عمار السواد *
مُخيفة مقولةُ حنة أرندت “علينا ملاحظة أنّ الثورات لا يمكن تصوّرها خارج نطاق العنف .. العنف نوع مِن أنواع القواسم المشتركة بينها”. وواقعية كذلك، فيصعب على المرء تخيّل تغييرٍ سريع ومكثف لما هو متجذّر وثابت بدون قسوة مميتة ومتبادلة، وربما طويلة الأمد. خصوصا أنّ تجارب تاريخية كثيرة تدعم ذلك.
أما التجارب غير المرتبطة بالعنف، فجاء بعضها بسبب سلوك السلطة غير المدفوع به، مثل تونس عام 2011، إذ غادر رئيس نظامها السابق من دون أن يضطر الجموعَ إلى مواجهته بالسلاح. وبعض آخر مِن تلك التجارب حصل لأنه تغييرُ ما فقَد تجذّره وديمومته، وخسر عوامل وجوده وباتت سهلةً إزالته بلا سفك دماء. تجربة انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية مطلع تسعينيات القرن الماضي، باستثناء رومانيا، مثال مهم على التغيير الذي لم يستدع مواجهةً عنيفة، لأن المنظومة الحمراء تآكلت مِن الداخل، إلا أنّ التحولات السلمية تلك يصعب أن يُنظر إليها ثوراتٍ، هي أميل إلى تغيير شكل نظام الحكم أو انتفاضات سياسية بإرادة شعبية.
هناك نوع آخر من التغييرات مرتبط بالزمن والتراكم، هو مواجهةٌ طويلة الأمد ومتسلسلة. أحيانا يكون محاطاً بالقسوة والعنف وتكرار الثورة، كفرنسا التي احتاجت أكثر من قرن ونصف القرن من الثورات والانتفاضات والدماء المسفوكة وخسائر الحروب ونزعات أفكار وأيديولوجيات .. حتى قدّمت النسخة المُرضية نسبيا من الجمهوريات، وهي الخامسة. وفي أحيان أخرى، لا يكون الأمر كذلك، بل أقل قسوة وعنفاً. وعادة ما يؤدي هذا التراكم إلى تغييراتٍ جذريةٍ لا تمسّ الحياة السياسية فقط، بل تلامس أنماط التفكير المجتمعي والخطاب الثقافي. ربما يمكن فهم الحراك العراقي في هذا السياق، فالمظاهرات العراقية المتتابعة منذ عام 2009 حتى النسخة المستمرة منذ عام 2019 فعل سلمي تراكمي.
في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، انطلق العراقيون في مظاهراتٍ تحوّلت إلى ما يشبه الانتفاضة. وتواصلت على الرغم من مقتل ما يزيد على 600 شخص، بحسب منظمة العفو الدولية، سواء عبر اغتيالاتٍ لم تتوقف أو مواجهة الجموع بالرصاص الحي، واستخدام غير محترف للقنابل المسيلة للدموع، أو عن طريق الهجوم غيلة على المتظاهرين مِن مليشيات كتائب حزب الله في مقدمتها.
ويثير الانتباه أنّ تاريخ الاحتجاجات بدأ مع شروع القوات الأميركية في الإنسحاب. وكانت مظاهرة الكهرباء في البصرة عام 2009 لمحتها الأولى، إلا أنّ البداية الفعلية هي حراك “بغداد لن تكون قندهار” سنة 2010، ثم المظاهرات المستجيبة لحراك الربيع العربي في فبراير/ شباط 2011 واحتجاجات عام 2015 الواسعة، والتي هزّت أركان العملية السياسية العراقية، قبل نجاح مقتدى الصدر في إخضاعها لهن بسبب خيارات بعض المثقفين والناشطين، ظانين أن الزعيم الأكثر امتلاكاً لقواعد شعبية يدعم مواجهتهم السلطةَ وأذرعها، مرتكبين بذلك خطأ ثمنه كبير.
ومهم القول إن عشرة أعوام من الإحتجاج هي تسلسل متواصل، كل مرحلةٍ منها خلفيةٌ للأخرى. مثلا، لا اختلاف في الاتجاه بين عامي 2010 و2019. منظومة النهب في الإثنين مرفوضة، وسلاح المليشيات المنفلت داخل المدن غير مرغوبٍ به، والتفقير والإذلال الممنهج وغير الممنهج لم يعد مُطاقاً، فضلا عن معارَضة استخدامِ الدين في قمع الحريات.. كان الاختلاف، إضافة إلى الدعم الشعبي الأوسع في تاريخ البلاد، في أن حراك 2019 مثّل تطورَ خطابٍ كشف عن وعي متقدم عما سبقه. كما أنّ الطابع الشبابي والحضور النسوي برز بوضوح في صفوف الناشطين. وأيضا ظهرت مشاركةٌ عظيمة من الجامعات. وهي عوامل متعدّدة جعلته أكثر تميزاً، على الرغم من فقدانه بريقَه في مرحلة كورونا.
والحراك في تسلسله، لم يندفع إلى استخدام السلاح قط، لم يحمل البنادق، ولم يشكّل مليشيات في مواجهة المليشيات. نعم، شهد بعض الممارسات العنيفة، مثل الحرق ومحاولات اقتحام المباني الحكومية بالقوة وتدميرها، ونصبِ المشانق تعبيرا رمزيا، غير أنها مستويات طبيعية في مواجهة البطش، يستثنى مِن هذا جريمة تعليقِ شاب باندفاعة جمعية، في ديسمبر/ كانون الأول من العام الفائت، تُطرح بشأنها أسئلة كثيرة، فضلا عن أن بعض تلك الممارسات سنة سيئة، سنّها مقتدى الصدر وأنصاره، حين اقتحموا المنطقة الخضراء عام 2016، وحاولوا استخدام الحراك لتصفية الحسابات.
والمحافظة على مستوى معقول من سلمية التظاهر لم يواجه تحديَ السلطة وسلطة الظل فحسب، بل كان محكوماً بتحدٍّ آخر. برزت شرائح أو نخب إعلامية وثقافية ومدوّنون وجماعات سياسية موجودة خارج العراق، ساعيةً إلى دفع المتظاهرين نحو العنف، بذريعة كونه الخيار الوحيد المتاح في مواجهة البطش. تلك الأصوات لم تكن ستخسر شيئا إن حصل أي تطوّر دموي، لديها منابرها بعيداً عن الموت، بل يحتاج بعضها إلى مقتل آلافٍ، ولا يكفيه مقتل المئات. وعلى الرغم من أن بعض تلك الأصوات نُظر إليها في أوساط كثيرة باعتبارها جهات منتفِضة، فإنّ شبان الانتفاضة وفتياتها حافظوا على جَلَد وصبر لا يشبهـانهم في أعمار يتحكّم فيها إيقاع الصبا المندفع.
وما تحقق من ذلك الحراك ليس ذهاب عادل عبد المهدي من رئاسة الوزراء ومجيء مصطفى الكاظمي، بل هناك ما هو أعمق. إنه التحرّر، إلى حد كبير، من الدوافع السياسية والمذهبية التي استخدمها ساسة منظومة النهب، فحين قتلت القوات الأميركية قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ورفيقه العراقي أبو مهدي المهندس، لم يؤثر ذلك جذرياً على ما يجري على الأرض، على الرغم من أن أغلب الموجودين في الساحات هم، بشكل وآخر، يشابهونهما مذهبيا. السبب ببساطة فقدانُ الحاكمين وداعميهم المصداقيةَ والتأثير الكافي لإدامة الحكم من خلال الشرعية الشعبية. إضافة إلى ذلك، هناك نزعة علمانية متصاعدة في صفوف كثيرين من طلّاب الجامعات والشباب، ما يجعل المقولات الإسلامية المذهبية وعابرة المذهبية ضعيفة النفوذ. لكنه ليس العامل الرئيس في الوقت الراهن، إذ لا يقتصر رفض المنظومة على الشيعية السياسية الأكثر قوة، بل أيضا على النزعة القومية الكردية والنزعات السنية، بشقيها الإسلامي وغير الإسلامي.
وبالطبع، طول فترة الحراك وتطور خطابه ونمط تفكيره يوازيه تطور في طريقة القمع وأدوات سلطة الظل ومليشياتها، غير أن الحتمي أن تلك السلطة لم تتطوّر فكريا، ولا في فهم الوقائع، بل طوّرت رؤيتها إلى القمع ما يجعل مصيرها مشابهاً لمصير أي دكتاتورية محدودة التفكير، على الرغم من لا محدودية أدوات البطش.
ويبقى التحدّي الأكبر قدرة المرحلة المقبلة من التظاهر على مواصلة نسقها السلمي، بعيدا عن مساعي المستدرِجين!
* كاتب وباحث عراقي
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.