مصطفى شاكري *
قال برهان غليون، المفكّر السّوري وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في جامعة “السُّوربون” بباريس، إنه “لا يوجد حل للجائحة، وأثرها على الاقتصاد العالمي، إلا من خلال سياسة مواجهة عالمية، لم تنجح الدول ومنظمة الصحة العالمية في تحقيق التفاهم عليها حتى الآن، لسوء الحظ”.
وأضاف غليون، في حوار أجرته معه جريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الأزمات، خاصة العالمية منها، لا تساعد أبدا على تطوير روح التضامن الإنساني، والدفع في اتجاه عولمة إنسانية جديدة؛ وإنما تدفع، بالعكس، نحو التقوقع والانغلاق على الذات، وتخلق الحاجة إلى المزيد من العنصرية والكراهية”.
وإليكم تفاصيل الحوار:
زَرعت جائحة “كورونا” الخوف في الأفراد عبر العالم؛ الخوف من انتشار العدوى وتوقف الاقتصاد والإنتاج، ما دفع الناس إلى التباعد الجسدي، وأجبرهم على العزلة المنزلية؛ لكن يلاحظ، أيضا، أنه حرّك روح التضامن الاجتماعي. هل يمكن لهذه الروح أن تُؤشّر على تحول اجتماعي قد يتحول إلى فعل سياسي جديد، من شأنه التأثير على أولويات النظام السياسي والاقتصادي في بلدان غربية عدة؟.
إلى حد ما نعم، لكن الأزمات السياسية والاقتصادية وعدم الاستقرار أمور تجعل الحكومات أقل قدرة على الاستمرار في تقديم الدعم للفئات المتضررة وأصحاب المصالح التي أُغلقت بسبب الوباء. ومهما أظهرت هذه الحكومات من تضامن بمناسبة جائحة كورونا فلن تتجاوز ذلك إلى تغيير أولويات النظام السياسي والاقتصادي. وإذا استمرت الأزمة الصحية وعمليات الإغلاق وتعثر العودة إلى النمو الاقتصادي، أخشى أن ما سوف نشهده هو تفاقم الفوارق ثانية بين الفئات الغنية والفقيرة.
أحْيت الأزمة الصحية الراهنة المشاعر القومية لدى الشعوب الغربية نتيجة صعود يمين جديد يستغل الثقافة الشعبوية ووسائل الاتصال، متهّما اليمين المحافظ بأنه أصبح نخبوياً، فبرزت حركة العودة نحو التراث، عكس تيار العولمة الذي يؤكد تحول العالم إلى قرية كونية. هل يُؤشّر تصاعد النزعة الوطنية خلال الجائحة على تزايد قاعدة اليمين الهوياتي المتطرف في المستقبل؟.
بالتأكيد، فليس أمام الحكومات العاجزة عن مواجهة الأزمة، التي هي اقتصادية بمقدار ما هي صحية، وأيضا أزمة شرعية سياسية متفاقمة، إلا أن تسعى إلى صَرف أنظار الفئات المتضررة عن الفشل بالتركيز على التعصب العنصري والتمييز الاجتماعي، الذي سيكون الفقراء والمهمشون ضحاياه الرئيسيين.
وأكثر هؤلاء (الفقراء)، اليوم، في البلدان الصناعية وما بعد الصناعية، من الفئات المكونة من السكان المهاجرين القدماء والأقل قدما. وهذا هو الهدف من التلويح الدائم بالخطر الإسلامي، أو بالأحرى تحويل الإسلام إلى مصدر خطر محتمل دائم، بوصفه منبعا لأفكار التطرف ومولدا للإرهاب.
الملاحظ، اليوم، على تعاطي مختلف دول العالم مع تفشي فيروس “كورونا” المستجد هو التفاوت بين الأنظمة الأوتوقراطية ونظيرتها الديمقراطية، إذ نجحت البلدان الآسيوية، من قبيل الصين وسنغافورة، في احتواء التداعيات الصحية والاقتصادية للجائحة. كيف يمكن التوفيق بين تشجيع المزيد من الحريات الفردية والحاجة إلى ممارسة المزيد من الضبط الاجتماعي؟.
لست أكيدا من أن الدول الأوتوقراطية نجحت في مواجهة كورونا، لكن قد يكون من الصحيح أن النظم الأوتوقراطية والقمعية أقدر على فرض الطاعة والانصياع للأوامر المتعلقة بسياسات العزل والإغلاق، إلا أن المشكلة لا تكمن فقط في تطبيق سياسات العزل، ولكن في نتائجها على الاقتصاد والتجارة الدولية. وفي هذا الميدان المشكلة واحدة.
ولا يوجد حل للجائحة، وأثرها على الاقتصاد العالمي، إلا من خلال سياسة مواجهة عالمية، لم تنجح الدول ومنظمة الصحة العالمية في تحقيق التفاهم عليها حتى الآن، لسوء الحظ. وبعض هذه الدول تراهن على الاستفادة من استفحال الجائحة وتفاقم أثرها على الدول الضعيفة أكثر مما تسعى إلى التعاون لحلها، وهذا ما يعكسه التنافس على نيل قصب السبق في إنتاج اللقاح العتيد المنتظر.
سلّطت الجائحة، كذلك، الضوء على واقع العالم المُعولم، بعدما تحول الأفراد إلى مجرد سلع في سوق مُتعولم باستمرار، حيث كشف “كوفيد-19″ عن الهشاشة التي باتت تسِم النظام الدولي القائم منذ عقود؛ وهو ما تجسد في غياب التضامن بين الفواعل، و”قرصنة” الأقنعة والكمامات بين البلدان، وإغلاق الحدود، وغيرها من المظاهر. كيف يمكن أنسنة عولمة جديدة، تعمل على تقوية التعاون بين المجتمعات، واحترام تعدد الثقافات، ومحاربة العنصرية؟.
أخشى أن الأزمات، خاصة العالمية منها، لا تساعد أبدا على تطوير روح التضامن الإنساني، والدفع في اتجاه عولمة إنسانية جديدة؛ وإنما تدفع، بالعكس، نحو التقوقع والانغلاق على الذات، وتخلق الحاجة إلى المزيد من العنصرية والكراهية والبحث عن كبش فداء، فالأمل يجمع الناس ويدفع الشعوب إلى التعاون، في حين يخلق اليأس من المستقبل، للأسف، مشاعر الخوف والقلق والتباعد والاحتراب.
تطرح الجائحة جملة من التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية على بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في وقت تمرّ دول عربية من أزمات اقتصادية، وأخرى تعرف تطاحنات داخلية متواصلة، قبل أن تأتي “كورونا” التي عمّقت أزمات الأنظمة الإقليمية. أي ضغط قد تشكّله الجائحة على الأنظمة الإقليمية؟.
الضغط الكبير يقع على الشعوب والطبقات الفقيرة منها بشكل خاص، لأن معظم الأنظمة والنخب الحاكمة في البلاد العربية لا تعنى كثيرا بمصير مواطنيها، ولا تفكر أصلا فيهم كمواطنين، لهم حقوق ومصالح تستحق الاحترام، وإنما كعبء ثقيل؛ وبمقدار ما عزلت نفسها عن شعوبها منذ عقود، ولم تعد تفكر سوى في مصالحها الخاصة، أصبحت عاجزة عن إدراك مخاطر انتشار الوباء وتخصيص الموارد الضرورية لمكافحته.
إنها (البلدان العربية) تريد بالعكس أن توفر المال لإنفاقه على رجال الأمن والحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية، ولا يهمها مصير عامة الناس لا من قريب ولا من بعيد، بل إنها تأمل أن يدفع الخوف من الجائحة ومشاهد الموت اليومي الجمهور إلى اليأس والاستسلام بشكل أكبر، واستجداء الحكومات لقمة الخبز.. هذا ما يحصل في أكثر من بلد عربي اليوم.
شهدت المنطقة العربية “لحظة تاريخية” عام 2011، صدحت فيها حناجر المحتجين بشعارات سياسية دعت إلى إحقاق الديمقراطية، بالنظر إلى سياق الإحباط الذي ساد تلك المرحلة، لكن هذه الانتفاضات، التي وصفت بأنها عفوية، عرفت مآلات مأساوية في النهاية. وتعرف السودان والجزائر موجة جديدة من الاحتجاج تسعى إلى تجاوز العثرات الإستراتيجية لسنة 2011، غير أن كثيراً من الأكاديميين اقتنعوا بمدى “تعقيدات” الانتقال الديمقراطي في المنطقة.. فما رأيك؟.
كلمة معقد تليق بالأكاديميين، لكن ليس لها قيمة سياسية ولا أخلاقية؛ فهي صحيحة إذا نظرنا للأمر من ناحية محايدة، واعتبرنا أن الأمر لا يعنينا، وإنما هو تاريخ فحسب نراقبه ونسعى إلى فهمه، لكنها خاطئة إذا كان الهدف منها التغطية على المسؤوليات الإنسانية التي أدت إلى هذا التعقيد، أو التي جعلت من الانتقال السياسي مهمة عسيرة ومستحيلة، بل تستدعي خوض حروب مدمرة، بما في ذلك حروب الإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة الكيماوية؛ كما حصل في سورية في هذا العقد.
وهنا السؤال: لماذا مرت بسلام وكانت بسيطة في شرق أوروبا والعديد من الدول الأمريكية اللاتينية والإفريقية، وشاقة في المشرق والمغرب العربيين؟.. لأن النظم الحاكمة نظم مفترسة ومنقطعة عن شعوبها وفاسدة من جهة، ولأن دولا قوية ومهمة؛ إقليمية وعالمية، تدعمها وتريد الحفاظ عليها لمصالح متعددة، ومنها مصالح إستراتيجية عليا تقضي بمنع المنطقة من التقدم والتنمية والتكامل، حتى لا تتحول إلى قوة يحسب حسابها في المتوسط.
حرمان أوروبا شرق وجنوب المتوسط من التعاون والسلام والاستقرار والازدهار يشبه تماما في أهدافه حرمان الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من قرن القارة الأمريكية اللاتينية من الشروط ذاتها، وتقديمها فريسة سائغة للنظم العسكرية والديكتاتوريات الدموية والحروب والنزاعات الداخلية.
وقد استمر الوضع لعقود قريبة إلى أن نجحت بعض نخبها في التحرر من التبعية وتخلت، تحت ضغط وتعاقب الثورات وأشكال التمرد الشعبي المختلفة، وحروب الأغوار، عن سياسة طلب التدخل أو الحماية الخارجية في مواجهة ثورات شعوبها وفرضت، من خلال تحالفها مع هذه الشعوب الثائرة نفسها، احترام سيادتها واستقلالها على الولايات المتحدة الأمريكية وجميع القوى الدولية الأخرى.
* كاتب وباحث مغربي
المصدر: موقع هسبريس المغربي
التعليقات مغلقة.