سامي مروان مبيض *
في حي الصالحية الدمشقي في مطلع عشرينيات القرن المنصرم، كان هناك دكان سمانة يجلس فيه رجل أنيق ووقور، يناديه الناس بلقب “عطوفة الباشا” من لا يعرف صاحب الدكان يعتقد أن هذا اللقب جاء من باب التفخيم الإجتماعي، ولكن إذا نظرنا إلى هويته نجد أنه كان باشا عن حق وحقيق وأمير لواء سابق في الجيش العثماني، إضافة لكونه أول وزير حربية في سورية، اسمه عبد الحميد القلطقجي.
لا نعرف سبب تحول هذا الرجل من ضابط ووزير إلى صاحب دكان، ولكن الأرجح هو ما أشيع في يومها، عن أنه رفض تقاضي راتب خدمة من الفرنسيين، وقرر إيجاد مصدر رزق للعيش الكريم، دون مد يده لأحد. وظلت هذه القصة مجهولة تماماً حتى روتها السيدة نزيهة الحمصي في مذكراتها، وهي زوجة أكرم الحوراني وابنة الرجل الذي قام بتأجير الدكان إلى القلطقجي باشا. الغريب أن كتب التاريخ السوري تجاهلت هذا الرجل بشكل كامل، ولا يوجد أي ذكر له إلا في قائمة أسماء الورزاء في عهد الملك فيصل الأول.
لقب “الباشا” ونشاطه السياسي:
ولد القلطقجي باشا في دمشق سنة 1876، وهو حفيد أحد آغوات الشام، عرابي القلطقجي، الذي شارك بثورة على الوالي العثماني سنة 1831. بعد تخرجه من المدرسة الحربية في اسطنول، انتسب القلطقجي إلى الجيش العثماني ووصل إلى رتبة أمير لواء، كما نال لقب “الباشا” عسكرياً. انضم سراً إلى الجمعية العربية الفتاة، وتعاون مع الشريف حسين بن علي في الثورة العربية الكبرى سنة 1916، حيث كان يهرّب المجاهدين والسلاح إلى الصحراء العربية. تم إعتقاله في سجن خان باشا بدمشق حيث تعرض لتعذيب شديد للكشف عن أسماء رفاقه في الحركة الوطنية ولكنه رفض التعاون وظّل سجيناً حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
بايع عبد الحميد القلطقجي الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية في 3 تشرين الأول 1918، وانضم إلى الجيش العربي الذي أُسس بعد انسحاب القوات العثمانية. عينه فيصل حاكماً عسكرياً على حلب، خلفاً للجنرال العراقي جعفر باشا العسكري، وقد وصفته إحدى التقارير البريطانية بأنه “حاد الذكاء”. شارك القلطقجي في مراسيم تتويج الأمير فيصل ملكاً على البلاد يوم 8 أذار 1920. وبعدها بيوم واحد عُين وزيراً للحربية في حكومة علي رضا الركابي. وبذلك يعتبر القلطقجي أول وزير دفاع في تاريخ سورية، لأن المنصب لم يكن موجوداً قبل ذلك التاريخ، حيث كان الركابي نفسه يُشرف على شؤون الدفاع، بصفته حاكماً عسكرياً على البلاد. عَمَل القلطقجي مع رئيس الأركان ياسين باشا الهاشمي على إنشاء الجيش السوري وتعريب كافة رتبه العسكرية، ولكنه سُرّح من منصبه بعد أقل من شهرين، عندما تم تشكيل حكومة حرب لمواجهة الزحف الفرنسي تجاه مدينة دمشق، والتي ذهبت حقيبة الحربية فيها للضابط الشاب يوسف العظمة، أحد طلاب القلطقجي.
إبعاده عن معركة ميسلون:
كان القلطقجي معارضاً لقرار دخول الحرب مع فرنسا، خوفاً على الجيش السوري من الهلاك. وبذلك، تم استبعاده من المجلس العسكري الذي شُكل في دمشق للإشراف على معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920، التي سقط فيها يوسف العظمة شهيداً وخُلع من بعدها الملك فيصل عن عرش الشام، ليتم استبدال عهده القصير بنظام الانتداب الفرنسي الذي دام حتى سنة 1946. قسمت سورية في عهد الانتداب إلى دويلات، وشُكل مجلس تمثيلي لكل دويلة، انتخب فيه عبد الحميد قلطقجي نائباً عن دمشق في مجلسها المحلي، الذي ذهبت رئاسته لبديع مؤيد العظم، رئيس مجلس الشورى الأسبق. وتوفي عبد الحميد القلطقجي في مطلع العام 1925 وجرت انتخابات تكميلية لملء مقعده الشاغر في مجلس دمشق النيابي، التي فاز فيها الوجيه أحمد مختار الشريف، خلفاً للقلطقجي. هذا وقد دَرَس ابنه صلاح الصيدلة في الهند وعمل مُدير للصيدلية السلطانية في البصرة، وهي أول صيدلية حديثة في بلاد الرافدين، كانت مُلكاً لوالد زوجته، الصيدلاني العراقي عزيز اجزاجي.
كيف يسقط رجل كامل من تاريخ الكتب؟
جمعت هذه المعلومات البسيطة من بعض المصادر مثل مذكرات الطبيب أحمد قدري والرئيس فارس الخوري، اللذين كانا في زنزانة مجاورة لغرفة القلطقجي، ومذكرات بدر الدين الشلاح، الذي كان القلطقجي قد حضر حفل زفافه لكونه صديقاً لوالده. ولكن وباستثناء هذه الكتب، ومذكرات نزيهة الحمصي طبعاً، فلا ذكر للقلطقجي في سجلات وزارة الدفاع، أو في محاضر مجلس النواب أو في كتب التاريخ المدرسية. ولا نملك إلا صورة واحدة للرجل فقط لا غير، مرفقة مع هذا المقال ومأخوذة من سجلات العهد الفيصلي. وهنا يكمل السؤال: كيف يسقط رجل كامل من كتب التاريخ؟ رجل فعّال، من لحم ودم، تبوأ أرفع المناصب وعاصر أحداث مفصلية في تاريخ المنطقة…كيف يمكن لبلد مثل سورية أن ينساه وهو أحد مؤسسي جيشها الوطني؟.
* كاتب ومؤرخ سوري؛ رئيس مجلس أمناء مؤسسة تاريخ دمشق
المصدر: رصيف 22
التعليقات مغلقة.