري وبقية الشعوب، ولم تتشكل أية علاقات مجتمعية وثقافية وسواه، ذات اعتبارٍ. ومصر أصبحت تُصدر الغاز إلى إسرائيل بعد أن كان يحصل العكس! والأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967 لم تقم عليها دولة فلسطينية، وليس حال الأردن بأفضل. دولة كالإمارات تقود، منذ بعض السنوات، الثورة المضادة ضد كل ما هو تقدّمي وثوري وديمقراطي في المنطقة. وبالطبع، ليس من عاقلٍ سيصدق أنها تقيم تحالفاً مع إسرائيل لمعاداة إيران! الإمارات، وبسبب خطورة أدوارها في سورية وليبيا واليمن ومصر، تتحول إلى دولة مرفوضة من أغلبية العرب، وربما من دول المنطقة، كتركيا وإيران، وبالتالي يصبح تحالفها مع إسرائيل بحكم الضرورة. أما ثرثراتها عن التصدّي لإيران أو نفاد أسباب مقاومة إسرائيل وتغيّر الأحوال فهو الكذب بعينه؛ فليس من حدودٍ لها مع فلسطين، ولم تخض أية حروب مع إسرائيل، وتنسق من قبل معها. فما هو الجديد حتى تنتقل إلى التحالف الكامل؟ وطبعاً لا يشكل التطبيع البحريني أية قيمة إضافية، فالبحرين مملكة هامشية بامتياز خاضعة للنفوذ السعودي بالكامل.
بعد أن فشلت “صفقة القرن”، كان لا بد من صفقةٍ جديدة، فهي سبيل كل من ترامب ونتنياهو لإعادة التجديد لهما في الانتخابات المقبلة، والقضية ليست مواجهة إيران إذاً. القضية هنا تكمن، وكذلك في شعور كل من الإمارات والبحرين، ومعهما السعودية، بالعزلة عن الأغلبية العربية. سهولة إجراء التحالف بين الدول الثلاث أعلاه مرتبط بتراجع كل من مصر وسورية والعراق؛ إن مصر العظيمة، تركع مع وصول عبد الفتاح السيسي لأنظمة الإمارات والسعودية وإسرائيل، وبالتالي أن تتصدّر الإمارات المشهد، وهي الضعيفة، فهذا من أسباب التحالف والانهيار العربي.
أطلقت الأنظمة العربية، في العام 2002 مبادرة للسلام، وكانت بحدودٍ معينة، تنطلق من المسلمات العربية، وكانت حلاً للعلاقات بين إسرائيل العالم العربي، وجوهرها الأرض مقابل السلام، وقد رفضتها إسرائيل، وحينها كان لمصر والعراق وسورية وزن إقليمي كبير، ولكن ذلك كله اندثر مع صعود الإمارات. السعودية التي كان يمكن أن تضع حدّاً للإمارات تدهورت أوضاع السياسة فيها، سيما مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان فيها، وقد صار ملحقاً بولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. السعودية لم تطبع مع إسرائيل، ولكن الإمارات والبحرين لم يكن بمقدورهما فعل ذلك لولا الموافقة السعودية التي فتحت مجالها الجوي لإسرائيل. يحق للسعودية أن تخشى التطبيع، نظراً لمكانتها الدينية، ولأزمة الحكم، المعقدة، والتي لم تُحلّ بعد.
التطبيعان، السابق والجديد، لن ينقلا العلاقات بين العرب والصهاينة إلى علاقات طبيعيّة. وإذا كانت القيادة الصهيونية تعلم ذلك، فإن القيادة الصاعدة للعرب مُلحقة بإسرائيل، وهذا مما يؤسس لمستقبلٍ سيئ للمنطقة وللشعوب العربية، حيث سيستهدف التحالف الجديد المصالح العربية وفلسطين، وسيسمح لإسرائيل بالتدخل في ليبيا واليمن وسورية وسواها، وهذا ما تفعله الإمارات؛ وهذا من الأحلام الكبرى لإسرائيل، وها هو القائد الفذ محمد بن زايد يحققه لها، ومن دون أيِّ ثمنٍ يذكر، ولو كان تافهاً.
وجد التحالف المذكور أعلاه تأييداً، من خلال عدم رفض جامعة الدول العربية له، وكذلك من خلال إفساح السعودية للطائرات الإسرائيلية المرور في أجوائها، وأيضاً من خلال صمت دعاة المقاومة، وكأنّ الجميع بات مؤيداً لهذا التطبيع والتحالف، ويستنجد به، ويتلهف له كمحبوبٍ طال انتظاره!
خلفية مشهد التطبيع الجديد أن الدول العربية فاشلة بامتياز، وتحاصرها بقوّةٍ كل من إيران وتركيا، وهناك ضعف في السياسة الأميركية الحامية لهم، إضافة إلى التدخل الروسي الفظ في المنطقة. وبالتالي، لم يجدوا عوناً إلا بإقامة العلاقات التطبيعية مع الكيان الإستعماري. ستكون مشكلة هذه التطبيعات أنها بلا فائدة للعرب، وهذا سيعني أنها ستكون مرفوضة شعبياً. وسيكون الرفض واسعاً، سيما أن الإمارات من الدول التي تدير ظهرها كليّا للشؤون العربية، وتستفيد من الأزمات العميقة في بعضها لتتدخل، وتخرّب الدواخل العربية، وهي سياسة إسرائيلية بامتياز، وهذا يتوافق مع سياسات عالمية استشراقية لمنطقتنا! الأنكى أن تجد بعض المعارضات هنا وهناك أن تحالفها مع إسرائيل سيخلصها من المقاومة والنظام السوري وبعض الأنظمة العربية المستقلة، وهذا تفكير قاصر بامتياز، فمصلحة إسرائيل فقط مع الاستبداد والعائلية العربية السلطوية. ومن دون ذلك، ستكون إسرائيل بوضعية معقدة للغاية، وبالطبع ستدق رياح التغيير العربي الإمارات ذاتها. ولهذا يحاول بعض حكام هذه الدولة دعم الثورات المضادّة، والتحالف مع إسرائيل، وتوريط دول عربية أخرى في التطبيع، كالسودان والمغرب وسلطنة عُمان وسواها.
لن يكون للتحالف الجديد مستقبل حقيقي في منطقتنا، ولن تتغير الهوية أو الثقافة العربية، ولن تستوعب إسرائيل؛ ربما فقط سيكون ممكناً في إطار دولة عربية فلسطينية، تشملهم، وتعترف بحقوقهم المواطنية، وربما سيكون لتراجع إسرائيل عن سياساتها الصهيونية وتبنّيها حل الدولتين، والعودة إلى اتفاقيات أوسلو والاعتراف بدولة فلسطينية حقيقية على أراضي 1967، ما قد يسمح بثقافة عربية تستوعب اليهود القادمين من الخارج في فلسطين. من دون حصول ما ذكرت، لن يكتب لهذه التحالفات أي نجاح مستقبلي، وستكون بمثابة تفجير للحروب الأهلية في الدواخل العربية، وهذه قضية خطيرة، حيث ليس هناك سياسات عقلانية لدى الأنظمة العربية.
نعم إن الأرض مفروشة لإسرائيل، بعد تشويه الأنظمة العربية للقضايا القومية والوطنية، وبعد فشل المعارضات في صياغة رؤية عربية قومية ووطنية محلية، تُشبِك بين النضال القومي والوطني في آن واحد، وهذه واحدة من القضايا التي أضعفت الثورات العربية ذاتها، والتي وجدت “بضاعة” المعارضات العربية محدّدة في الديمقراطية فقط، وإقامة علاقات مفتوحة مع كل دول العالم، وبعضها “المعارضات”، مع إسرائيل، بحجة “الملل” من مقاومة إسرائيل وتحييدها، وتحفيزها لمعاداة كل من تركيا وإيران وأنظمة الاستبداد، وبالتالي يكون الانتقال العربي انتقالاً نحو الديمقراطية وسلاماً مع إسرائيل. التخلص من هذه الأوهام الكارثية أحد الشروط الأولية لاستعادة الشعوب العربية إرادتها، حيث إن أنظمة عربية متحالفة، سراً أوعلناً، مع إسرائيل، والآن ينتقل بعضها إلى العلنية، وهذا يتطلب تعاوناً عربياً وفلسطينياً واسعاً.
التحالف الجديد خطير، ولكنه لن يكون مقبولاً من شعوب المنطقة، وهناك أخبار تؤكد رفض بعض حكام الإمارات ذلك التحالف. الإمارات تعي ذلك، ولهذا تنطلق بمثابرةٍ “غبية”، نحو إسرائيل. والأخيرة تحاول الاستفادة من الشروط التاريخية الجديدة، كما أوضحتها السطور أعلاه. وبالتالي، هل تعي شعوب المنطقة هذا الخطر، وتنجز أشكالاً جديدة من التنسيق والتشارك، وبما يوضح طبيعة إسرائيل الصهيونية، وعزلها مجدداً، وإيقاف سياسات التطييف؟ نعم، هناك ضرورة لإطلاق مقاومةٍ جديدة، تستنهض شعوب المنطقة بكليتها، ولا تعادي بعضها بعضاً، ولا تقوم على أسسٍ طائفية أو عشائرية أو قومية تعصبية أو تسلطية.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.