خطيب بدلة *
أراد الملياردير المُقْعَد، رامي مخلوف، أن يوحي للناس أن والده صاحب الإمبراطورية المالية المرعبة، الذي مات قبل أيام، كان غنياً أبا عن جد، وكابراً عن كابر.. لم يُدل رامي بهذا التصريح (المستفِزّ لآل الأسد الذين كانوا يرتعون في خانة الفقر)، مثلما يفعل السياسيون ورجال الأعمال المحترمون، حيث يأتي مراسلو الإعلام ويتحلّقون حول صاحب التصريح، ليقول ما يريد، ويجيب عن أسئلة الصحافيين بطلاقة، فهذا لم يعد ممكناً لرامي مخلوف الآن لسببين: أولهما، أن المخابرات الذين أصبحوا يحتقرونه بعد تنحيته، سيرسلون إليه صحافيين من طرفهم يسألونه أسئلةً الإجابةُ عنها “توديه في داهية”. وثانيهما أن شخصاً مطروداً من دائرة العصابة الحاكمة يجب أن يحمد الله على بقائه خارج السجن، ولم يرسله ابنُ عمته إلى “بيت خالته”!
أصرّ رامي مخلوف، خلال فترة تشليح بشار وماهر وأسماء ثروتَه، على الظهور بمظهر الإنسان التائب، الزاهد، المعتكف على ممارسة عباداته بعيداً عن الناس، لا يبغي سوى ملاقاة وجه ربه الكريم، فكان يظهر في بث مباشر جالساً في مكان متواضع، ووراءه مدفأة حطب، لاوياً رقبته جهة اليمين، ويبدأ بإلقاء المواعظ .. أو يكتب على صفحته بطريقةٍ توحي بأن ذكر الله تعالى لا يفارق شفاتيره، مثلما فعل حينما شكر الذين عزّوه بوالده، إذ كتب: أتمنى من الله أن يسدّد خطاكم، وأن يشكر سعيكم ومواساتكم، وألا يصيبكم مكروه، وأن يديم عليكم أهلكم، ويرحم من فقدتم .. وانطلق متحدثاً عن أبيه، باللغة الورعة ذاتها، واصفاً إياه بالمثقف الراقي، الرياضي، الحنون، الذي ينتمي إلى عائلةٍ من كبار ملاكي الساحل السوري، وهم أغنياء نعم، ولكن قلبهم لله، ينفقون أموالهم على الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل.
لا يستطيع رامي، بالطبع، أن يجيب عن السؤال التالي: ما الذي يجعل رجلاً غنياً مثقفاً راقياً رياضياً، مثل والده، يستقتل، بعد نجاح انقلاب صهره الفقير حافظ الأسد في سنة 1970 للحصول على منصب مدير عام مؤسسة الريجي الخاصة بصناعة التبغ وتصديره؟
في شهر مايو/ أيار الماضي، بعد ظهور الخلافات ضمن الأسرة المالكة إلى العلن، ظهر رجل الأعمال السوري، فراس طلاس، على شاشة روسيا اليوم (اللقاء الذي حذفته القناة بسبب خطورته)، وشرح، بالقلم والدواة، سيرورة تحوّل محمد مخلوف من فاسد صغير في مؤسسة الريجي إلى مدير للإمبراطورية المالية الضخمة الخاصة بعائلتي الأسد ومخلوف، وفق ما يلي..
في سنة 1975، بدأت أموال خليجية تتدفق على سورية، فتأسّست مجموعة من الشركات التي تعمل في التجارة والسمسرة وخلافه. استمر هذا الوضع حتى سنوات الحرب مع تنظيم الطليعة المقاتلة 1979، 1980، 1981، وتوقفت أموال الخليج، فشعر النظام السوري بالخطر، وكان أول من استشعر ذلك رفعت الأسد الذي طرح على شقيقه حافظ فكرة أن يكون لدى “العائلة الحاكمة” مالٌ خاصٌّ ينفعها عند الأزمات، مثلما كان الحال وقتئذ حيث الحصار والعقوبات الدولية. اقتنع حافظ بالفكرة، وعلى الفور، استدعى محمد مخلوف، وأطلق يده في تشكيل الإمبراطورية المالية للعائلتين. وفي أواسط الثمانينيات، بدأت شركات النفط الأجنبية تأتي إلى مؤسسة النفط السورية (الحكومية) لتوقيع عقود استخراج وشراء وتصدير، فكانت تُحال إلى الشركات التي أسسها محمد مخلوف، بعد استشارة خبراء بريطانيين وجنوب أفريقيين. وبدأ هذا يفرض على كل من يطلب توقيع عقد نفط نسبةً محدّدة هي 7%، مع أن العمولات المتعارف عليها عالمياً لا تتجاوز 1%، ولكنه كان يخفّض سعر النفط للمشتري بهذه النسبة، ثم أضاف مجموعة من التعقيدات، حتى أصبح العقد الذي يبلغ 500 مليون دولار يرد منه 300 مليون إلى صندوق مؤسسة النفط السورية، والـ 200 مليون المتبقية تذهب إلى صندوق العائلة الذي يديره المثقف، الراقي، الرياضي، فاعل الخير محمد مخلوف!
* قاص وسيناريست وصحفي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.