محمد برو *
الأكاديمي السوري الدكتور برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون الفرنسية ، شغل منصب أول رئيس للمجلس الوطني السوري، ربما يكون أجرأ المعارضين السوريين في القيام بمراجعةٍ واسعةٍ لمجريات عمل المعارضة السياسية من خلال كتابه “عطب الذات” الذي أحدث زوبعة من الآراء المتفقة والمختلفة معه، لكنّ أحداً لم يقم بمراجعة موازية يقدم للسوريين كشف حساب بما فعلته المعارضة، التي تسلمت إدارة الملف السوري داخلياً وخارجياً، وكانت عاملاً إضافياً من العوامل التي أفضت إلى الفشل الذي آلت إليه ثورةٌ قدمت ملايين المهجرين ومئات ألوف الضحايا وعشرات عشرات آلاف المعتقلين والمغيبين .
في إسطنبول ” عاصمة اللجوء السوري ” إن صح التوصيف ، التي تضم أكبر عددٍ من اللاجئين السوريين، كان لجريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية الإلكترونية حوارًا خاصًا ، عميقا وحيويا مع الدكتور غليون ، السياسي تارة والأكاديمي تارة اخرى ، والإنساني المتعمق في علوم المعرفة وقضايا المجتمع ، ألتقته ” الناس نيوز ” في مكتبة الشبكة العربية ، التي باتت مركزا محوريا لرواد المعرفة في تقاطعات الشرق والغرب ، فقد أصبحت معلماً ثقافياً عربياً من معالم إسطنبول، وفي حوارنا معه توضحت أكثر ملامح الخبير المعتدل، الذي يأخذ الأمور بتعقلٍ مؤلم، يحزنه ويرهقه ما آلت إليه أحوال السوريين وثورتهم، يتجمل بالصبر كي يبقى مؤمناً أن نوراً لابدَّ سيظهر في نهاية النفق، وإن تطاولت به الأزمنة.
ننتقده فيحاججنا، نقسوا عليه كي ينطق رحيق الافكار ،،، خرجنا في نهاية الأسئلة نحو تقاسيم خاصة في شخصية المفكر والباحث برهان غليون كي نتوغل في حياته الشخصية .
- في كتابك عطب الذات، تُحمِّل المعارضة السورية جريرة الفشل، هل تعتقد لو كان أداء المعارضة مختلفاً، لكان الموقف الدولي مختلفاً بشكلٍ أكثر فاعلية ؟
على الأغلب، مهما كان أداء المعارضة، لم يكن لدينا أمل في أن نحقق انتصاراً فعلياً على كوكبة القوى، التي تقاطعت مصالحها في إفشالنا. لكن ما كان من المحتمل أن نحققه لو نجحنا في توحيد قوانا، والعمل تحت قيادة سياسية موحدة وفاعلة ، هو أن نغير من طبيعة الفشل إذا شئت ، ونخفف من عدد الضحايا وحجم الكارثة الإنسانية والحضارية ، وأن نبقى فاعلا مستقلا حتى النهاية ولا نضيع القضية. وهذا ما ذكرته في “عطب الذات” عندما كتبت أنني قصداً تعمدت التركيز على العوامل الذاتية، لأننا من خلالها نستطيع أن نغيِّر مسار العوامل الموضوعية، التي لا قدرة لنا على التحكم بها، من دون الارتفاع بأدائنا إلى مستوى أعلى. وذكرت أنَّ المعجزة في التسامي على تأخرنا السياسي كنخبة لم تحصل لسوء الحظ.
ووفق تعبيره للناس نيوز يقول الدكتور برهان ينبغي إذن التمييز بين الفشل في تشكيل قيادة سياسية واحدة وفعالة وذات صدقية، والفشل في تحقيق غاية الثورة حتى الآن، والذي كان وراءه بالدرجة الأولى تقاطع مصالح استثنائي وغير مسبوق، لثلاث قوى مطلقة الصلاحية في عدائها لتحرر الشعب السوري وبناء حكم يمثل الشعب ويخدم مصالحه، بالإضافة الى شلل النظام الدولي: أولها نظام الأسد الذي استمر منذ أربعين سنة يعد ويحشد القوى والمعدات لخوض هذه المواجهة المنتظرة مع شعب تعامل معه كحشد من العبيد، وثانيها إيران ولاية الفقيه التي اعتمدت استراتيجية زرع الفوضى والخراب في المشرق العربي، للسيطرة على ما أطلقت عليه اسم الهلال الشيعي، وتحييد القوى الإقليمية الأخرى، وفرض نفسها شريكاً وحيداً للغرب فيها، وتخليص نفسها من الحصار المفروض عليها منذ ولادة نظام ولاية الفقيه من دون تنازلات، وثالثها التفاهم الاستثنائي بين واشنطن وموسكو حول التخلي عن الثورة والتضحية بسوريا على مذبح مصالحهما وتصالحهما أيضاً، بعد حرد روسي طويل.
وأخيرا حالة العطالة غير المسبوقة التي وسمت النظام الدولي وشَلّت منظمة الأمم المتحدة بعد تخلي واشنطن، القوة العالمية الأعظم، عن مسؤولياتها، وعقد الرئيس الأمريكي باراك أوباما الصفقة المشينة مع طهران للحصول على اتفاق في الملف النووي على حساب أرواح السوريين ومستقبلهم ومستقبل وطنهم.
تقاطع هذه العوامل الأربعة، لم يبق للثورة والمعارضة أي هامش لمبادرة استراتيجية. ولو أن أحد هذه العوامل اختلف لاختلفت النتيجة أيضاً، وربما تغير وجه الصراع بأكمله.
كان من المحتمل، على سبيل المثال، لو نجحنا في تشكيل القيادة السياسية الموحدة والفاعلة، أن نمنع مثل هذا التقاطع المدمر لمصالحنا بين النظام وطهران والدول الكبرى، واشنطن وموسكو، وربما ما كان الغرب بأكمله وقف إلى جانب التدخل الروسي وأيده، كما كان بإمكاننا بالتأكيد أن نستفيد بشكلٍ أفضل من تعاطف المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وأهم من ذلك أن نحافظ على وجودنا كفاعلٍ مستقل، وصاحب قضيةٍ مقدسة.
تهافتنا التنظيمي حرمنا من أن نستفيد من هذه القداسة، التي هي رصيدنا الوحيد، لأنها مجبولة بدماء شهدائنا، لنردع القوى الثلاث المتقاطعة المصالح، عن التمادي في عدوانها، وربما تفعيل القوة الدولية التي تكونت من عشرات الدول التي أعلنت دعمها للشعب السوري، لمواجهة قوى الشر والعدوان.
نعم نحن مسؤولون عن الفشل في إيجاد قيادةٍ سياسيةٍ موحدةٍ وفاعلة، تدافع عن قضيتنا وتحفظ حقوقنا في مواجهة الفاعلين الآخرين، الذين استهدفوا الثورة وسوريا ومستقبلها أيضا. لكنَّ المسؤول عن تدمير سوريا وعن حرب الإبادة الجماعية، وعن الدمار والخراب الذي نجم عن ذلك، هي القوى الثلاث التي ذكرت. ذنبنا أننا لم نعرف كيف ندافع عن أنفسنا. ينبغي أن يكون هذا واضحاً حتى لا نُحمِّل أنفسنا ما ليس لنا طاقة عليه، خاصةً وأنّنا قدّمنا من التضحيات ما لم يقدمه شعب من أجل حريته وحقوقه، ولا نُحمِّل الآخرين أيضا، ولو كانوا أعداءنا، ما تقع مسؤوليته علينا، فنحوِّل أنفسنا إلى ضحايا لا رأي لنا ولا إرادة، ونبرئ أنفسنا من أيِّ مسؤوليةٍ عما أصابنا.
- هناك من يرى أن المنطقة تحتاج لما يزيد عن ثلاثين سنة لتتعافى، أين يجد د. برهان غليون نفسه من هذا ؟
ما من شك أننا دخلنا في حقبة من الاضطراب الكبير، الذي يتجسد في تغييرات عميقة في العلاقات والقواعد والمعايير، بين الأفراد والجماعات، وبضعفٍ واضحٍ للدولة وأي سلطة مركزية في هذه المنطقة. ويتوقف التعافي، أي الوصول إلى حالة من الانسجام والتفاهم والتعاون بين الأفراد والجماعات، إلى وقتٍ، حتى ينسى الناس الماضي ويتلمسوا قواعد بناء حاضرٍ ومستقبلٍ جديدين. لا أدري كم عقد سوف يحتاج ذلك. لكن امتصاص الصدمات المادية والمعنوية، التي عاشتها مجتمعات المشرق في العقود الماضية، وخاصة العقد الحالي لن يكون سهلاً ولا سريعاً.
- تسع سنواتٍ مضت على اشتعال شرارة الربيع العربي، ماذا أحدثت أو طورت هذه السنوات في نظرة د . غليون للمستقبل السياسي لسوريا، وللمنطقة عامةً؟.
ثورات الربيع العربي ليست مفصولة عما سبقها. لقد كانت محاولة أخيرة وشبه يائسة من قبل شعوب غيبت تماماً عن مصيرها، وسحق فيها الإنسان معنوياً وسُطِّح وعيه، وحُوّل إلى إنسانٍ مُسخَّرٍ لغيره، بعد إخصائه المادي والسياسي والأخلاقي، أقول محاولة أخيرة وشبه يائسة من قبل الشعوب المهدورة الحقوق لاستعادة المبادرة والسيطرة على مصيرها، وانتزاع الدولة بعد أن تحولت إلى آلة قهر وقمع وإخضاع، من مغتصبيها، وكتابة تاريخٍ جديدٍ، تاريخها هي لا تاريخ الأسد وزين العابدين والسادات والقذافي الخ وهذا الديكتاتور أو ذاك.
لذلك، هذه الشرارة لا تقدر بثمن، وهي نفسها كانت باهظة الثمن. لكنه ثمن بطاقة الدخول في التاريخ الجديد الذي تسعى هذه الشعوب، التي أُخرجت من التاريخ وعاشت خارجه لقرون طويلة، إلى تدشينه ليكون تاريخها الحقيقي ولتكون شعوباً بتاريخ. وهذا الهدف يستحق الجهد والتضحية حتى لو كان طريق تحقيقه مزروعاً بالشوك والألغام المتفجرة وغير المتفجرة. هذا ثمن الدخول في الحداثة الحقيقية، أي في عصر الحرية والمسؤولية والحياة الأخلاقية الصحيحة تحت مظلة سيادة القوانين المعاصرة .
- هناك من يُحمل تيار الإسلام السياسي (أو تيارات الاسلام السياسي واحزابه) في سوريا فشل الثورة، ما موقفكم من هذا الرأي؟.
استخدم مصطلح “الإسلام السياسي” ليعبر في البداية عن الحركات السياسية التي تستمد أفكارها أو تنسبها للشريعة الإسلامية وتدعو لتطبيقها ليكون نظام الحكم والدولة صالحين من الوجهة الدينية والدنيوية. وقد كُرس هذا المصطلح بشكلٍ مقصود، كي تختلط كل التيارات المتطرفة وغير المتطرفة، شبه الصوفية أو الجهادية، حتى يُحوَّل الإسلام في كل تمظهراته، إلى شبحٍ غامضٍ وغولٍ يهدد الحياة المدنية والسياسية، وتستطيع السلطات القائمة التي تواجه حقبةً عاصفةً من الثورات والانفجارات الشعبية، التي لا تكاد قد بدأت بعد، أن تستخدم خطره، كذريعةٍ لقمع هذه الثورات، والحفاظ على نظم الاستبداد القائمة ولإرهاب الناس وإبعادهم عن العمل بالسياسة، أو الاهتمام والتفكير بالشأن العام، أو الاحتجاج والاعتراض والنقد والمعارضة. وليس من باب الصدفة أنَّ أشدَّ المستخدمين لهذه الفزاعة حماساً وعنفاً، هي السلطات الاستبدادية الخائفة على وجودها، بعد أن أدركت أنَّ الشعوب قد فضحت أمرها وأن سلطتها أصبحت معلقة في الفراغ.
ويقول الدكتور غليون في جوابه لل ” للناس نيوز ” لذلك ينبغي التمييز بين نقد الخيارات السياسية والأيديولوجية للحركات الإسلامية المشروع تماماً، وبين التضخيم المتعمد والمبالغ فيه من الخطر الإسلامي، بهدف حرف أنظار الجمهور عن المشاكل الحقيقية، التي تقف وراء انهيار الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وسوء الإدارة والفساد، واستخدام هذا التضخيم من أجل توجيه الغضب الشعبي، نحو شبح لا يمكن الإمساك به، بمقدار ما هو غير واضح المعالم ولا الغايات.
لا يعني هذا أنَّ بعض تيارات “الإسلام السياسي” ليست خطيرة في مقاصدها وأساليب عملها، فهي كذلك من دون شك، لكن مشكلة المجتمعات العربية ليست وجود التيارات الإسلامية ولكن الأزمات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وانهيار الدولة وحكم القانون، والعسف والاستبداد الذي أغلق أيَّ أفقٍ للأمل لدى الأجيال العربية، والذي لا يمكن فهم وتفسير صعود الشبح الظلامي الإسلاموي من دون حلها.
وقد انتقلت العدوى ذاتها إلى الدول الغربية على شكل “إسلاموفوبيا”، لتقييد حرية الرأي والعمل السياسي للطبقات الشعبية الفقيرة، والتي أصبح جزءٌ مهم منها يتكون في البلدان الصناعية المركزية، أوروبا وأمريكا، من المهاجرين والملونين وحتى من المسلمين. واستخدام العداء للإسلام أو التخويف منه، لاستنهاض المشاعر والكليشيهات القديمة للرجل الأبيض المسيحي، والحر والمتميز والمتفوق ضد الملونين الأشرار.
والواقع أهم دور للإسلاموفوبيا هو إعادة الإنتاج المستمرة للسكان الملونين كأجانب ودخلاء ومختلفين ومتطفلين على المجتمعات البيضاء. وأخيراً، لا ينبغي الاستهانة بأهمية إيجاد خطر إسلامي عالمي يبرر سياسات الإنفاق الاستثنائي على الحرب والعسكرة والتدخلات الخارجية، ويعوض عن الخطر الشيوعي الذي لم يعد ممكن الاستخدام بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بانتظار أن يظهر من جديد ربما خطر الإنسان الأصفر الصيني.
وبالنسبة للمثقفين أو أغلبيتهم، كثيرا ما يستخدم تضخيم دور التنظيمات الإسلامية للتهرب من الاعتراف بالأخطاء والنقائص الذاتية، التي حالت دون بناء قوة تغيير فعالة وناجعة.
والواقع أنَّ الإسلام السياسي، ليس سوى يافطة يوضع تحتها عالمٌ أيديولوجي متعدد، ومتنوع ومتناقض في داخله إلى حد الاقتتال، وربما كانت تناقضاته الداخلية وصراعاته وفوضى تنظيماته، هي التي كانت مصدر الأذى الأكبر للانتفاضة الشعبية، وتقويض صدقية كفاح السوريين التحرري. ويكفي ما يعرفه اليوم الجمهور عن الانقسام المرعب داخل فصائلها والتنازع على القيادات والمناصب، والتخبط الفكري والسياسي، والارتهان للخارج، حتى لم تبق هناك خطيئة لم يرتكبها هذا الفريق الإسلامي أو ذاك.
لذلك ينبغي علينا تفكيك مصطلح الإسلام السياسي، وتسمية المنظمات والأحزاب السياسية الداعية لدولةٍ إسلامية، أو لتطبيق الشريعة أو استخدام العنف بالاسم. كما لا ينبغي مجاراة السلطات والحكومات الاستبدادية في رسم أولوياتها وشعاراتها، ولكن بالعكس بناء استراتيجية مستقلة، وأجندة خاصة ديمقراطية، فضح تكتيكات النظم القمعية وتعريتها، والتركيز دائماً على الأسباب الحقيقية، التي صنعت الأزمات والخراب والدمار، وأنتجت العنف، لا على ردود الأفعال، من دون أن يعني ذلك تبرير هذه الردود. وبهذا يتقدم المعارضون المدنيون وتتقدم القضية ويتعافى الجمهور، ويولد رأيٌ عامٌ واعٍ وصادق مع نفسه ومع الآخرين.
لكن كما ذكرت في الإجابة الأولى، لا أخطاء السياسيين ولا عبث التنظيمات الإسلامية وفصائلها هو المسؤول الأول عن إخفاق الثورة في تحقيق أهدافها، والنجاح في تغيير النظام، ولكن تضافر عوامل متعددة موضوعية خارجية، وذاتية، شاركت فيها أوهام الإسلاميين ومخاوف العلمانيين، والضعف السياسي العميق لجميع السوريين.
- هل يمكن للدكتور برهان غليون العودة مرة أخرى إلى العمل السياسي المباشر، بعد أن استقال منه؟.
بالتأكيد لا, أنا أصلاً لم أكن أرغب في أي عمل أو دور سياسي، ولكني قدمت يد المساعدة للأحزاب السياسية والسياسيين، بعد مرور سبعة أشهر طويلة على اجتماعاتهم من دون جدوى، في عشرات المؤتمرات. وأقنعني الناشطون أنَّ الجميع مستعدون للعمل معي، لكنهم منذ اليوم الأول أظهروا عدم ثقتهم وتخليهم عن وعودهم، ووضعوا العصي في العجلات. وعندما قدمت استقالتي للناشطين الذين انتدبوني لتجميع المعارضة وتوحيد صفوفها، لم أُخفِ أنَّني لن أعود ثانيةً، وأنه لن يكون هناك تقدمٌ ما لم يبادر الجيل الجديد من شباب الثورة إلى تحمل مسؤولياتهم القيادية.
- كيف تقرأ سياسة الدور الفرنسي في الآونة الأخيرة، في لبنان وسوريا والعراق وتونس، وعموم المنطقة العربية؟.
فرنسا تبحث عن موقع لها في صراعات الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، وتسعى إلى الحفاظ على دورها في زحمة القوى الإقليمية، المتنافسة على تقاسم النفوذ، وهي مضطرة لذلك، إلى أن تعمل إلى جانب الحلفاء الكبار “الأمريكيين والروس” في الوقت نفسه.
- وسألت الناس نيوز هل تتوقع انفتاحاً كبيراً في المجتمع العربي، على عملية السلام مع إسرائيل، لأن الناس تعبت من حروب وشعارات، استمرت نحو نصف قرن أفضت إلى حروب داخلية؟.
نعم ولا, نعم لأن الأنظمة الفاسدة والفاشلة سوف تلعب هذه الورقة الأخيرة، للهرب من مواجهة مسؤولياتها في الخراب القائم. لكن في الوقت الذي ترمي المسؤولية على البعبع الإسلامي الذي تخترعه اختراعا في فشل العرب، تحاول أن تتقرب من إسرائيل لتعزيز موقفها تجاه شعوبها، والتهرب من الإصلاحات، لكن هذه المرة بذريعة أنَّ الوطنية العربية المعادية لإسرائيل، هي المسؤولة عن الخراب والدمار الذي وصلنا اليه، وأنَّ التفاهم مع إسرائيل سوف يحقق السلام والنمو والازدهار.
ولا، لسبب بسيط هو أنَّ إسرائيل هي التي ترفض التطبيع والانفتاح على العرب وليس العكس. ولذلك فشلت عملية التطبيع التي مضى عليها أكثر من أربعين عاماً مع مصر. ما يهم إسرائيل هو التوسع في الاستيطان، وتعزيز تفوقها العسكري والاستراتيجي على العرب مجتمعين، ومن أجل ذلك، العمل بكل الوسائل لتحييد العالم العربي، عن طريق تفتيته وضرب بعضه ببعض وتفجير التناقضات الداخلية الطائفية والأقوامية في أقطاره وبينها، واستغلال النزاعات الداخلية والإقليمية، من أجل إضعاف الجميع وقطع الطريق على أي نهضةٍ اقتصاديةٍ أو تقنيةٍ أو سياسية، تنظر إليها على أنها في أيِّ ظرفٍ حصلت، ستشكل تهديداً لأمنها وبقائها.
فتحقيق هدف إسرائيل الاستراتيجي، يتناقض مع أيِّ خيارٍ يقود إلى إراحة العالم العربي، وبسط السلام في المنطقة، والسماح لشعوبها بالتفاهم والتعاون، والتحول إلى قوةٍ قادرةٍ على العمل والإنتاج والمبادرة. وإسرائيل ليست أبداً غريبة على ما يحصل اليوم في المشرق، من حروبٍ وصراعاتٍ داخليةٍ وإقليمية. ولا عن العمليات التي تهدف إلى تفجيرها وتسعيرها. وهي تتلقى الدعم الغربي أيضاً، لهذا الدور الذي تقوم به.
- اليوم هناك احتلالات متنوعة على الأراضي السورية، نتج عنها مناطق مختلفة في المصالح والتفكير والولاءات، أين يذهب مستقبل سوريا؟
هذه كلها عوارض مؤقتة ولا يمكن أن تستمر عندما يستعيد الشعب السوري أنفاسه ويعود لوعيه، ويكتشف حجم الخداع والكذب والأوهام والأحقاد والعنصريات التي مورست عليه، ويتغلب على الفتنة المركبة التي أوقدت فيها، وعملت عليها كل من إيران وإسرائيل والطبقة السياسية المغتصبة للسلطة في دمشق، قبل أن تسعى روسيا لحصاد ما يمكنها منها.
بانتظار هذه الصحوة المنتظرة والحتمية ، لن يستقر أمر، لا لسلطة احتلال ولا لسلطة إمارات الحرب والميليشيات المحلية والأجنبية، التي تعيش على استمرار النزاع والتناحر وتخشى من السلام كما لو كان غريمها.
- طرفا الصراع السوري “السلطة والمعارضة” يستندان إلى دعمٍ خارجي في قوتهما ومواقفهما، هل سيؤدي ذلك الى تأسيس ثنائيةٍ هشةٍ مستقبلاً، أم منهما سيولد جيل يتوحد ؟.
من الصعب تصور هشاشة أشد مما يعانيان منه الآن. وهما لم يعودا يمثلان شيئاً بالنسبة للشعب، ولم تعد الموالاة موالاةً ولا المعارضة معارضةً. وهذه خطوة أولى نحو تلمس الشعب طريقه، نحو الشفاء من الفتنة وريحها الفاسدة. ومهما طال زمن الانتظار لن يستطيع أحد، لا الاحتلالات الأجنبية ولا سلطة الاغتصاب تغيير الوقائع العميقة الديموغرافية والثقافية والجغرافية. النظم والاحتلالات تتغير وسوريا وشعبها باقون.
- كيف يمضي برهان غليون حياته اليومية في البيت وخارجه؟.
أعتقد أنَّ المرحلة العاصفة من حياتي قد مرت بمواعيدها وأسفارها ومغامراتها وصراعاتها. وأنا أميل اليوم أكثر إلى العيش بهدوء، متفرغا للتأمل والبحث والمراجعة والمتابعة.
- بعد سنوات طويلة في العمل الأكاديمي كيف ينظر برهان إلى علاقات الصداقة التي عاشها مع الكثيرين؟
لو سألتني هذا السؤال منذ عشرين عاماً ربما أو حتى أقلّ، كنت سأجيبك بأنني الأسعد حظاً لما كنت محاطاً به من أصدقاء ودودين، أذكياء ونبلاء وصادقين. اليوم، بعد الأزمة الأخلاقية التي قصمت ظهر النخب المثقفة المشرقية بشكلٍ خاص، من حرب التحالف الدولي على العراق، إلى حروب الثورة المضادة المستمرة، لإلغاء نتائج ثورات الربيع العربي ومحو ذاكرتها الإيجابية، بما في ذلك التشويه المنهجي لصور المناضلين، وإساءة سمعتهم، لم يعد بإمكاني، بالتأكيد، تكرار مثل هذا الجواب. نحن نعيش بالأحرى زمن الردة، وهو ليس زمن الحقيقة والنباهة والإخلاص بالتأكيد.
- ما هي أحب الأشياء اليومية التي تجذب برهان إليها بعد التخفف من أعباء المحاضرات والقراءة والكتابة؟
أحب الأشياء هي المحبة، أي العلاقات الإنسانية التي تجعلك تتبادل العاطفة مع الآخرين، والتي من دونها لا معنى لأي شيء، لا فكر ولا فن ولا أدب ولا حياة.
- لو قُيض لك انتقاد أو تقييم تجربتك في العمل السياسي خلال السنوات الماضية ما الذي ستقوله؟
أعتقد صادقاً أنني قمت بواجبي في حدود ما وهُبت من مواهب وقدرات، وهي محدودةٌ بالتأكيد. وحاولت بجميع ما أملك من هذه المواهب والقدرات أن أكون على مستوى المهمة النبيلة، التي أوكلت لي من قبل الناس البسطاء والنشطاء، الذين تأملوا خيراً بتشكيل المجلس الوطني، وأن أرتفع بفكري وسلوكي أقصى ما يمكن إلى مستوى المبادئ السامية، التي تمثل الثورة وقضيتها العادلة والنبيلة. لكنني لم أعتبر نفسي لحظةً واحدةً سياسياً ولم أكنه، وإنما متطوعاً، أسعى إلى سد فراغٍ، ما كان يمكن السماح باستمراره، مع طوفان الدماء التي كانت تسيل في شوارع قرى سوريا ومدنها. لا أدري فيما إذا كنت قد أصبت أو أخطأت. إذا كنت أصبت بالتطوع لسد هذا الفراغ فقد فعلت، وإن كنت قد أخطأت فقد قدمت استقالتي حالما قرر السياسيون أنهم أصبحوا جاهزين لتحمل المسؤولية، ووعدت ألّا أعود إلى مثلها أبداً، وإذا لم يكن ذلك كافيا فها أنا أتقدم بالاعتذار منهم ثانيةً لاعتدائي على ما اعتبروه اختصاصا لهم.
- ما هي المفاهيم الجامعة برأيك بين الأجيال العربية الشابة المتطلعة للعولمة؟
لم تعد هناك مفاهيم وأفكار، ولكن وسائل تواسط اجتماعية. كركوز وعيواظ لم يعد مسرح عرائس ولكن أسلوب حياة.
- كلمة أخيرة تحب أن تضيفها.
أترك الكلمة الأخيرة للقراء الكرام .
* كاتب وناشط سوري
المصدر: الناس نيوز
التعليقات مغلقة.