بهاء العوام *
نظام الأسد احتكر الدفاع عن القضية الفلسطينية لعقود طويلة وسيطر على سوريا ولبنان باسمها أما إنجازاته فهي فقط تأجيل الحرب على العدو لأجل غير مسمى والاستبداد بالسوريين واللبنانيين والفلسطينيين.
أربع دول عربية من أصل اثنتين وعشرين باتت ترتبط بعلاقات سلام مع إسرائيل. لن تقتصر القائمة على هذه الدول، وستتسع دون شك خلال السنوات وربما الأشهر القليلة المقبلة. لذلك لا بد من مراجعة حقيقية لبعض البديهيات التي شكلت وعينا على مدار عقود طويلة. والبدء بتجديد الخطاب العربي على أساس تعريفات جديدة للعدو والحليف والسلام وغيرها من المصطلحات.
ثمة نوعان من المواجهة مع إسرائيل عرفهما العرب بعد حرب أكتوبر عام 1973. الأول هو وهم الحرب أو فوبيا الاحتلال، والثاني هو الاستنزاف والدمار غير المتكافئ. وبينما تمثل الحرب الإسرائيلية مع لبنان في 2006 ومع غزة عام 2014 النوع الثاني من المواجهة، تبرز سوريا كمثال واضح على النموذج الأول، أو الجبهة الخامدة ضد خيال احتلال يتحكم بقدر ومصير الشعب بأكمله.
منذ 1973 والجبهة السورية الإسرائيلية ساكنة تماما، رغم أن السوريين طوال هذه العقود محكومون بقوانين الطوارئ لأن بلادهم في حالة مواجهة مع العدو. لم تقع هذه المواجهة في أي يوم من الأيام ولكن نظام الأسد الأب والابن، استغل القضية كي يحكم السوريين بالحديد والنار.
أبقوهم في خنادق وهمية يمنع عليهم فيها التنفس استعدادا للمعركة التي لم تأتِ أبدا.
المواجهة السورية دخلت مرحلة جديدة بعد الأزمة التي ألمت بالبلاد عام 2011. أو بتعبير أدق تكشفت على حقيقتها، وانفضح ذلك التواطؤ بين النظام والاحتلال على حماية بعضهما. فالأسد الأب والابن استعبدا السوريين باسم المواجهة دون أن يرميا إسرائيل بحجرة واحدة، والأخيرة ردت الجميل بإقناع العالم أن سقوط “الأسود” يشكل خطرا عليها. فمن أين لها أن تأتي بجار مثل هؤلاء الذين أنعموا عليها بسلام تنصرف فيه إلى بناء قدراتها العسكرية والاقتصادية.
إن أردنا تسمية الأشياء بأسمائها، فإن النظام السوري قدم لإسرائيل أكثر من السلام بكثير. منحها عقودا من الهدوء على حدودها الشمالية والغربية استغلته في توحيد صفوفها الداخلية، وتطوير علاقاتها مع العالم، والتحول إلى دولة صناعية، والتفرد بالجبهتين الفلسطينية واللبنانية. فالنظام السوري هو وحده من كان يتوجب بدء الحرب على تل أبيب، ولكنه اختار السلام معها دون اتفاق.
السلام غير الرسمي بين نظام الأسد وتل أبيب هو سبب رئيسي في تدهور الصراع العربي الإسرائيلي. ليس الوحيد ولكنه الأبلغ والأكبر تأثيرا. فنظام الأسد، ولعقود طويلة، احتكر الدفاع عن القضية الفلسطينية عربيا، وسيطر على سوريا ولبنان باسمها. أما إنجازاته فهي فقط تأجيل الحرب على العدو لأجل غير مسمى، والاستبداد بالسوريين واللبنانيين والفلسطينيين الذين يخالفون مشيئتهم.
تأجيل الحرب على إسرائيل تواطأ فيه “الأسود” مع نظام الخميني وأذرعه في المنطقة. وحده محور “المقاومة” من علق المواجهة مع إسرائيل حتى ملت الشعوب العربية انتظارها. بل تجاوزت فكرة وجود أراض محتلة لها تخضع لتل أبيب، لأنها أدركت أن قرار التحرير لن يصدر طالما بقي الأمر معلقا بيد “أسود” دمشق أو نظام الملالي في طهران. فكلاهما أراد لوهم الصراع أن يستمر للأبد.
ولا شك أن الانقسام الفلسطيني قد أثر بوضوح على واقع ومستقبل الصراع العربي الإسرائيلي. فجعله أكثر هشاشة وعرضة للتجاذبات السياسية في المنطقة، خاصة خلال العقد الأخير. وعندما ينصرف أصحاب القضية عنها، وتشغلهم المنافسة على السلطة والمكاسب أكثر من التحرر واستعادة الأرض. لا يجب أن يلام الغرباء على إعادة ترتيب أولوياتهم ورسم سياساتهم الخارجية.
ورغم كل ما طرأ على القضية الفلسطينية من تضعضع بسبب الانقسام الداخلي وانتهازية محور “المقاومة”، لم تتخل عنها الدول الأربع الموقعة على السلام مع إسرائيل. لم تبدل هذه الدول مواقفها إزاء حل الدولتين على أساس القرارات الأممية. ولم تعترف أي منها بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. كما أنها لم تغلق أبوابها في وجه الفلسطينيين، ولم تتوقف عن دعمهم إنسانيا وماديا وسياسيا.
إذا أردنا المضي بالأمر أكثر من هذا، فيمكننا توقع أن يكون للدول المطبعة مع إسرائيل تأثير أكبر عليها في المواقف التي تمس الفلسطينيين. بتعبير آخر، قد تكون مفيدة للقضية الفلسطينية أكثر من “خصوم” تل أبيب، الذين لم ولن يفعلوا شيئا. لنا في مواجهة خطط الضم التي كانت إسرائيل تنوي تنفيذها مثال جيد على ذلك. فقد بذلت الأردن والإمارات ومصر جهدا كبيرا لتأجيلها.
قد لا يقبل كثيرون بهذه الفرضية الآن. وربما يكون لرفضهم هذا مبرر تظهره الأيام والسنوات اللاحقة. لكن الذي لا يحتاج إلى إثبات هو أن قرار الدول الأربع أو غيرها ممن يقرر السلام مع إسرائيل، هو قرار سيادي. كذلك لا يمكن أن يخضع هذا القرار للابتزاز أو المساومة من أحد. بالإضافة إلى أنه غير قابل للاختزال والمحاكمة استنادا إلى مدى توافقه أو عدم توافقه مع أي قضية كانت.
بالنسبة إلى أيّ شعب عربي يتاح له الاختيار بين وهم الحرب والسلام الحقيقي مع إسرائيل، قد يكون الخيار الثاني أكثر منطقية وواقعية. فعلى الأقل لن يبقى عصاب إسرائيل وكذبة المقاومة سيفين مسلّطين على رقاب هؤلاء الذين يتطلعون لمستقبل أفضل في بلادهم. لن يكون ذريعة لطغاة دول مثل سوريا وإيران، وزعماء ميليشيات مثل حزب الله، من أجل خنق الشعوب والاستبداد بها.
* صحافي سوري
المصدر: العرب
التعليقات مغلقة.