كمال عبد اللطيف *
أولا، يقدّم الكتاب التكريمي الذي أصدره المجلس الوطني لحقوق الإنسان (في المغرب) “عبد الرحمن اليوسفي مسار رجل دولةٍ استثنائي”، تقديراً لمساره السياسي والنضالي (1924 – 2020)، عملاً ثميناً بكل المقاييس. أُعدّ الكتاب بشكل يناسب المقام التاريخي لِرَجُلٍ انخرط في العمل السياسي، المُقَاوِم للاستعمار الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي، وخاض معارك التحرُّر والتقدُّم بعد استقلال المغرب سنة 1956، حيث ساهم مع طلائع التحرير والتقدّم في تأسيس أحد أجنحة اليسار المغربي، حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959، بمعية المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمحجوب بن الصديق والفقيه البصري… لينخرط في معارك مواجهة نظام الحكم الفردي وتمهيد الطريق نحو الديمقراطية. وقد تابع عمله النضالي وساهم، مع مجموعة من رفاقه، في تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في منتصف السبعينيات، رافعاً شعار دمقرطة الدولة والمجتمع، وبناء ثقافة سياسية جديدة ترعى الحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية، حيث تَضَمَّن التقرير الإيديولوجي للاتحاد الاشتراكي سنة 1975 مبادئ العهد الجديد المتمثّلة بإصلاح سياسي يقوم أساساً على الدمقرطة والتنمية والتقدّم، بالصورة التي تعكس، في مضامينها العامة، جوانب من تصوُّرات حركات التحرير العربية للشعارات التي ذكرنا.
عرف المسار السياسي لليوسفي عدَّة تحوّلات، ونفترض أن محطات عديدة لا تزال غامضة داخل هذا المسار. لم يكتب الرجل سيرته الذاتية، وما أصدره قبل سنوات من نصوص بعنوان “أحاديث في ما جرى” (2018)، يشير إلى بعض معاركه السياسية والحقوقية، لكنه لا يغطّي البياضات العديدة التي تملأ مساراته الكفاحية في الداخل والخارج، محاكمات الاتحاديين في الستينيات، نضالاته الحقوقية، ملف المهدي بن بركة .. ولا تقدّم جرداً بسجلِّه الحافل في المقاومة، وكذا صور التنسيق والتعاون التي أقامها مع وطنيي المغرب العربي في كل من تونس والجزائر. وهي لا توضح مختلف الأدوار التي قام بها في التنظيمات المدنية الحقوقية العربية، مثل اتحاد المحامين العرب، وكذا أدواره في التأسيس للوعي بحقوق الإنسان في العالم العربي، وذلك من خلال عمله في المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
ثانيا، يستوعب الكتاب التكريمي شهادات وإضاءات، مداخل وإشارات، تساهم في إبراز جوانب من مسار عبد الرحمن اليوسفي، النضالي الطويل والمتنوِّع، وهو يجمع بين دفتيه ما يقرب من 400 صفحة من الحجم الكبير، إضافة إلى ألبوم من الصور التي توضح مستوياتٍ عديدة من أنماط حضوره وأشكال فعله، بالصورة التي تُقَرِّبُنا من بعض أوجه فعاليته السياسية في التحرّر والتحرير، شهادات تخصّ رفاق دربه في المغرب وفي المشرق العربيين، وفي الأممية الاشتراكية والمنتظم الدولي.
تتوقف بعض الشهادات أمام أدواره في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وتتوقف أخرى أمام كيفيات متابعته ملف اغتيال رفيق دربه، المهدي بن بركة سنة 1965، حيث تَفرَّغ سنوات لمتابعة الملف في فرنسا، في أروقة المحاكم والمنظمات الحقوقية. وتتجه شهاداتٌ أخرى إلى توضيح مواقفه من خيارات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الستينيات، والدور الذي قام به وهو يؤسس ويُدير صحيفة المحرّر ثم التحرير، اللسان الناطق باسم الحزب، وكذا في محاكمات الستينيات، سواء في جبهة الدفاع أو وراء القضبان، حيث يرافع في المحاكمات التي تعرّض لها الاتحاديون في المرحلة المذكورة. كذلك تقدّم شهاداتٌ أخرى جوانب من صور حضوره في الفضاء السياسي المغاربي، مشيرةً إلى العلاقات التي نسج مع قادة الوطنية وجبهة التحرير في الجزائر، وفي باقي بلدان المشرق العربي في العراق وسورية. أما شهادة بعض الأوروبيين عنه، فقد اتجهت إلى الإحاطة ببعض أدواره في المنتظم الدولي، وفي الأممية الاشتراكية، من أجل خدمة القضايا التي كان يؤمن بها.
تلتقي أغلب الشهادات التي يضمها الكتاب في الإشادة بمزايا اليوسفي وخصاله، صمته وابتسامته، عفّته وتَرَفُّعه عن الصغائر، تَذْكُرُ نزاهته ونظافة يده ولسانه، تتحدّث عن غضبه وصمته واستقالته وعودته. وقد أجمع أصحاب هذه الشهادات من رفاق دربه في المغرب وفي العالم العربي، وفي أوروبا وأفريقيا وأميركا، على وسمه بالوطني الكبير والحقوقي الكبير، باعتباره أحد رموز حركة التحرير المغربية. وقد عرف الرجل حياة المنفى، حيث ظلّ في قلب المعترك السياسي المغربي، مكلَّفاً أعمال الدفاع في قضية اغتيال المهدي بن بركة شهيد الحركة الوطنية المغربية. وتوقف بعضهم أمام أدواره بعد أن أصبح وزيراً أول في أول حكومة للتناوب في المغرب سنة 1998، بعد نحو ستة عقود من النضال السياسي داخل المغرب وخارجه، وبعد أربعة عقود من المعارضة الاتحادية بكل ما حملته من آمال وخيبات.
ثالثا، يحتفظ المُحتفَى به في الشهادات المجموعة بعناية عنه، وعن مساره النضالي الطويل والشاق، بجملةٍ من السمات التي استوعبتها أغلب الشهادات بصيغ مختلفة، يتعلق الأمر بدرجةٍ عاليةٍ من الاستقامة والنزاهة النادرتين في الأمس واليوم. إننا أمام رجل مبادئ وقيم. صحيحٌ أن مساره السياسي دفعه، في بعض اللحظات والمواقف، إلى تغيير بعض مبادئه، إلا أن التغيير المذكور لم يُحَوِّل القيم التي كان يؤمن بها، بل ساهم في تطويرها في اتجاه تعزيز الأفق المُوجِّه لخياراته في المقاومة والتحرير والدمقرطة والعدالة الاجتماعية، وقد ظل طوال انخراطه في العمل السياسي ملتزماً هذه القيم، ومحاولاً التفكير فيها في ضوء متغيِّرات التاريخ والعمل السياسي في مجتمعه.
تتحدّث بعض الشهادات عن اليوسفي الذي يتكلم قليلاً ويستمع جيداً، الْحَذِرُ دائماً من كل ما يرى ويسمع. الرجل الذي يلتقط الإشارات، وينطلق دائماً في عمله ونضاله من جدلية الكائن والممكن. كذلك، يتوقف بعضهم أمام صفاتٍ ترتبط بأدواره في المقاومة، وتعكس جوانب من طبيعة المسؤوليات التي قام بها في زمنٍ بمواصفاتٍ تختلف عن مقتضيات العمل السياسي في مراحل لاحقة. ولأن الرجل عرف حياة المنفى، وعرف المحاكمات والتهم التي أُلصقت به وبرفاقه، فانعكست آثار ذلك كله وغيره على مواقفه، وعلى أشكال نظره إلى القضايا التي شغلت مساره السياسي.
عاد إلى المغرب بعد عفو شامل على معتقلين ومنفيين عديدين سنة 1980، وواصل عمله النضالي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وبعد وفاة الكاتب الأول للحزب عبد الرحيم بوعبيد سنة 1992، تقلَّد منصب الكاتب الأول في الحزب، وكان النظام السياسي قد عرف جملة من التحولات المرتبطة، من جهةٍ، بالوضع الداخلي، والمرتبطة، من جهة أخرى، بالمتغيرات الكبرى التي عرفها العالم، ليجد نفسه أمام معطياتٍ سياسيةٍ أخرى في الحزب، وفي النظام السياسي، وفي المجتمع. انخرط في الفعل السياسي المُتمِّم لمشروع بناء مغرب جديد، فانتبه إلى أن سياقات الحاضر وشروطه تنفتح على ممكناتٍ أخرى في الفعل والعمل، سياقات تمهد لمعطيات جديدة في خيارات النظام السياسي، حيث تَمَّ تغيير الدستور سنة 1996، وترتَّب عن انتخابات 1997 انخراط المغرب في ما سُمّي التناوب التوافقي الذي قاده حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فعيَّن الحسن الثاني عبد الرحمن اليوسفي وزيراً أول في الحكومة سنة 1998، ثم توفي سنة 1999، ليخلفه الملك محمد السادس، ويكون عبد الرحمن اليوسفي على رأس قائمة المبايعين له، وذلك ضمن طقس من طقوس النظام الملكي. فهل يمكن اعتبار كل ما حصل من عدالة التاريخ أم من مكره؟
* باحث وكاتب ومحاضر مغربي
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.