أحمد عدنان الميالي *
بعد مرور أكثر من عام على إنطلاق احتجاجات تشرين الأول في العراق، أحاطت تلك الاحتجاجات العديد من المتغيرات وأفرزت عدة معطيات وانعكاسات ومرت ظروف مختلفة أبان هذه الفترة المنصرمة، أثرت بشكل أو بآخر على المشهد الاحتجاجي من حيث الفاعلية والانحسار والمراوحة، إضافة إلى انكشاف الكثير من الحيثيات المضمرة المحركة والدافعة للاحتجاجات والمقننة لها.
هذا الانكشاف والفاعلية والمحدودية في الزخم والأهداف تزامنت مع تشكيل الحكومة برئاسة مصطفى الكاظمي وقبلها انتشار وباء كوفيد ١٩ ولغاية الآن.
ولهذا تثار عدة تساؤلات عن مسارات دعم هذه الاحتجاجات ومن يقف خلفها أبان مرحلة انطلاقها وحتى الآن؟، وهل لازالت المواقف واحدة أم اختلفت؟، ثم ماذا أفرزت الاحتجاجات من معطيات تتوائم مع مبررات انطلاقها وامتدادها؟ وهل حقق المحتجون تطلعاتهم واستجابة الحكومة الجديدة والقوى السياسية لمطالبهم؟، تترافق مع هذه التساؤلات، تساؤلات أخرى تتعلق بمستقبل هذه الحركة الاحتجاجية والاحتمالات المرتبطة بذلك بين مشهد البقاء والتواصل بقوة، ومشهد الانحسار والتراجع والضعف، أو مشهد البقاء بشكل متقطع وموجه بزخمٍ اقل ومحددات واضحة.
وفق معطيات الظرف السياسي الداخلي والخارجي العراقي، الذي يعد المحرك الأساس للشارع الاحتجاجي، لا يمكن إنكار أن المحرض الرئيس لهذه الاحتجاجات ناتج عن مركب من أوضاع اقتصادية وسياسية وثقافية متعدد الأبعاد والدلالات وحصيلة تراكم كمي ونوعي للكثير من المؤثرات والعوامل والظروف والتفاعلات المعقدة والمأزومة، وأعطاب واختلالات وممارسات سياسية لاعقلانية، وهو واقع يبرز مدى دقة المرحلة وحساسيتها.
لكن تبقى المحرضات السياسية المحلية والخارجية هي المحرك المستدام الذي يستثمر ويوظف ويركب موجة الاحتجاجات ويجيرها ويحركها وفقا لتوجهاته ومصالحه.
مراقبة حجم التدافع والتقاطع والتنافر والاستقطاب في وسائل الأعلام والتواصل الاجتماعي يعكس هذه الحقيقة، المواقف والتعامل مع الأحداث في ساحات التظاهر يضع أمام المراقب المحايد علامات استفهام حول دعم هذه الاحتجاجات أو الوقوف ضدها أو استثمارها تارة ورفضها تارة أخرى، بحيث أصبح الفعل الاحتجاجي مركب متخادم أو ضد نوعي للقوى السياسية الداخلية والخارجية تتعامل معه وفق ذلك بغض النظر عن المطالب والاستجابة لها وبغض النظر عن نوعية المحتجين وطبيعة مطالبهم واختلافها.
وتبرز التدخلات الخارجية المرتبطة بالمحيط الإقليمي والدولي للعراق عما يحصل خاصة ما جرى من حالات تخريب لمدسوسين من أجل حرف الاحتجاجات وتعميق الأضرار، لتكون الأجواء مشحونة بهذه الحيثيات ومن مصلحة تلك الدول أن يتضرر الشريان الاقتصادي والمؤسسي للعراق ويتزعزع النظام السياسي ما بعد ٢٠٠٣، مع وجود قوى محلية ترتبط بتلك الأجندات من مصلحتها كسب معطيات ما بعد الاحتجاجات والتركيز على إسقاط الحكومة السابقة وتشكيل حكومة جديدة يكون لها دور ووزن في تسمية رئيسها وأعضاءها وتسنم المواقع والمناصب العليا فيها، والاستعداد لخوض الانتخابات القادمة عبر إحكام سيطرتها على المجال العام.
بعد تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي أدرجت أمامها استحقاقات عديدة منها يتعلق بالنظام العام ومنها يتعلق بمطالب المتظاهرين، لم تكن مؤشرات الأشهر الستة الأولى تتجاوب مع تلك الاستحقاقات، فالتراجع على صعيد الوضع الاقتصادي والصحي وحتى الأمني يؤكد أن هذه الحكومة لن تستطيع أن تبرر أسباب وجودها وبقاءها بشكل مغاير عن الحكومة السابقة، سوى ما تسوقه للرأي العام من تصريحات ووعود ومنجزات لا أساس لها على أرض الواقع، لكن ما يخدم هذه الحكومة انحيازها للشارع وموافقة كل ما يصدر عنه بل التغاضي عن أي أفعال تستحق المواجهة القانونية والأمنية، التفاعل بشعبوية مع المطالب والتصريح باستمرار الكشف عن قتلة المتظاهرين وإحالتهم للقضاء، إضافة إلى محاولة تعميق الفجوة بين المتظاهرين والقوى السياسية التي كانت داعمة ومدافعة عن الحكومة السابقة، ويعزز ذلك السياق التصارعي في العملية السياسية وتَبني هذه القوى خيار التصادم والاشتباك وتمثيل مصالح قوى إقليمية مضادة للقوى الخارجية الداعمة للحكومة الجديدة، وهذا رهان يعول عليه الكاظمي، إذ المحتجون رغم معرفتهم بعدم فاعلية الحكومة وقدرتها في تحقيق مطالبهم والكشف عن قتلتهم لكنها تمثل أهون الشريّن بالنسبة لهم، وتعطي غطاءً لهم في تبرير أسباب خروجهم للاحتجاج ولهذا يتقمصون دعمهم للكاظمي بغضا بالحكومة السابقة والقوى السياسية الداعمة لها، لكنها بذات الوقت تؤكد وجود قنوات تواصل ودعم بين القوى التي أوصلت الكاظمي للحكومة وبين الأقطاب الأساسية المحركة للاحتجاجات، بل تؤكد أن القوى التي أوصلته للسلطة تشكل النواة الصلبة للفعل الاحتجاجي والغطاء العددي المهيمن على ساحات الاحتجاج والمتحكم بها.
بالمقابل لن تقف القوى السياسية المضادة لهذه السيناريوهات متفرجة، لأنها تمتلك أوراق للرد والمواجهة فبعيدا عن القدرات في تصديع الوضع السياسي والأمني وإحراج الحكومة الحالية، فأن لديها أنصار ذات ولاء عقائدي ومصلحي، فضلا عن أدوار أيضا خارجية داعمة لها تحتمي بها، ولهذا عرفت تلك القوى كيف تبقى وتؤثر وتضعف خصومها، ذلك باستخدام ذات الأداة التي أسقطت الحكومة التي كانت تدعمها، وهي الورقة الاحتجاجية، فبدلا من أن تكون هنالك ساحة احتجاج بمطالب محددة ودعم محدد وتوجيه محدد، سيكون هنالك ساحات متعددة وجبهات ضاغطة على الحكومة وعلى الأطراف الخارجية الداعمة لمحتجي تشرين وحكومة الكاظمي، تركز على المطالب التي تعجز الحكومة عن تلبيتها خاصة الاقتصادية منها وإخراج القوات الأجنبية (الأمريكية تحديدا) مع امتلاكها أدوات رسمية وشرعية مضعفة للحكومة للنظر في تلك المطالب وعدم القدرة على شيطنتها لأنها حقيقية ومشروعة.
هذه المشاهد تضع أمامنا محددات لاستقراء مستقبل احتجاجات تشرين:
الاحتمال الأول: الانحسار والتراجع
من المرجح انحسار وتراجع هذه الاحتجاجات إذا ما عملت الحكومة على أساس مؤسسي وتعمل على تكريس سلطة حقيقية للقانون والمساءلة، بحيث تصبح هذه الحكومة قادرة على احتواء الأزمات وتطوير النظام السياسي، وقد تنال دعم نخبوي وشعبي حيوي فاعل. خاصة إذا تبنت معالجات قادرة على تنضيج أُطُرٌ سياسية واقتصادية تستوعب مطالب المحتجين بكل تفاصيلها وتوجهاتها وتسقط ورقة التظاهر والرفض لها وللعملية السياسية، خاصة إذا ما احتوت الانقسامات الطائفية والسياسية، وعملت على بناء مؤسسات رقابية محايدة ومهنية غير مسيسة لمكافحة الفساد، وجودة الإدارة وترسيخ المساءلة والمحاسبة وضبط السلاح وجعله بيد الدولة.
كما أن خيار توجه الحكومة للعمل وفق سمة الفريق المنسجم الواحد، وتنفيذ برنامجها الحكومي بشكل عملي، يعد ظرفا قاتلا لأية مطالب احتجاجية ويمنع أي استثمار أو تدخل أو تحريض داخلي أو خارجي في هذا السياق.
هذا السيناريو مثالي، ومن الصعب جدا تحقيقه لأنه يحتاج إلى أدوات سليمة وإرادة سياسية والتزام وطني وتصحيح مسار حقيقي، لكنه ليس مستحيلا، إلا أنه مستبعد حاليا.
الاحتمال الثاني: الاستمرار المحدود والموجه
تتوسع فرضية تحقق هذا الاحتمال في حال استمرار نهج الحكومة الحالية والأحزاب الداعمة للحكومة السابقة على ما هو عليه الوضع الآن، المتمثل بتسييس ساحات الاحتجاج والتأليب المضاد ضد الآخر، بحيث تصبح هنالك ساحات احتجاجية ضد حكومة الكاظمي في ملفات محددة تراقب الإخفاقات والفشل في الأداء مع التركيز على المطالب المشروعة والصعب تحقيقها كلما دعت الظروف لذلك، إذ سيلاقي الكاظمي معارضة شعبية من جماهير التحالفات والقوى السياسية الرافضة له ولطريقة عمله وأداءه، وتستغل هذه القوى جماعتها في الاحتجاجات، ذلك إضافة إلى موقفه من القوات الأجنبية والأمريكية وبعض السياسات الأخرى المضادة لتوجهات تلك القوى، ففي كل مرة تتخذ الحكومة موقفا إيجابيا من واشنطن على سبيل المثال أو يقوم بحملة لحصر السلاح بيد الدولة، سيلاقي احتجاجات في الشارع، هذا لا يعني أن زخم هذه الاحتجاجات ضعيف إنما أقل من ما حصل في احتجاجات تشرين التي تحولت إلى اعتصامات مفتوحة ومستمرة، إذ سيكون موقف هذه الاحتجاجات وقتياً ووقفات احتجاجية متقطعة ولها طبعا انعكاسات سياسية وأمنية.
في حين ستعمل الحكومة على دعم محتجوا ساحات تشرين وتوجهيهم ضد داعمي الساحات المطلبية الأخرى وإبراز ملف قتلة المتظاهرين والناشطين والمخطوفين منهم، ما يجبرهم على البقاء للتظاهر، وربط كل مظاهر الفشل والإخفاق بتلك القوى المضادة وجماهيرها المحتجة. وهذا الاحتمال وارد الترجيح جدا؛ لأن مسار الاحتجاجات الآن يعكس هذه الحقائق، إضافة إلى أنه يرتبط بمدى توافق الطرفان وحسب معطيات قنوات الاتصال والتخادم بالمصالح فيما بينهما ويخفت أو يتصاعد وفقا للأطراف الخارجية الداعمة لهذا الطرف أو ذاك.
الاحتمال الثالث: الاتساع والاستمرار
ترتكز فرصة هذا الاحتمال في حال تصاعد وتيرة التحديات التي تواجه الحكومة والقوى السياسية، إذ يوجد الآن وعي احتجاجي حقيقي بعيدا عن أسوار الأطراف المستثمرة لساحات الاحتجاج وفق السيناريوهات السابقة أعلاه، صحيح أن هذا الوعي بحاجة إلى محرك وقيادة نابهة وموجهة، لكن انفجار الوضع الاقتصادي وتململ الطبقات الفقيرة والمحرومة وازدياد وعيها وفهمها في النهاية لعبة الأحزاب والقوى الخارجية في تحريك الشارع لصالحها سيكون هو الدالة الأساسية في صناعة احتجاجات عشوائية خارج أطر ومستوطنات القوى السياسية والحكومية وبعيدا عن تأثيرات الاستقطاب الخارجي، وهذا خيار مطروح وله أساسات ومرتكزات ومن المرجح أن تتصاعد وتيرة إحلال هذا المشهد الاحتجاجي في حال تمسك واستمرار القوى السياسية بالمحاصصة واستمرار الحكومة بتجاهل المطالب الحقيقية والمشروعة، والحال أن كل هذين الطرفين لن يتنازلا ويريدان التصارع من أجل أن يكون لهما وجود وتأثير فاعل في العملية السياسية وتشكيل الحكومة القادمة في حال إجراء انتخابات نيابية والتحكم بمجريات ومخرجات تلك الانتخابات عبر الاستحواذ على منصب رئيس مجلس الوزراء وباقي المواقع، تحت أي ظروف أو ملابسات، من شأن هذه الحتمية أن ترجح هذا السيناريو إذا انزلقت الأوضاع السوسيو- اقتصادية إلى حافة الهاوية، تبقى عملية الإنقاذ عبر الأوكسجين الخارجي، من شرق وغرب وممانعة واعتدال، للسيطرة والأحكام على الأمور وبقاء الحال على ماهو عليه.
وهذا متوقع ولهذا قد يستبعد هذا الاحتمال لأن ما يمكن ملاحظاته هو براعة الطبقة السياسية والحكومة في استغلال الأزمات وفرض رؤيتها من جديد ومن المتوقع أن تكون المحاصصة وتقاسم النفوذ إطارا وحافزا للتكاتف في قتل هذا الوعي الاحتجاجي أو السيطرة عليه وتوجيهه، بل وحافزا لإعادة فرض هيبتها مرة أخرى وتشييد للسلطوية في التعامل بحزم مع أي ارتدادات تطالب برحيلها عن المشهد السياسي.
الواقع يرجح السيناريو الثاني، فالتحزب والتحاصص والفساد والتخادم مع الخارج سيلقي بظلاله على الحالة الاحتجاجية مع استمرار الخلافات والطعون والشكوك بما يعمل على التغذية الاسترجاعية للاحتجاجات بسياقها الموجه والمحدود مستغلا الوعي الاحتجاجي المذكور في الاحتمال الثالث أعلاه، خاصة أن معظم القوى السياسية عاجزة عن مغادرة الارتهان للخارج، أو إذا كنا مخطئين، عاجزة عن وضع مصدات وكوابح لما يحدث من تدخلات إقليمية ودولية في التفاعل مع الاحتجاجات وتحريكها، واستغلال الظروف العامة في العراق وتوظيفها في استدامة الصراعات السياسية وتحقيق مصالحها من خلال ذلك.
* كاتب ومحلل سياسي وأكاديمي عراقي
المصدر: مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية
التعليقات مغلقة.