ميشيل كيلو *
لم يُفد السوريون من خبرات وأدوار رجال القضاء والقانون الذين انضموا إلى ثورة الحرية، وما أكثرهم! مع أن هؤلاء ضموا رجالات بارزين في العمل القضائي والقانوني، كشيخهم نصير الإنسان وحقوقه القاضي والقانوني البارز هيثم المالح، الذي استقال من منصبه احتجاجًا على قرار تبعيث القضاء، بعد استيلاء اللجنة العسكرية على انقلاب الثامن من آذار، وآثر قضاء أعوام عديدة في السجن كي لا يخدم سلطة مستبدة دمّرت القضاء وسيادة القانون، وظلّ يواصل مقاومته لنظام الاستبداد طوال خمسة عقود، أُدخل خلالها مرات عدة إلى السجن. وحين انفجرت ثورة الحرية؛ انضم إليها بجميع جوارحه وقدراته، شأن مئات الحقوقيين السوريين، وتقدّم بعدد كبير من الاقتراحات الخاصة بمأسستها وتحويلها إلى نظام بديل للنظام الأسدي، بينما غطت أنشطته كل ما له علاقة بشرعنة التمرّد العظيم وترقيته إلى مستوى ثورة جديرة باحتلال موقع الأسدية في المنظمات العربية والإقليمية والدولية، باعتبارها ممثلة شعب اعترف المجتمع الدولي به، ولا بد أن يزيل الأسد عن مواقعها، ليكون بحق الممثل الشرعي لمجتمع ودولة سورية، وينهي اغتصاب الأسدية لهما في العالم الفسيح، وسورية.
لم يُفد الائتلاف من خبرات ومقترحات الأستاذ المالح، وعشرات القانونيين والحقوقيين الذين أدركوا أهمية انتقال المعارضة إلى صعيد تمثيلي تغدو فيه قيادة ثورة ودولة، لا مجرد معارضة سياسية تواجه نظامًا همجيًا قلب سياسته إلى حل عسكري وشرع يقتل السوريين بلا تمييز، وقرر المحافظة على السلطة بأي ثمن، لكن المعارضة لم تدرك أهمية انتقالها إلى بناء دولة بديلة، حاضنتها الحرية والعدالة والمساواة وكرامة الإنسان، تمارس سياسات تلتزم بهذه القيم، وتحمي الحريات الفردية والعامة بقوة الدستور والقانون، وهما جزء تكويني من النطام الديمقراطي البديل الذي طالب السوريون به.
لم يدرك الائتلاف وغيره من مؤسسات المعارضة خطورة مسخ السلطة البديلة إلى مجالس محلية، تخضع لنزوات مسلّحي مناطقها، فلا قانون ولا عدالة ولا مساواة وحرية، بل سيطرة للعلاقات التقليدية في إطار يديره أمراء الحرب، بقدر غير مسبوق في التاريخ السوري من الفوضى والارتجال والعشوائية، غيّب جميع المظاهر التي تدل على حدوث ثورة في سورية، حيث حلّ هؤلاء محل النظام الأسدي، وأخذوا بممارساته في حالات كثيرة، حتى ضج الشعب وشرع يقول: “كنّا بأسد واحد، فأصبحنا بالمئات”!
بغياب فكرة الدولة البديلة، دولة الثورة، غابت الحاجة إلى القانون ورجالاته، الذين تحولوا إلى جهة تثير مقت المعارضة، لأنها تذكرها بقيم الثورة، وتدينها كسلطة أمر قائم محدودة، أو عديمة الصلاحيات، في ما يتعلق بالمجالس المحلية وأمراء الحرب، وغياب القانون وما ينجم عنه من عيوب تشوب عملها، بيد أن المعارضة دأبت على التطنيش، وسعت، في الوقت نفسه، للطعن في كفاءة القانونيين، وخاصة الذين انتموا منهم إلى الائتلاف، أو إلى اعتبار ما يقترحونه نوافل لا حاجة بهم إليها، من شأنها أن تقوّض “الثورة”، وتجرهم إلى مواقف محكومة بدور ونفوذ القانونيين، تقلّص أدوراهم ونفوذهم، وتسيء إلى ما يدّعون أنه “الثورة”.
لم يكن إهمال القانون ودوره في الثورة الأمر الوحيد الذي تجاهلته المعارضة، فهي لم تنجح في التعاطي مع أي قضية من قضايا الصراع مع الاستبداد، ولو أنها نجحت لما واجهت ما آلت إليه من تدهور في مكانتها، وعزلة في علاقاتها، وجمود في دورها، ولما أمكن القول إنها ستخرج صفر اليدين من صراعاتها الفاشلة، وأن طبول الإصلاح التي تدقها في أيامنا تطرح السؤال حول أهلية الجهة التي ستقوم به، إن كان من يقومون “بالنزهات الإصلاحية” هم أنفسهم الذين تسببوا في الكوارث التي نزلت بالعمل الوطني، وكان بعضهم يعدّ -إلى الأمس القريب- الدعوةَ إلى “الوحدة الوطنية” ضربًا من الكفر، فأي وحدة وطنية مع الذين يجب “الجهاد” ضدهم: اليهود والنصارى والعلويين والإسماعيليين والدروز والشيعة وسواهم من الرافضة؟!! وأيّ قانون ودولة قانون، إذا كانت لديهم فتاوى ابن حنبل وابن تيمية، بطابعها الإلهي الذي لا بدّ من تكفير من لا يأخذ به؟! وأي قانون سيقبله أو يحترمه أعضاء في الائتلاف، لطالما رأوا في تنظيم (داعش) و(النصرة) جيشًا وطنيًا، وفي الدعوة إلى بناء جيش وطني محاولة لبناء صحوات، كتلك التي غدرت في العراق بالمجاهد الكبير “أبي مصعبٍ الزرقاوي”، غفر الله ما تقدّم من ذنوبه وما تأخر! وأي إصلاح يمكن أن ينجح بعيدًا عن دور تأسيسي جديد، ينضوي الائتلاف فيه ويلتزم به، إن بقي هؤلاء أعضاء فيه، بل كانت لديهم الجرأة على دعوة السوريين إلى إصلاح ما لعبوا أخطر الأدوار في تخريبه: العمل الوطني السوري، المنضبط بالقانون، وقدّم السوريون ملايين التضحيات في سبيل ثورته!
يبرز دور القانون ورجاله بصورة خاصة في أيامنا، بسبب تراجع الثورة في الداخل السوري، ودخولها في طور انهيار نهائي، سيكتمل إذا ما فشلت خطط الرئيس التركي وحروبه، أو فقد أغلبيته النيابية، وصعدت أحزاب المعارضة (الكارهة للسوريين) إلى السلطة، أو إذا لم يبادر الائتلاف إلى إقامة علاقات تحالفية مع الدولة التركية، لا مع أحد أحزابها الذي بيده اليوم مصير القضية السورية وقطاع واسع من الشعب السوري.
بما أن استمرار الثورة يتطلب تحولًا في العمل الوطني يحتوي تراجعه في الداخل، عبر بناء ساحة خارجية لها، فإن تأسيس دائرة قانونية، تسهم في مواصلة معركة الحرية، يصبح ضرورة لا بد أن يبادر القانونيون من محامين وقضاة إلى التفاعل بإيجابية قصوى معها، من خلال إنشاء مكاتب تابعة لها في كل مكان وموقع، وخوض ما تجاهل الائتلاف خوضه: معركة حقوق الإنسان السوري، والعمل لانتزاع تمثيله من النظام الغاصب، ومحاكمة قادته ومسؤوليه المجرمين، وأشباههم في “المعارضة”، من أمثال أبو عمشة والذين على شاكلته، وعقد محكمة دولية إنسانية للأسد، وإقناع العالم بأن هزيمة الثورة مستحيلة، لأن العالم مليء بالسوريين المخلصين لها!
إن للقانونيين السوريين دورًا حاسمًا في رفع تهمة الإرهاب عن الثورة، وفي شرعنة نضال شعبهم وحماية حقوقه، حتى في المهاجر، ولا مفرّ من أن يبادروا إلى ممارسة دورهم، في الصفوف الأولى لثورة الحرية، حيث المكان الوحيد اللائق بهم.
* كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.