ماهر مسعود *
يمكن تعريف النظام المستبدّ -عمومًا- بأنه “نظام الهويّة”، بينما يتحدد النظام الديمقراطي، على العكس، بوصفه “نظام الاختلاف”. فبينما يسير نظام الاستبداد نحو توحيد كل شيء، مدفوعًا بالرغبة والحاجة إلى السيطرة: حزب واحد، لغة واحدة، مجتمع واحد، هوية واحدة، وبالتالي قرار مركزي واحد، تحت قيادة زعيم “تاريخي” واحد؛ يتجه النظام الديمقراطي بالمقابل نحو التفريد وصيانة الاختلاف، تجزئة القرار السياسي بدلًا من تجميعه في يد الحاكم، وتقسيم السلطة إلى ثلاث سُلط، تشريعية وتنفيذية وقضائية، ومن تلك السلط يتفرع البرلمان والحكومة وجهاز القضاء وجهاز الشرطة والجيش والأمن، ويجب أن تبقى جميعها مستقلة قدر المستطاع، ومنفصلة عن بعضها البعض قدر المستطاع.
وبينما يسير نظام الهوية المستبد نحو الاستمرار في الزمن ومحاكاة الثبات والأبد والبقاء في السلطة، كما هي الحال في سورية أو كوريا الشمالية أو الصين وروسيا وإيران؛ يتجه نظام الاختلاف الديمقراطي نحو تحديد زمن الحكم وتداول السلطة ومحاكاة الفناء البشري بدل البقاء الإلهي. وبينما يقوم نظام الاختلاف بشكل أساسي على مراقبة المجتمع لعمل السلطة، لكي يحدد فيما بعد تجديد انتخابها من عدمه؛ يقوم نظام الهوية بشكل جوهري على مراقبة السلطة للمجتمع ليمنع احتمالات الثورة أو الاحتجاج ضده.
يمكن القول إن الثورة السورية، وثورات الربيع العربي بشكل عام، قامت بوحي من نظام الاختلاف، وتحت تأثير ميكانيزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعبّرت عن رغبة شعوب المنطقة في التحول من نظام الهوية الاستبدادي إلى نظام الاختلاف الديمقراطي، لكن المعضلة التي واجهت شعوبنا جاءت مركّبة من طبقات ومستويات عدة، وقادت معظم دول الربيع العربي، ولا سيّما سورية، إلى نتائج كارثية.
المستوى الأول من تلك المعضلة هو مقاومة نظام الهوية للتغيير، وفتحه لباب العنف على مصراعيه، فبعد الصدمة التي تلقاها نظام الهوية العربي في تونس ومصر، استعاد أنفاسه في ليبيا واليمن وسورية، لتبدأ في تلك الدول معركة “كسر عظم” مع المجتمعات، على مبدأ “أنا ومن بعدي الطوفان”، وليغرق الجميع فعلًا في طوفان العنف ثم الجوع والتشرد والموت.
المستوى الثاني هو أن العنف ذاته، مثل كل عنف في التاريخ، هو أكبر صُنّاع الهوية، فلا يمكن أن يعيش الاختلاف ضمن بيئة عنفيّة، ولذلك كان الشرط الأول للديمقراطية هو السلم وتداول السلطة بشكل سلمي. الفكرة هنا هي أن ميكانيزمات العنف التي طرحتها السلطة حرّضت الهويات الكامنة في المجتمع، وأجبرت المجتمع على التكوّر ضمن هوياته الأولية، ونحّت عناصر الاختلاف وممثليه جانبًا (مثلًا: التظاهرات السلمية، النساء، الناشطين السلميين، الأحزاب السياسية غير المسلحة) جميع تلك القوى باتت غير مؤثرة في نتائج الصراع وتوجهاته، وهو ما قاد الثورات نحو نظام الهوية قسرًا؛ فبرزت الفصائل والميليشيات والجماعات السياسية، بوصفها إعادة إنتاج وتمثيل للهوية الاجتماعية والسياسية للمعنَّفين، وبات الاختلاف بين الجماعات فيما بينها، وبين تلك الجماعات والأنظمة الحاكمة، خلافَ هوية وليس اختلافًا، خلافًا بين هويات تحتاج إلى العنف وتقوم عليه وتصنعه لتمثله سياسيًا، ولا مكان في هذا النوع من الخلاف الهوياتي لأي نوع من الاختلاف الديمقراطي، بل للنصر والهزيمة فحسب، للإخضاع المتبادل فحسب، للتحشيد الطائفي، قضم الأراضي، استقطاب الدعم الخارجي، التهجير.. إلخ. كل شيء مباح في معارك الهوية.
المستوى الثالث للمعضلة قام على أن أنظمة الاختلاف الديمقراطي الغربي لم تكلّف نفسها عناء الضغط السياسي أو العسكري على نظام الهوية الاستبدادي، أو رعاية برعم الاختلاف الذي وعدت به ثورات الربيع العربي، بل أخلت الساحة لأنظمة هوية كبرى وصغرى، مثل روسيا وإيران والسعودية وتركيا، وذلك تبعًا لوصية النهج الأوبامي/الهنتغتوني، بالتفاف الغرب الديمقراطي على ذاته وقيمه وترك الآخرين لشأنهم؛ وهو النهج الذي انتهى بصعود ترامب مع شعاره “أميركا أولًا”، لكن النتيجة الطبيعية لذلك النهج في عصر العولمة كانت عبارة عن انتقال نموذج الهوية ليصبح نموذجًا عالميًا، ويقوّض نموذج الاختلاف الديمقراطي الغربي من الداخل والخارج في آن؛ فاليمين الشعبوي الذي يقود وينتج سياسات الهوية، في أميركا وأوروبا اليوم، هو بمنزلة حصان طروادة أنظمة الهوية داخل نظام الاختلاف الديمقراطي، والمثل الأعلى لقادة اليمين الشعبوي المنتشر في الغرب هو زعماء أنظمة الهوية، وعلى رأسهم فلاديمير بوتين.
إن السؤال الذي يبدو طرحه ضروريًا اليوم، وحلّه مؤجلًا، هو: هل يمكن إعادة سورية إلى مسار الاختلاف الديمقراطي الذي وعدت به الثورة؟ هل ذلك ممكن ضمن انقسام سوري عنيف ومعزّز بالقوى الخارجية، وضمن شرط محلي وإقليمي ودولي منقسم، هوياتيًا وأيديولوجيًا وسياسيًا، بشكل لا سابق له منذ نهاية الحرب الباردة، ولا سيّما أن قوى الاختلاف الغربي التي كانت هي النموذج الأساسي للثورات لا تعاني هي ذاتها صعود الهويات وسياسات الهوية داخلها فحسب، بل باتت من أكبر الداعمين لعودة الاستقرار الهوياتي في منطقتنا، مهما كان الثمن، ومهما كان العفن. ذلك -على سبيل المثال- ما حاول ماكرون الدفع نحوه في لبنان ضد رغبة اللبنانيين، وضد كل مطالب “ثورتهم” واحتجاجاتهم، وذلك ما حصل في مصر، وما يتم الدفع نحوه في ليبيا وفي سورية.
الجواب الذي يبدو بدهيًا عن السؤال المطروح أعلاه إذًا هو: لا! قد تكون تلك “اللا” مؤقتة، ولكن لا يمكن، في المدى المنظور على الأقل، إعادة سورية إلى مسار الاختلاف الديمقراطي الذي وعدت به الثورة، ضمن الشرط الدولي الراهن، ليس لأن الشرط الدولي محكوم بصراع قوى متناقضة ولا قطبية ولا يبدو التوازن أو المصالحة أو الاتفاق بينها ممكنًا في وقت قريب، فحسب، بل لأن سورية، بنظامها ومعارضتها وشعبها، باتت ضعيفة إلى درجة أنه لا توجد فيها قوّة واحدة قادرة على الاستقلال بقرارها أو مصيرها، أو تحديد مسار ونهاية الصراع، وباتت عالقة في شبكة خيوط عنكبوتية دولية بطريقة، لا مخرج منها إلا باتفاق تلك القوى ذاتها غير القابلة للاتفاق في المستقبل المنظور. وكل مراهنة على القوّة الذاتية للشعب المرهق، والمنقسم هو ذاته إلى شعوب، ليست إلا مراهنة حالمة في واقع تحكمه الكوابيس، وأما المراهنة على استعادة النظام لقواه والسيطرة على سورية، فهي كالمراهنة على عربة تقودها الأحصنة من كل الجهات، وأخيرًا تبقى المعارضة الجهة الوحيدة التي لا يراهن عليها أحد.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.