طلال المصطفى *
تفيد المعلومات الأولية عن مرحلة العبودية، تاريخيًا، أن العبيد كانوا يعملون لدى أسيادهم مقابل إطعامهم، وبالتحليل الماركسي، كان الأسياد يقدّمون الطعام لهم من أجل تجديد قوة عملهم، بينما تُظهر التقارير الأولية في سورية أن النظام السوري لم يعد يوفّر للسوريين الطعام من أجل تجديد قوة عملهم، للاستمرار في الحياة والعمل، أو للدفاع (التشبيح) عنه لدى البعض الآخر، حيث اضطر أحد السوريين حديثًا إلى بيع كليته لكي يسدد ديونه ويطعم أسرته، أي ظهر ما يسمى “عبودية الديون”، كما جاء في صحيفة (البعث) الناطقة باسم النظام السوري.
استنادًا إلى التقارير الميدانية عن الحالة السورية، يمكن الحديث عن مؤشرات جديدة لظهور عبودية جديدة لم يشهد التاريخ مثلها، بالاستناد إلى تعريف العبودية، من حيث الاستغلال والتسخير وقمع إرادة الآخر والتحكم في سلوكه وحريته وقواه البدنية والعقلية بشكل لا إنساني.
تتجسد العبودية السورية الجديدة في بعض المؤشرات الآتية:
1- مؤشر الاتجار بالبشر، الأطفال والنساء والرجال، وذلك لاستخدامهم في مختلف الأغراض الجنسية أو الأعمال الشاقة أو الأعمال المنزلية، أو في عمليات سرقة الأعضاء، نتيجة الفقر المدقع في سورية، حيث وصلت نسبة الفقر إلى 93 % من السوريين، بينهم نحو 60 % في حالة فقرٍ مدقع غير قادرين على تأمين الحدود الدنيا من الطعام للفرد الواحد، فكيف إذا كان مسؤولًا عن أسرة! وهو ما يشكل كارثة للأمن الغذائي في سورية.
2- ظاهرة التشرد بالآلاف في الشوارع والحدائق للأطفال وللكبار، وقد لجأ بعض السوريين إلى السكن في أبنية غير منجزة، بدون خدمات الماء والكهرباء. وفي أحسن الأحوال، السكن في غرفة واحدة لعائلة بأكملها تجنبًا للتشرد.
3- ظاهرة التسول في المدن السورية، حيث يدور حديث عن آلاف المتسولين، وعن وجود شبكات تدير بعض مجموعات المتسولين التي عادة ما تكون من المتنفذين في الأمن السوري، من خلال استغلال الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتهالكة لبعض السوريين، وخصوصًا بين الأطفال. ومن الأشكال الجديدة لظاهرة التسوّل، كتعبير عن العبودية السورية، مسحُ زجاج السيارات الواقفة على إشارات المرور، أو بيع الدور في طوابير الخبز والغاز والمحروقات وغيره، وخدمة دفع الفواتير نيابة عن أصحابها، وشراء الخبز وبيعه على الطرقات، وبيع الدخان للسيارات، وتقديم خدمات هامشية للسكان في المباني، كحمل الأغراض أو إيصالها وخدمة التسوق لسكان البناء، وخدمة تجهيز الخضار ومكونات الطبخ وتجهيز مكونات المونة، وغيرها من الأعمال البسيطة التي تحمي أصحابها من ذلّ التسول المباشر.
4- بروز ظواهر جديدة تتعلق بالزواج، حيث أدت سنوات الحرب السورية إلى تغيرات اجتماعية ثقافية واضحة في ظاهرة الزواج، كالزواج المبكر للفتاة (زواج القاصرات)، وتأخر سن الزواج (العنوسة)، والزواج العرفي (غير مسجل قانونيًا)، والزواج من أجانب… الخ. وأشارت بعض التقارير إلى أن نسبة 60 في المئة من حالات الزواج غير المسجلة في المحاكم عُقدت على قاصرات.
5- انتشار ظاهرة رمي الأطفال حديثي الولادة والتخلّي عنهم من قبل عائلاتهم، في مناطق عدّة من سورية، حيث تعدّ قضية مجهولي النسب أحد مؤشرات العبودية الجديدة، في ظل انعدام مؤسسات الرعاية اللازمة لهؤلاء الأطفال، إضافة إلى الفقر والتهميش وانعدام فرص التعليم والعمل، حيث تتحدد مسارات الحياة لدى معظم هؤلاء باتجاه الانحرافات والجرائم المنظمة التي تهدد المجتمع السوري.
6- إقحام الأطفال في الحرب السورية بطرق مختلفة، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية، حيث مورست بحقهم أبشع الانتهاكات والعنف في أردأ صورها.
7– من لم ينخرط في الحرب من الأطفال، وجد نفسه في سوق العمل مبكرًا، نتيجة حاجة الأسرة إلى المال بسبب غلاء الأسعار الكبير الذي تشهده سورية، حيث يدفع ذلك الأمر ربّ الأسرة الفقيرة إلى تشغيل أولاده ليسهموا معه في تأمين لقمة العيش. وبعض الأسر السورية فقدت الأب المعيل، بسبب القصف الذي طال معظم المناطق السورية، فبقيت الأم مع أطفالها اليتامى تعاني الأمرّين، وهو ما دفع الأم إلى ممارسة بعض الأعمال التي غالبًا ما تكون في المنزل، في حين يساعدها أطفالها الصغار ويعملون لتأمين شيء من الدخل لتأمين الخبز اليومي للعائلة.
8- مؤشر الاغتصاب والعنف الجنسي، الذي ارتُكب ضد النساء والفتيات في أثناء مداهمات المنازل، وكذلك في المعتقلات والسجون التابعة للنظام السوري.
9- انتشار ظاهرة الدعارة في المدن السورية، وخاصة دمشق، حيث تضاعفت ظاهرة الدعارة في سنوات الحرب السورية، بشكل كثيف جدًا، وخاصة في الملاهي والمراقص، وقد تحوّل سفح جبل قاسيون من رمز وطني دمشقي إلى رمز لبيوت الدعارة. إضافة إلى دور الميليشيات الإيرانية في الترويج لظاهرة الدعارة في المجتمع السوري، تحت مسمى “زواج المتعة”، ومن المعروف أن الإيرانيين اشتروا معظم الفنادق المحيطة بساحة المرجة، وهي معروفة بنشاطها في ممارسة الدعارة.
أغلب النساء اللواتي يمارسن الجنس مقابل المال هنّ من العاطلات عن العمل، حيث اضطرت كثير من الفتيات اللواتي قُتل أفراد أسرهن وبتن وحيدات، إلى العمل في الدعارة، وبعضهن تعرضّ للاغتصاب في أماكن عدة، في أثناء هروبهن من مكان إلى آخر.
10- تردي الخدمات الصحية والطبية، حيث اشتدت الحاجة إلى الإنفاق على الطبابة والرعاية الصحية من الجيب الخاص، ومع انحدار المجتمع السوري بغالبيته إلى الفقر المدقع، وانخفاض متوسطات الأجور العامة إلى أدنى من 20 دولار شهريًا، تحوّلت الخدمات الطبية إلى كارثة فعلية، لا يستطيع تحمل كلفتها سوى قليل من السوريين. حيث اضطر العديد من الفقراء إلى بيع ممتلكاتهم لتسديد فاتورة التداوي الطبية.
في المقابل، أظهر وباء كورونا الجديد مستوى الفقر الشديد الذي وصل إليه السوريون، حيث ظهر العجز التام عن شراء أدنى وسائل الوقاية المتبعة عالميًا، من الكمامة إلى المعقمات، وفشلت عملية التقيد بتعليمات التباعد الاجتماعي، بفعل طوابير الخبز والغاز التي تحتاج إلى ساعات انتظار طويلة، فضلًا عن التدافع، للحصول عليها، وغير ذلك من الحاجات المرتبطة بتأمين لقمة الطعام اليومية.
11- والمؤشر الأكثر خطورة في العبودية السورية هو ظاهرة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي التي مارسها النظام السوري وحلفاؤه من الميليشيات الشيعية الإيرانية واللبنانية على الشعب السوري، حيث تم تهجير نصف السوريين تقريبًا، وهي جريمة ضد الإنسانية، وفقًا لشرعة حقوق الإنسان.
12- المؤشر الأخطر في هذه العبودية السورية هو تجارة الاعتقال السياسي للسوريين، وخاصة النساء، فعند إلقاء القبض على الشخص المطلوب من قبل أجهزة أمن النظام، يبدأ ابتزاز أهله عبر سلسلة من الابتزازات المالية، ضمن ظروف مروعة يعيشها المعتقَل، وحالة قلق شديدة من قبل أهله على مصيره، وتبدأ المساومات وعمليات الاستنزاف المالي الطويل، مقابل معلومات ووعود، لا يمكن لأهل المعتقل التثبت من صدقيتها، كما لا يمكنهم استرداد المبالغ عند التأكد من عدم صحتها.
13- وهناك أيضًا ظاهرة الانتساب إلى حزب البعث وملحقاته النقابية والمهنية، لاتقاء شرّ الأجهزة الأمنية، وكذلك ظاهرة التشيّع المذهبي التي تُعدّ مؤشرًا على العبودية الجديدة في سورية، كونها تتم نتيجة الحاجة المعيشية (تقديم الطعام وفرصة العمل) أو الأمان والحماية من الاعتقال.
14- الظاهرة الأخطر في العبودية السورية هي العبودية الطوعية، التي تُلحظ لدى بعض السوريين في اتخاذ قرار عبوديتهم بمحض إرادتهم، حيث يتطوعون لخدمة سيّدهم رأس النظام السوري، ويرفعون العبارة السائدة لديهم: “نموت فداء لحذائه”، وفعلًا مات مئات الآلاف من أجله، حيث يظهر التماهي معه استنادًا إلى وهمهم بالمشاركة في السلطة، أما على أرض الواقع، فهم يعاملون على أنهم الشريحة الاجتماعية الأدنى في سلّم العبودية السورية.
أخيرًا، يقول سارتر -بالمعنى- إن الإنسان لا يمكن أن يكون حرًا وعبدًا في الوقت نفسه، فعليه الاختيار بين الحرية الدائمة، التي انتصر لها السوريون في ثورة 2011، والعبودية التي مارسها النظام السوري بحق السوريين.
* كاتب وباحث أكاديمي سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.