ميشيل كيلو*
تتخلق في منطقتنا معركة جديدة، وتنتقل من سورية إلى شرق المتوسط، وتتجاوزه أكثر فأكثر إلى جنوبه وغربه، وصولا إلى شواطئ فرنسا، المحكومة سياساتها بنظرةٍ ترى في المتوسط وحدة جغرافية/ سياسية، تستند إلى تراث حضاري تفاعلي ومتنوع، لعبت حملته دورا مثبتا في ما عرفه تاريخ الدول المشاطئة له من تناحر كرّسته ثورات ونزاعات دينية وسياسية، في ظل تكوّن بيئات اقتصادية/ اجتماعية وثقافية، مفتوحة على تحولات فريدة من حيث نوعها واتساعها، فالبحر الأبيض المتوسط يبز في أهميته بحارا مفتوحة ومحيطات عديدة، في رؤية أصحاب النظرة الاستراتيجية، بما أنه حلقة الوصل بين ثلاث من قارّات العالم الخمس، شهدت نشوء الحضارة البشرية في دول وامبراطوريات قامت على ضفافه أو قربها، وتركت بصمتها على حياة البشر فيها، وعلى ثقافات وهويات شعوبه التي أسست مراكز حضارية واكبت ميلاد الفكر الفلسفي والعلمي، وما واكبه من زراعة ومهن وتجارة ومَديَنة.
هذا التراث، المثقل برهانات ومصالح خاصة بشعوبه الحريصة على بقائه منطقة هدوء وسلام، يشجع على القول إن إعادة رسم مناطق سيادة ونفوذ دول شواطئه الشرقية التي تطالب تركيا بها، وتعلن تصميمها على بلوغ هدفها، مهما كلف الأمر، كما يؤكّد الرئيس أردوغان ومساعدوه، لن تكون معركة عابرة أو سريعة، في لحظة التحوّل من النظام الدولي الراهن إلى بديله، وبالنسبة إلى الدول المنخرطة في الأزمة القائمة. يعزّز هذا الاعتقاد ما عقد من اتفاقياتٍ بين دول تفصل سواحلها هنا مئات، وهناك آلاف الكيلومترات، وأعلن من تحالفاتٍ بين من يتمسّكون بنهائية الوضع الجغرافي/ السيادي الراهن لمناطق، حرصا على ما في حدودها البحرية من ثروات يسيل لها لعاب منافسيها الذين يطالبون بإعادة النظر في الوضع القائم منذ مائة عام، كانت المناطق المعنية خلاله جزءا من جرف خصومها القارّي، وسيادتهم الوطنية، ويعني نجاح تركيا في إعادة رسمها خسارتها ثروات نفطية وغازيّة، تقدّر بمئات مليارات الدولارات، فضلا عن تبدل هويتها التي تكرّست بعيد الحرب العالمية الأولى، وظلت مصانة دوليا خلال زمن أقنعها بنهائية كياناتها التي لن تتخلى عنها، كي لا ينهار نظامها المضمون، عبر معاهدات ومواثيق يغير التنازل عنها سيادة دولها وعلاقاتها في هذا القسم من العالم، ومناطقه البعيدة عن بؤرة صراع برز فجأة، وتلوح غيومه الحالكة السواد في أفق المتوسط الشرقي والجنوبي، وتنتشر أكثر فأكثر في صورة أزماتٍ مركّبة تتحدّى السلام والأمن الدوليين، وتنسف علاقات المتصارعين حول ثرواته ومواقعه، بما يحمله صراعهم من أخطار يُخشي أن يفضي ما فيها من شحنات عداء تاريخي إلى وضع العالم على مشارف توتر يتصاعد إلى حرب، بما أن الراغبين في تغيير الأمر القائم يواجهون قوى لن يتمكنوا من ليّ ذراعها بوسائل السياسة هنا، والعقوبات هناك.
ثمّة في الأزمة البازغة ملاحظتان مهمتان بالنسبة لنا، نحن السوريين: أولاهما أن الأزمة الجديدة ذات أبعاد سترغم المنخرطين فيها أكثر فأكثر على خفض اهتمامهم بغيرها والتركيز عليها. ربما يفسر هذا تقاسم مناطق النفوذ في بلادنا الذي أنجزته القوى الرئيسة المنخرطة في الصراع عليها، بعيدا عن الحل السياسي الدولي وقراراته. وثانيتهما أن السياسة الروسية تجاه سورية ستأخذ في اعتبارها المستجد المتوسطي الذي سيدفعها إلى البحث عن حل وسط دولي يعزّز دعمها الأسدية، بالنظر إلى تعاظم أهمية الجزء السوري من المتوسط الشرقي، بمناطقه الغنية بالغاز وربما النفط، وما تسمح به مرابطة طيرانها وأسطولها فيه من قدرتها على التدخل بقوة في أزمةٍ تمكّنها من ممارسة دور مفصلي في نزاع مرشّح للتفاقم، ولها مصلحة استراتيجية في أن تكون طرفا مقرّرا فيه.
* كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.