مجدي رياض
ثانياً: القسم التاريخي وقائع وأحداث
(2) الرجل.. من الوحدة إلى الانفصال
[إنه ليحز في نفسي أن تكون وقفتي هذه كأجنبي.. وكأنني ما كنت في يوم من أيام الشموخ مواطناً في جمهورية أنت رئيسها ………………………… ثم انفجر في البكاء]
سامي الدروبي
في تقديم أوراق اعتماده كسفير لسورية بمصر للزعيم الراحل في 16/ 4/ 1967.
- كانت هناك ظروف وضغوط خارجية- الاستعمار، حلف بغداد- وضغوط داخلية- صراع الجيش، الطائفية.. الخ- وراء الاندفاع نحو الوحدة الاندماجية- 1958- مع مصر..
وكان هناك أيضاً حزب البعث كقيادة للتيار القومي آنذاك- ما قبل الوحدة- والذي لعب دوراً نشطاً وضاغطاً في هذا الاتجاه..، وستتركز الأسئلة في هذا الفصل على ذلك التيار القومي وأنت أحد قياداته التي تفاعلت مع الأحداث من الوحدة إلى الانفصال..
السؤال الأول عن موقعك التنظيمي وموقعك الإعلامي الذي شاهدت من خلاله وقائع الأمور؟
□ في الأيام الأخيرة من عام 1957 ومطلع 1958 كنت عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث في سورية وفي المكتب الدائم لتلك القيادة، وكذلك في المكتب السياسي للحزب والذي كان يضم أعضاء من القيادتين القومية والقطرية، وإلى جانبهم أعضاء من بين ممثلي الحزب في الوزارة والمجلس النيابي..، وأخص هذه الفترة لأنها كانت تشهد نشاطاً مكثفاً من المكتب السياسي وعملاً لا يهدأ من أجل دفع الأمور وتذليل العقبات والبحث عن أفضل الوسائل لتحقيق الوحدة وإقناع عبد الناصر باتخاذ الخطوة اللازمة مع محاولة تنفيذ كافة مطالبه..
أما على المستوى الإعلامي فكنت أشرف على تحرير الصفحات النظرية والفكرية بجريدة البعث ومن محرريها الدائمين، وقد بدأت منذ عام 1957 الكتابة عن (مصر الثورة) ونهوضها بقضية القومية العربية وقيادة التحرر العربي وسياسة عبد الناصر ونهجه الثوري..، ولكأنني أخذت أحاول منذ ذلك الحين فتح الحوار مع عبد الناصر كقائد للأمة ولحركة التحرر..، فكنت لا أنفك عن الكتابة والتعليق على كل موقف يتخذه أو خطاب جماهيري يلقيه، وكانت لدي انطباعات بأن عبد الناصر يولي اهتماماً خاصاً لحركة ((البعث)) والتيار القومي التقدمي الوحدوي في المشرق العربي ويتابع كل ما يكتب ويعمل في هذا الاتجاه..
- السؤال الثاني عن رؤية هذا الاتجاه القومي وعلى وجه الخصوص حزب البعث لعبد الناصر، ففي الفصل السابق أشرت إلى المتابعة الدقيقة من قيادات الحزب للمتغيرات داخل مصر.. ولدور عبد الناصر وانتهت بالخضوع لكل مطالبه، ما هي أهم المحطات.. المواقف.. الآراء الخاصة لقيادي الحزب عن القائد أو ما كان يجري في مصر؟
□ كما ذكرت من قبل فإن المتابعة واكتشاف الدور الثوري والقيادي لعبد الناصر قد بدأ منذ عام 1954، وعندما تصاعدت الأحداث العربية وأخذت الطلائع القومية التقدمية تنهض في مواجهة القوى الرجعية وسياسة الأحلاف خلال 1955/ 1956، كانت سورية تشهد تغيرات سياسية وشعبية قادت إلى حكومة ائتلافية تضم قيادات قومية وتقدمية، في هذه الفترة أخذت قيادة البعث تدفع بإصرار نحو بناء جسور لوحدة النضال العربي يكون مرتكزها الأساسي مصر عبد الناصر..، وقد جاءت معركة تأميم القناة لتؤكد على هذا النهج.. وعلى أن الجماهير العربية والقوى القومية والتقدمية قد وجدت في مصر وقيادة عبد الناصر ضالتها المنشودة لشق الطريق نحو إنجاز مهام الهدف التاريخي في الحرية والوحدة العربية..
هذه الرؤية أو هذه القناعة تولدت لدينا من خلال ما نقله إلينا قادة حزب البعث الأوائل الذين كانت لهم لقاءات مباشرة واتصالات وحوارات مع الرئيس عبد الناصر بدءاً من عام 1955م، كالمرحوم صلاح الدين البيطار- وزير خارجية حكومة الجبهة الوطنية- والأستاذ أكرم الحوراني- رئيس المجلس النيابي السوري- والمرحوم ميشيل عفلق الأمين العام للحزب..
وأذكر في هذا المجال أول زيارة للمرحوم صلاح البيطار لمصر، فعندما عاد التففنا حوله وكلنا لهفة في معرفة التفاصيل والانطباعات التي تولدت لديه من هذه الزيارة، فكانت أهم النقاط التي ركز عليها بانبهار شديد هي تماسك المجتمع المصري بين المسلمين والأقباط، ووحدة المذهب بين المسلمين ((سنيون ويتبعون الإمام الشافعي)) وحتى الأقباط نفس الوحدة ((أرثوذكس))، وخلص من هذا إلى أن مصر كما كنا نقول هي المهيئة لقيادة المجتمع العربي نحو الوحدة خاصة في وجود ودور الثورة وعبد الناصر..
- هل كان هذا الانطباع هو الوحيد لدى المرحوم صلاح البيطار والمعروف عنه العقلانية والتحليل؟
□ هذا الانطباع هام جداً بالنسبة لنا في سورية.. فهو محور همنا واهتمامنا ولذلك نجد نفس التركيز في آراء باقي الإخوة..
- هل يمكن إعطاءنا مثلاً آخر؟!
□ نعم.. الأستاذ أكرم الحوراني.. فقد كان على رأس وفد برلماني لتعزيز الروابط والتحالف مع مصر ووقع العدوان الثلاثي فاحتجزته الظروف هناك، وعند عودته تحدث معنا عن مشاهداته وانطباعاته بكل انفعال وكان منها هذا الموضوع، فقد أخذ يقيم المقارنة بين ما يعشش في المجتمع السوري من ((موزاييك)) للعصبيات الطائفية والعشائرية والعنصرية ومن ايديولوجيات متنافرة وبين التماسك القوي والقومي للمجتمع المصري بحيث يكاد يشكل طائفة واحدة وثقافة واحدة، ثم أخذ يؤكد على أن الطريق للوحدة أصبح ممهداً فليس هناك مرتكز مثل مصر تتوجه إليه سورية وليس مثل قيادة عبد الناصر كقيادة وطنية متميزة يصح الاندفاع وراءها..
- ماهو رأي الحوراني فى قيادة عبد الناصر آنذاك خاصة بعد مشاهدته عن كثب لأهم الأحداث بمصر- معركة التأميم- وهل وضح هذا الرأي؟
□ كان رأيه شديد الانبهار والإعجاب بشخصية عبد الناصر القيادية، ووصف لنا كيف فتح مخازن الأسلحة للشعب دون تحفظ أو تمييز ليدافع الجميع عن الوطن، وأسهب في وصف العلاقة والثقة المتبادلة بين الشعب وقيادته، وكان يكرر تشبيهه لشخصية عبد الناصر الفذة بشخصية الخليفة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في أصالتها وصلابتها وتحملها للمسؤوليات والتحديات الكبرى..
- ولكن هذا نقيض رؤيته ومواقفه فيما بعد؟!
□ موقف الحوراني وآخرين من القيادات البعثية تغير وتبدل نتيجة لظروف خاصة وشخصية وكذلك ظروف عامة مختلفة لسنا بصددها الآن.
- نعود للأستاذ صلاح البيطار ماذا عن رؤيته الموضوعية والعقلانية؟!
□ المرحوم صلاح البيطار كان أكثر دقة وموضوعية وبطبيعته لم يقف عند الانطباعات الأولية بل راح يبحث ويحلل، ولأنه كان في الدولة والحكم فقد كان أكثر احتكاكاً بعبد الناصر ومن حوله، وفي مرحلة لاحقة- 1957م- أخذ يؤكد لنا مرة أخرى حقيقة ما رآه في عبد الناصر كرجل دولة- بل دولة بذاته- من حيث الدراسة والتخطيط والإعداد والتهيئة لكل خطوة يخطوها، وفي معرض حديثه عن تصميم عبد الناصر على انتهاج الطريق الاشتراكي أشار إلى المجموعة التي كلفها عبد الناصر بترجمة أمهات الكتب والدراسات في الاقتصاد السياسي وفي التجارب المطبقة في العالم..، وكيف أن عبد الناصر يقرأ ويتابع ويحاور القيادات التاريخية في هذا المضمار- تيتو ونهرو وشواين لاي.. الخ- من أجل أن يحدد طريقه ومنهجه العربي في الاشتراكية.
- ماذا عن موقف الأمين العام ميشيل عفلق؟
□ المرحوم ميشيل عفلق كقائد للحزب توفرت له عدة لقاءات مع الزعيم عبد الناصر، وفي كل مرة كان يؤكد على الدعم المادي والسياسي الذي قدمه الرئيس لمنظمات الحزب في سورية والعراق والأردن ولبنان، وعلى مدى عروبية عبد الناصر ومنظوره الوحدوي وكيف أن الأفكار متقاربة حتى أن عفلق بعد طرحه لمواقف الحزب وأفكاره علق عبد الناصر مازجاً (ليس أمامكم إلا أن تحسبوني على الحزب).
- لننتقل إلى السؤال الثالث حول موقف عبد الناصر من الوحدة، ففي مباحثات الوحدة الثلاثية وفي مذكرات المعاصرين ومنهم محمود رياض ذكر أن عبد الناصر كان يرى التروي والتخطيط لمراحل حتى تتم الوحدة بينما الآخرين في سورية وخاصة البعثيين كانوا على النقيض.. ويدفعون بالأمور نحو الوحدة الفورية، فما رأيك كشاهد على هذه المرحلة؟
□ نعم كنا ندفع في اتجاه الوحدة الفورية.. وكان عبد الناصر يطالب بالتروي، وأذكر في هذا السياق أن المرحوم صلاح البيطار دخل علينا في المكتب السياسي في كانون الثاني- يناير 1958 المنعقد لإيجاد الصيغ المناسبة التي تحوز رضا عبد الناصر وتجسد قرارات المجلس النيابي السوري لتحقيق الوحدة بين القطرين، كان البيطار متجهماً ومتشائماً بعد عودته من لقاء مع السفير المصري محمود رياض، وتساءلنا: ما الذي حدث؟ فقال لنا أن الأخ محمود رياض عاد من القاهرة وهو ينقل رسالة من عبد الناصر تطالبنا بالتمهل وعدم التعجل في خطوات الوحدة، ويرى التقدم نحوها بخطوات تمهيدية تعزز وحدة الموقف السياسي للقطرين ووحدة القيادة العسكرية قبل الوحدة الدستورية، وقد ذكر المرحوم عبد الكريم زهور أيضاً نفس الفكرة عندما كان عضواً في الوفد البرلماني الذي ذهب للقاهرة للتدارس مع إخوانه البرلمانيين في مصر حول الوحدة، وقال أن عبد الناصر ومستشاريه كانوا يرون أن الوحدة تحتاج إلى خمس سنوات على الأقل، واستمعوا أيضاً لعبد الناصر يقول عن موضوع الوحدة (لما الهدف يبقى فكرة.. يستطيع الإنسان أن يقدر على الإمساك به ويحرك الجماهير من أجلها، ولكن عندما تجسد الفكرة في إنجاز مادي فإنها تصبح هدفاً لكل سهام الأعداء والحاقدين، لذلك يجب أن تجسدها في إنجاز مادي قوي وقادر على الثبات والتحدي، والوحدة لا بد وأن تبدأ قوية وقادرة حتى تواجه أعدائها)..
وقد حدد عبد الناصر في الرسالة التي نقلت على لسان الأخ محمود رياض القوى المعادية المتربصة والأوضاع الداخلية السورية من تناقضات وصراعات بين الأحزاب الوطنية، وأخطر هذه الصراعات هي التي كانت في الجيش وكان يخشى من تفجر هذه التناقضات فيأتي انقلاب عسكري ليمنع الوحدة أو يأتي في أعقاب الوحدة فيقطع طريق هذا الأمل لعدة أجيال، ومن ثم فهو لا يقبل بوضع قضية الوحدة على طريق المغامرة، ويطلب الوصول إليها عبر خطوات متصاعدة لتوحيد الموقف السياسي فالعسكري.. الخ، قبل الوحدة الدستورية..
- تدافعت الأحداث بمبادرة البيطار والعسكريين نحو عبد الناصر وإجراءات الوحدة الفورية، ولكن هناك تحليلات تقول بأن البعث كان يميل عبر صحيفته نحو صيغة الاتحاد لا الوحدة؟ فما رأيكم وأنت أحد المحررين البارزين بالجريدة آنذاك؟
□ عندما سافر البيطار والضباط السوريون إلى القاهرة، كلفت في اليوم التالي بكتابة المقال الافتتاحي لجريدة البعث وأعبر فيه عن وجهة نظر القيادة وتصوراتها، وكان عنوانه ((لنبدأ بالاتحاد أولا)) وقد صدر في 17 كانون الثاني- يناير- 1958..
لم يقصد بهذا العنوان تفضيل صيغة الاتحاد على الوحدة وإنما الإصرار على البدء فوراً في خطوات الوحدة (بدءاً من الوحدة السياسية والقيادة السياسية الواحدة ودفاع واحد وتوجيه قومي واحد ثم لتأت اللجان والمجالس وتخطط) وقبلنا أن يكون الوضع الدستوري في مصر الأساس لهذا الاتحاد، (وإذا كان عدم تماثل الأوضاع يعتبر عثرة وعائقاً فإننا أول من يطالب ويعمل على تطبيق ما يحقق تماثل الأوضاع السياسية في القطرين).
كان الهدف هو التأكيد على قناعة البعث في هذه اللحظة بضرورة الوحدة وبالتسليم لقيادة عبد الناصر السياسية والقومية بل والقبول بالتخلي عن العمل الحزبي في سورية من أجل الوحدة.
- كانت إحدى شروط عبد الناصر حل الأحزاب بسورية، ووافق حزب البعث ثم فيما بعد أدان هذه الخطوة، وتعددت الآراء حول هذه الموافقة، فما هي الحقيقة؟! وما هو موقفك- خاصة وإنك أحد اللذين كانت لهم ملاحظات بعد الحل؟.
□ كان الاتجاه العام هو الشعور بأننا على أبواب مرحلة ثورية وتاريخية في نضالنا القومي..، وأن الأمة كلها تنتظر تنفيذ هذه الوحدة.. والتي وضعنا رهاننا كله عليها وعلى قيادة عبد الناصر..
ومن خلال هذا الاتجاه جاء قرار الحل، وأذكر أننا في الأسبوع الثاني من شهر شباط- فبراير- قبل الاستفتاء على الوحدة ذهبنا للمؤتمر القطري لحزب البعث وداخلنا عدة تساؤلات عن قرار حل الفرع بسورية والذي صدر عن القيادة القومية..
الأمين العام المرحوم ميشيل عفلق استمر لوقت طويل يرد على الاستفسارات والأسئلة، وكانت وجهة نظره أننا بذلك نزيل إحدى معوقات إتمام الوحدة، وأننا بدخولنا للاتحاد القومي التنظيم البديل عن الاحزاب سوف ننتقل بأفكار البعث وكوادره إلى مستوى جماهيري أرحب وأوسع ونجسد هذا العمل القومي فيه بالإضافة إلى أن هذا التنظيم سيكون صلة الوصل بيننا وبين قيادة عبد الناصر..، وبالفعل إنفض المؤتمر.. وحُلّ الحزب دون شعار أو بيان عن المؤتمر.
وبالنسبة لي.. فقد كنت مع الوحدة بكل كياني ومع قيادة عبد الناصر التي كانت قد تقدمت علينا كثيراً وأصبحت قيادة للجماهير العربية ولكل القوى الوحدوية، ولكنني في الوقت ذاته لم أكن على قناعة بضرورة إلغاء الأحزاب كضمانة للوحدة.. خاصة وأن صورة البناء الديمقراطي والتنظيم السياسي للدولة الجديدة لم تكن واضحة أمامنا، بالإضافة إلى الحيرة التي انتابتني تجاه السؤال البديهي: ماذا بعد الحزب وإلى أي موقع نتجاوزه ونحن قد وضعنا كل آمالنا وأفكارنا فيه؟
- ولكنك قمت بإصدار جريدة البعث واستمر نشاطها حتى بعد ذلك؟
□ نعم ولكن دون ارتباط حزبي.. فقد تركت الحزب أنا ومجموعة من الأصدقاء ولكننا أخذنا جريدة الحزب ومكانتها- وكنا تقريباً المهيمنين عليها من قبل- وبعد ثلاثة أسابيع من الوحدة أصدرنا الجريدة بعد رفع شعارات الحزب، وكان العنوان الرئيسي لهذا العدد (هذه المرحلة شعارها الاتحاد القومي)، وتحت عنوان وجهة هذه الجريدة تم طرح تصورنا وموقفنا ودورنا الذي نريده كهيئة تحرير..، وركزنا على وحدة خطنا القومي في التفكير كفئة من الشباب وطالبنا بأن تكون الجريدة منبراً للحوار الفكري والسياسي الديموقراطي لكل من يناضل من أجل هذه الأمة ورفعتها..
- ما هي القاعدة الفكرية التي كانت خلف قراركم هذا؟
□ كانت انطلاقتنا على قاعدة الالتزام بقيادة عبد الناصر الثورية والتسليم بأن صيغة الأحزاب الوطنية السابقة بما فيها التقدمية لا تستطيع أن تعبئ الجماهير وتقودها في دولة الوحدة بل أن تشرذمها وصراعاتها قد تنعكس على الجماهير وحركتها..
وكان أمامنا شعار (الاتحاد القومي) كتنظيم سياسي جماهيري، وبدأنا في مناقشة إمكانيات تطويره ليصبح تنظيماً شعبياً ديموقراطياً وثورياً أيضاً، وناقشنا سلبيات التجربة- الاتحاد القومي- في مصر..، وبدأنا في كتابة تصوراتنا وآرائنا في هذا المجال ونضع الضوابط التي تحمي التنظيم من دكتاتورية الحزب الواحد أو الفئة أو الفرد، وكنا نسعى من خلال هذا المنبر أن نقيم حواراً مع القيادة الثورية الفعلية- عبد الناصر-، ولكن سرعان ما حالت الأجهزة والبيروقراطية دون استمرار الحوار أو حتى استمرار الجريدة..
- ما هي ملابسات هذا الموقف؟
□ كنا قد فتحنا النيران على الصحف الفردية السورية- وهي المتاحة- وما ورائها من قوى رجعية بالداخل والخارج، ثم بدأنا نهاجم هذه القوى الانتهازية ونفضح مخططاتها المعادية لدولة الوحدة وتظاهرها بالولاء المخادع!
بدأت أجهزة الحكم تضيق ذرعاً بنا، وأخذت القيادات البعثية خاصة المشاركة في الحكم- مجموعات عفلق والحوراني والبيطار- تشعر بتجاوزنا لها.. وأن خطنا يتسبب في إحراجها، وبالرغم من ذلك حاولنا الاستمرار، ولكن بعد حين توقفنا لأن الترخيص كان باسم المرحوم صلاح البيطار، وبعد هذه المحاولة التي انتهت في آخر شهر أيار- مايو- 1958 انفرط عقد المجموعة وبدأ كل منا يتوجه إلى عمله وينتظر ما ستأتي به الأيام..
- لماذا لم تتوجه إلى النشاط السياسي والجماهيري؟
□ الساحة السياسية في سورية كانت خالية.. فالاتحاد القومي لم يتشكل بعد والحزب ما زال على قراره في الحل وولائه لعبد الناصر، أما ما يجري في السر- كالحزب الشيوعي مثلاً- فإن نشاطه غالباً ما يكون سلبياً.. يزرع الشكوك، أما الأجهزة البيروقراطية فقد كانت تقيم من آن لآخر بعض الأنشطة التي تعتمد فيها على إقامة روابط وصلات متناقضة، ولم يكن هنا مجال إلا بعودتي إلى المستشفى وممارسة مهنتي كطبيب..
- السؤال الرابع ويدور حول الصحافة والإعلام في الوحدة، فقد كانت هناك مبادرة لجريدة ((الجماهير)) في دولة الوحدة وكنت رئيساً للتحرير فيها، هل يمكننا الإطلالة عليها؟
□ لم تكن مبادرة من شخصي رغم أنني صاحب الامتياز ورئيس التحرير، ولكن كانت رغبة من الحكومة المركزية الجديدة بالتنسيق مع الإقليم الشمالي- سورية- وذلك بإصدار صحف جديدة، وعندما أتى أكرم الحوراني- كنائب للرئيس- إلى دمشق لمناقشة الأمر مع الأستاذ رياض المالكي كوزير للثقافة بالإقليم الشمالي، تم الاتفاق على إصدار ثلاثة صحف، اثنان في دمشق وواحدة في حلب، وكانت رغبة القاهرة أن يكون الترخيص الأول لشخصية وطنية مستقلة، والترخيص الثاني لشخصية بعثية سابقة، واتفق على الأستاذ راتب الحسامي كوحدوي معروف للترخيص الأول، وبدأ البحث عن إحدى الشخصيات البرلمانية البعثية لهذه المهمة ولكن الترشيحات المختلفة رفضت هذا العبء وتلك المسؤولية..
وكنت أشارك معهما في المناقشات حول طبيعة ودور هذه الصحف وفي اختيار العناصر وترشيحها، إلى أن فوجئت بعد زيارتهما للقاهرة أن جاءوا وكلفوني بهذه المهمة.
- هل كان هذا التغيير نتيجة رأي خاص من عبد الناصر؟
□ نعم فقد قص لي رياض المالكي أنه عند لقائه بعبد الناصر لعرض ما تم والترشيحات التي اتفق عليها للصحف، سأله عبد الناصر وقال له: هل هذا كل ما عندكم في البعث؟ ثم فتح مكتبه وأخرج ملفاً به قصاصات صحف ومقالات.. وأبرز له لائحة بعشرة أسماء على رأسها شخصي، وعندما أبلغه المالكي برفضي للنشاط وتركيزي على مهنتي مع استعدادي للمشاركة فقط بالكتابة رد عليه عبد الناصر قائلاً (انه ينادي في الصحف بمواقف الالتزام.. فكيف يكون الالتزام والنضال عنده؟)، وكانت هذه الكلمات بمثابة اختبار وتحدي لي.. وسرعان ما أقدمت على هذه التجربة.
- كيف ومتى بدأت الجريدة تصدر عددها الأول؟
□ كان عبد الناصر يلح على صدور الصحف الجديدة وكنت قد أدركت صعوبة الطباعة وأبلغت المسؤولين فأحالوني إلى الجيش حيث يمتلك مطابع حديثة وخاصة بمجلات ومطبوعات عسكرية، ثم سافرت إلى القاهرة أكثر من مرة وساعدني في تذليل العقبات المادية والإجرائية الوزير عبد القادر حاتم بعد تقديم من صلاح البيطار- وزير الثقافة في الحكومة المركزية- بينما لازمني صديقي سامي الدروبي- نائب وزير الثقافة المركزية- في كل تحركاتي، وقد استعنت بخبرة صديقي أحمد بهاء الدين/ بروز اليوسف/ في المجال الصحفي ومعرفة الأخوة المصريين، وبالفعل وخلال وقت قصير نسبياً خرج العدد الأول في 23 نيسان- أبريل- 1959 وخرجت في شكلها الفني على نمط جريدة الجمهورية القاهرية التي أخذت الشكل عنا، ذلك عبر إبراهيم نوار الذي شارك معنا ثم عاد فيما بعد ليرأس تحرير جريدة الجمهورية فنقل تجربته معنا إليها..
- كان هناك أخوة من الصحفيين المصريين بالتجربة: من هم؟
□ الأخوة الصحفيون من مصر الذين شاركوا في هذه التجربة هم الأستاذ عبد السلام الشريف في الإخراج الفني ((ووضع الماكيت))، والكاتب الصحافي محمد عودة، والكاتب الصحافي رجاء النقاش والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بالإضافة إلى الأستاذ سعد زغلول فؤاد وحمدي قنديل وإبراهيم نوار..، وللحقيقة فإن قسماً منهم لم يكن على قاعدة الاستمرار بل المساعدة في الفترة الأولى- كنوار وعبد السلام- وقسم منهم لم يكن الوزير عبد القادر حاتم مرتاحاً لاستعانتي بهم لانطباعه عنهم بيساريتهم!!
- ومن من الأخوة السوريين؟
□ من سورية كانت المجموعة من الأصدقاء الوحدويين الطليعيين، بعضهم بعثيون وبعضهم غير بعثيين، لكنهم كانوا جميعاً من أشد المؤمنين بالوحدة وبالحرية ودور الكلمة الصادقة والفكر..، منهم نخلة كلاس- الياس مرقص- ياسين الحافظ وصدقي اسماعيل وأميل شويري وآخرون..، وكانت تجربة صحفية وحدوية وتقدمية سواء في تشكيلها أو في توجه الجريدة وقضاياها التي طرحتها، وللأسف لم تدم التجربة سوى مائتي يوم فقط.
- من الواضح أن مدة التجربة قصيرة، وأن هناك معوقات وقفت وراء إلغائها، فمنذ متى بدأت تظهر هذه المعوقات في الأفق؟
□ منذ العدد الثالث بدأت الصحف الشيوعية والصحف التابعة للرجعية ضدي وضد الجريدة، خاصة في لبنان، وما لبثت أجهزة النظام تشكك في نوايانا.. وتوجهاتنا.. ثم أخذت تقيم المعوقات أمامنا..،
- وما هو شأن الأجهزة في أمر جريدة صادرة عن دولة الوحدة؟
□ لأن قرار إلغاء الحزبية تحول لدى هذه الأجهزة إلى تتبع من كان لهم نشاطاً حزبياً سابقاً، وأتت الحملة ضد الشيوعيين لتصعد من الحملة ضد اليسار والبعث بحجة الحزبية، وفي هذا المناخ تم التعامل مع الجريدة ومواقفها..
- ما هي ظروف وملابسات إلغاء الجريدة وتوقفها عن الصدور؟
□ بدأت الحملة على مغالاة الجريدة في النقد وكشف ما هو موجود أكثر مما هو مقبول، ثم بدأت تأخذ شكل الاتهام بالتحيز للبعثيين الموجودين بالحكم ومحاولة إبراز صورتهم، وأخيراً بدأت وزارة الداخلية بمصر تتهمني بأنني جعلت الجريدة ((محمية)) للشيوعيين السوريين والمصريين، ثم دخلت الصحافة في مصر إلى حلبة الهجوم وخاصة مصطفى وعلى أمين، وقد وجدت فيما بعد مظاهر عديدة للحصار وتضييق الخناق من الأجهزة، بل وفي زيارة إلى القاهرة لمحاولة مواجهة الموقف اصطدمت مع بعض الصحفيين السوريين الرجعيين في وجود عبد القادر حاتم فأخذ يلومني على هذا الموقف، فطرحت عليه رغبتي في التخلي عن الجريدة فقال لي: هذه جريدتك الخاصة فتصرف وابحث عن الحل..،
وعندما عدت إلى دمشق وجدت أن المصرف قد تلقى أمراً بالتوقف عن صرف شيكات الاعتماد المرصودة لتغطية نفقات الجريدة، واتخذنا قراراً بالتوقف.. فاتصلت بالسراج وزير الداخلية السوري لتشكيل لجنة لاستلام تركة الجريدة، وحدث هذا بأسرع مما تتصور.
- إن هذا الأمر يطرح تساؤلاً طرح من قبل في مصر وما زال مطروحاً.. أين عبد الناصر؟ وهل كان يعلم ما يحدث؟
□ في حديثي مع السيد أكرم الحوراني- نائب الرئيس- والذي كان مرتاحاً للثقة والسلطات التي خولها له عبد الناصر قال لي أنه لا يستريح للأجهزة الأمنية التي يعتمدها.. وهي ليست على مستوى خطورة المرحلة، وعندما سألته عن موقف عبد الناصر هل يعلم؟ ولماذا لم يحدثه؟، فقال لي أنه كاشف عبد الناصر، في هذه المسألة ووجد لديه تفهماً ورفضاً لهذه الأساليب، بل في إحدى المرات الأولى أعددت سلسلة حلقات من التحقيقات وطلبت موافقة عبد الناصر لخطورتها، وعندما سافر الحوراني بها اتصل بي من مكتب الرئيس وقال أنه وافق على النشر فوراً، وفيما بعد اشتكى الحوراني من محاولات بعض العناصر في الوقيعة بينه وبين عبد الناصر، وكان رأي صديقي المرحوم عبد الكريم زهور بعد حوار طويل معه أن الوحدة كانت أملنا ولكن التجربة الآن في يد البيروقراطية والأجهزة الأمنية وأية محاولة للصدام معها يفتح ثغرة في هذا البناء، وبالرغم من أن الذي يتم ليس له علاقة بعبد الناصر أو فكره الثوري أو توجهه الاجتماعي.. فعلينا أن ننتظر..
- في مباحثات الوحدة الثلاثية هناك إشارة لجماعة الصمت موقف، هل كان المقصود بها أنت ورفاق المرحلة- زهور، الدروبي.. الخ؟
□ نعم.. عندما توصلت مع أخي المرحوم عبد الكريم زهور إلى تحليل المرحلة والمخاطر الخارجية والداخلية، وسيادة عقلية كمال الدين حسين وعبد القادر حاتم وغيرهما في إدارة المجتمع وعلى النقيض من عقلية الرئيس، وجدنا أن الحل الوحيد المتاح لنا هو الاعتصام بالصمت كتعبير عن الاحتجاج، وبالفعل كتبت مقالة افتتاحية في جريدة الجماهير تحت عنوان ((الصمت موقف)) وتعرض سريعاً للحديث الذي دار بيني وبين المرحوم زهور وما وصلنا إليه من موقف..
في مباحثات الوحدة الثلاثية نيسان- ابريل- 1963 وفي سياق المراجعة النقدية لتجربة الوحدة والانفصال وأتى على تجربة الجريدة- الجماهير- وما وصلنا إليه في النهاية من موقف صيغ في مقالة (الصمت موقف)، وبالرغم من الاختزال الشديد لهذا الجزء في المباحثات إلا أن تعبير ((جماعة الصمت موقف)) ظل يستخدم ممازحة من الرئيس وغيره أثناء سير المباحثات لعبد الكريم زهور..
- هل هذا الموقف الصامت استمر حتى مع جريمة الانفصال؟ وماذا كان موقفكم آنذاك؟
□ بالطبع لا .. فمنذ اللحظة الأولى للانفصال لم نصمت.. فالصمت في هذه الحالة قبول بالانفصال وتأييده، لقد تحركنا بسرعة ودون اتفاق- تلك المجموعة المتفقة في المواقف والرؤيا وجمعتها صحبة الكتابة والنضال- وبدأنا في حملة ضد الانفصال وضد كل من أيده أو تعاطف معه حتى من رفاق حزبنا القديم، وبدأنا ننشط فكرياً وأصدرنا مجموعة دراسات سياسية ونظرية وترجمنا بالإضافة إلى المشاركة مع مندوب الثورة الجزائرية بدمشق- عبد الحميد المهري- وفي إقامة الندوات وإلقاء المحاضرات عن الثورة بالإضافة إلى تجميع بعض الأطباء للتطوع في صفوف الثورة.
- ولكن هل كانت هناك تحركات/ كتابات مباشرة ضد الانفصال؟
□ نعم كتبت في هذه المرحلة كثيراً.. وأذكر أنني في ذكرى الانفصال 28 أيلول- سبتمبر- كتبت في جريدة البعث في الصفحة الأخيرة مقالاً بعنوان ((دم العمال)) وذكرت فيه كيف أن العمال تحركوا مع جماهير الشعب من مواقع مختلفة يوم الانفصال دفاعاً عن الوحدة، وكيف قهرت السلطة العسكرية والبوليسية هذا التحرك وأغرقت جماهير العمال في بحار الدم بحلب…
هذا العدد تم مصادرته ثم أعيد طبعه بدون المقال، وإذا بكل المطابع في حلب تعيد طبع المقال منفرداً وتوزعه كبيان في كل الأوساط العمالية بحلب وخارجها..، مما دفع رئيس الوزراء آنذاك للسؤال عن كاتب هذا المقال، واعتبر كتابته تحريضاً للتمرد الدموي ضد الحكم القائم..
وقد شاركت في الدعوة لخلق تحالف بين القوى الناصرية والبعثية من أجل مواجهة الانفصال خاصة وأن النظام الانفصال كان قد وصل إلى مرحلة الاستسلام وانتظار من يأتي ليستلم التركة منه، وطالبت بوضع برنامج وميثاق لهذه الجبهة ويشمل تصورات الحكم..
- وهل تم إعداد هذا الميثاق؟
□ لا .. فقد اندفعت حركة 8 آذار- مارس- 1963 وسرعان ما برز التآمر البعثي عل الناصريين وعلى هدف الوحدة التي دفع الشعب ضريبة إسقاط الانفصال من دمائه ودم شهدائه من أجل عودتها..
- ننتقل الآن إلى السؤال الخامس والأخير في هذا الجزء: ما هي الأسباب الحقيقية والتي كانت داخل تجربة الوحدة وأفسحت الطريق للانفصال؟!وبالتحديد الأسباب التي لمستها.. أو الأسباب التي تراها الآن بعد هذه المرحلة التاريخية الطويلة؟
□ هناك أسباب عديدة.. ولكننا بعيداً عن التفاصيل والتي تحتاج إلى وقفة طويلة يمكننا إجمال الأسباب أو بعضها كما نراها:
أولاً: غياب التنظيم السياسي الذي يسد الفجوة بين الجماهير والزعيم، فبحل الأحزاب لم تعد هناك قوى منظمة ووحدوية تقوم بهذا الدور، والاتحاد القومي امتلأ بالرجعيين والاقليميين والعشائريين بينما حوصر الملتزمين بقيادة وثورة عبد الناصر، فحتى الاجراءات التي اتخذت في مصر لحماية الاتحاد من دخول الاقطاع والرأسمالية لم تطبق في سورية..
ثانياً: تضخم الجهاز الإداري البيروقراطي والأمني دون استيعابه لموضوع الوحدة ومعطياتها وحاجاتها لإقامة دولة، وإذا كانت بعض الاجراءات ضرورة.. فإن مجمل نشاطها- أي الأجهزة كان سلبياً، بل أخذت دورها كأداة رقابة وضبط وراحت تنقل للقيادة صورتها الخاصة عن الواقع مما دفع بالقوى الانتهازية للتهافت عليها وتقديم ما تريده من زعزعة الثقة في الوحدويين وإقامة العوائق أمام قنوات الاتصال بين أولئك المخلصين وبين قيادة عبد الناصر..
ثالثاً: الانقسام داخل معسكر اليسار بين الشيوعيين والقوميين خاصة مع مرحلة الصراع الذي فرضه عبد الكريم قاسم بالعراق، هذا الصراع ألقى بتبعاته على دولة الوحدة، وأذكر أنني في جريدة الجماهير ومنذ العدد الأول كتبت سلسلة ضد الشيوعيين في العراق وسورية ودورهم ضد الوحدة..
رابعاً: الانقسام داخل القوى القومية ذاتها خاصة بين الناصريين والبعثيين، بل وبين البعثيين أنفسهم الذين تفاوت موقفهم من القاهرة وعبد الناصر وتفاوتت مواقفهم من أخطاء دولة الوحدة في سورية، فبينما كانت أغلبية القواعد مع عبد الناصر والوحدة كانت هناك قيادات تتحرك ضد الوحدة بنقمتها على الحكم حتى ولو أدى الأمر للانفصال، وبينما كان هناك قسم يتعاون ويدخل في دائرة الحكم والدولة، كان هناك قسم يتحفظ على السلطة القائمة في الدولة وتصرفات الأجهزة لكنه يرفض اتخاذ أي موقف يهز أو يفتح ثغرة في جدار الوحدة..
بالطبع هناك القوى الخارجية من استعمار عالمي ورجعية محلية، وكانت هناك مصالح أضيرت للفئات والطبقات التي خضعت للتأميم أو للتحديد في الملكية، ولكن كل هذا ما كان يؤثر لو أن دولة الوحدة قد تحصنت وقواها قد اتحدت.. وجماهيرها قد نظمت..
يتبع..
التعليقات مغلقة.