غسان ناصر *
في حوارها مع (مركز حرمون للدراسات المعاصرة)، تتحدّث الكاتبة والمخرجة والممثلة السورية واحة الراهب، كما لم تتحدّث من قبل، عن طفولتها وعائلتها ورحلة البدايات التي ساهمت في ولادة روائية وسينمائية اقتحمت ميادين الإبداع بالعلم والمعرفة. وتطرقت في حوارها هذا إلى أبرز مواسم العطاء الفنّي والأدبي التي كان ثمرتها ترك بصمة واضحة في سجل الإبداع السوري المعاصر. إضافة إلى حديثها بحماسة عن ثورة السوريين الأحرار التي غيّرت وجه سورية الحديث.
وُلدت صاحبة «الجنون طليقاً»، في العاصمة المصرية القاهرة عام 1964، وعاشت طفولتها في مدن عدة حول العالم، بفضل طبيعة عمل والدها في السلك الدبلوماسي. وهي تحمل إجازة في الفنون الجميلة -قسم الاتصالات البصرية- من (جامعة دمشق)، لتنتقل بعدها إلى باريس لدراسة السينما، فنالت “دبلوم دراسات عليا” في السينما، عام 1988 – 1989، عن أطروحة بعنوان «صورة المرأة في السينما السورية – منذ نشوء القطاع العام 1963 إلى 1986» من (جامعة باريس الثامنة)، ثم حازت شهادة “ليسانس” عن فيلم «غرفة الخدم» كتابة وإخراجًا. وهي زوجة المخرج السوري المخضرم مأمون البني، وعمّها الروائي الكبير الراحل هاني الراهب.
كتبت واحة الراهب سيناريوهات سينمائية وتلفزيونية لأفلام ومسلسلات، كسيناريوهات لأفلامها الروائية الطويلة: «رؤى حالمة»، و«رباعية التهديد الخطير»، ولفيلميها القصيرين: «جداتنا» 2003، و«قتل معلن» 2019. كما كتبت سيناريوهات عدة لأفلام طويلة لم تُنفّذ بعد: «منفى الروح»، «حد الهاوية»، و«امرأة من طابقين»، و«مملكة الخوف».
أخرجت ضيفتنا للتلفزيون سباعية «بيت العيلة» عام 2000، ورباعية «النقمة المزدوجة» عام 2007، وهي من تأليفها. وعملت ممثلة في الدراما التلفزيونية، ومن المسلسلات التي شاركت في بطولتها: («جواهر»، و«البركان»، و«غضب الصحراء»، و«القصاص»، و«عرب لندن»، و«حمام شامي»، و«أوركيديا»، وغيرها كثير)، كما شاركت مع المخرج محمد ملص في فيلمه الشهير «أحلام المدينة» عام 1984. وكانت عضو لجان تحكيم في مهرجانات سينمائية وتلفزيونية عربية ومحلية عدّة.
في رصيد صاحبة «مذكرات روح منحوسة»، عدد من الجوائز والتكريمات، نذكر منها: الميدالية الفضية في “مهرجان قليبية للسينمائيين الهواة” في تونس، عن فيلمها الأوّل السينمائي الروائي القصير «منفى اختياري» عام 1987. والجائزة البرونزية وجائزة المرأة عن سيناريو وإخراج فيلمها الروائي التسجيلي القصير «جداتنا» من “مهرجان دمشق السينمائي” عام 1991. والجائزة الفضية من “مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون” عن السهرة التلفزيونية «الخرزة الزرقاء» عام 1991، إضافة إلى الجائزة الفضية من المهرجان نفسه عن السهرة التلفزيونية «حقيبة لرأس السنة» مع شهادة تقدير “لجنة التحكيم” لأحسن إخراج عام 1999. كذلك حازت على جائزة “التانيت البرونزي” في “مهرجان قرطاج السينمائي” في تونس عام 2004، عن فيلمها السينمائي الروائي الطويل الأوّل «رؤى حالمة»، وهو من تأليفها. وتمّ اقتناء هذا الفيلم لحفظه في (متحف وأرشيف السينما اليابانية العالمية)، كأوّل فيلم سوري وعربي يتمّ حفظه لأربعة قرون.
حاز فيلمها الروائي القصير «قتل معلن» -وهي المخرجة والمؤلفة والمنتجة المنفذة له- على جائزة الفيلم الروائي القصير في “مهرجان كييف السينمائي” في أوكرانيا.
من مؤلفاتها الصادرة في سورية: كتاب بعنوان «صورة المرأة في السينما السورية»، منشورات وزارة الثقافة في دمشق عام 2011. وكتاب آخر صدر عن الوزارة أيضًا، هو سيناريو فيلم «رؤى حالمة»، عام 2009.
ألّفت ثلاث روايات، الأولى «مذكرات روح منحوسة»، منشورات “دار العين”، القاهرة 2017. والثانية بعنوان «الجنون طليقًا»، منشورات “دار أنطوان هاشيت – نوفل”، بيروت 2019. والثالثة بعنوان «حاجز لكفن»، ستصدر قريباً عن نفس الدار.
وهي عضو مؤسّس في “جمعية المبادرة الاجتماعية” الخاصّة بقضايا المرأة، وعضو سابق في مجلس أمناء (مركز حرمون للدراسات المعاصرة).
هنا نصّ الحوار..
– في مستهل حوارنا، ماذا تخبرنا الفنّانة والروائيّة واحة الراهب عن ذاتها وسيرتها بوصفها مبدعة متعدّدة المواهب؟
= ربما أثرت نشأتي في عائلة تهتم بالثقافة والفنّ في تعدد هواياتي، وفي تعلّقي بالفنون عمومًا، فعمي الروائيّ المعروف هاني الراهب، ووالدي هلال الراهب، إضافة إلى عمله دبلوماسيًا، كان كاتبًا روائيًّا ورسامًا ويعزف على الناي من دون معلم، كنت أقلده وأرسم منذ طفولتي وأقرأ بنهم الكتب والروايات، وكنت أعزف على الأورغ والبيانو بشكل سماعي وفطري من دون تعلم، لذا نمت تلك الهوايات لدي ولدى إخوتي، وكمّل بعضها البعض لتُتوج بالتمثيل والإخراج القادر على احتضان كل تلك الهوايات وصهرها في بوتقة عمل واحد.
– كيف تستحضرين ثورة أبناء بلدك في أعمالك الفنيّة والأدبيّة؟
= الثورة أتت نتيجة إلغاء مدمّر لشخصياتنا وللذات السورية المسحوقة، لذلك كان شعارها الأوّل (حرية وكرامة) قبل لقمة العيش، ولذلك أتت لتقلب حياتنا ومفاهيمنا الخانعة، إلى فعل حرّ وطاقة خلّاقة متجددة وفعالة. ولم يدفعني ذلك لأستحضرها في كل أعمالي فحسب، بل جعلها الحاضرة الفاعلة والبطلة الأساسيّة الفارضة لاستحقاقها الوجودي في كل ما أبدعه.
مع بداية الثورة، كنت أصوّر فيلمي الروائيّ الطويل «هوى» المقتبس عن رواية هيفاء بيطار، وأحداثه تدور حول الفساد المستشري ببلدنا قبل الثورة، وقرّرت ربطه بالتمهيد للثورة، بإضافة لقطة للبوعزيزي التونسي وهو يحترق ليجعل من جسده مشعلًا لثورات الربيع العربي، وأضفت المشهد على الرغم من تهديدي بإيقاف الفيلم بسبب ذلك. وكان أوّل سيناريو فيلم روائيّ طويل كتبته بعد الثورة «مملكة الخوف»، وهو يروي قصة الثورة بكل تجلياتها وتناقضاتها، من خلال أعراس التظاهرات الحرّة والديمقراطية في أحياء حمص الثائرة حتى لحظة تدميرها في عيد الحب. وحين كتبت سيناريو فيلمي القصير «قتل معلن» عن زواج القاصرات، فرضتُ حضورها باختياري لأبنائنا اللاجئين في مخيمات لبنان.
أما بالنسبة إلى كتابة الرواية، فقد كانت الثورة هي الدافع الأوّل لبدء كتابة روايتي الأولى التي صغت أجزاء منها قبل سنوات من اندلاع الثورة، لكني رفضت إكمالها من دون توفر هامش كافٍ من الحرّية للتعبير عمّا أردت قوله، وهو ما أتاحته لي الثورة، حين كسرنا حاجز الصمت والخوف باندلاعها، فاندلعت معها أفكاري بحرية وجرأة، وأوجدت لي التتويج الملائم لخاتمة كنت آمل صياغتها بما وفرته لي الثورة من إلهام إبداعي وواقعي لتحقيقها. وإلى الآن لم تتمكن روايتي الثانية «الجنون طليقا»، ولا الثالثة «حاجز لكفن»، من التملّص من استحقاق الثورة، ومن مدى زلزلتها لكل واقعنا وكياننا الإنساني ووجودنا المحلي والعالمي، فجاءت «الجنون طليقًا» مستلهمة من هذا الزلزال الذي صدّع كل الأساسات المنخورة، وعرّى مشفى المجانين الذي تعيشه سورية في ظل هذا النظام المدمّر.
أما الرواية الجديدة «حاجز لكفن»، فهي ترصد أبشع الأوضاع اللاإنسانية التي يتعرّض لها السوريون في المسالخ البشرية المسماة معتقلات، من خلال تجربة امرأة تعكس بدورها المعاناة المزدوجة للنساء، التي تتعدى تجربة الموت حيًا في تلك المسالخ، إلى أشكال أخرى للموت لا تنتهي.
– كيف استقبلتِ ثورة شعبك في منتصف آذار/ مارس 2011، يوم كسر ملايين السوريين والسوريات جدار الصمت والخوف معلنين ميلاد فجر جديد سرعان ما اغتاله استبداد السياسيين وأصحاب الرايات السوداء؟
= لم أصدق بدايةً أنّ ثورات الربيع العربي ستمتد إلى سورية، بسبب شدة القبضة الأمنية للنظام المحمي عالميًا، التي كانت كفيلة بالإطباق على أيّ تحرك مهما كان سلميًا، وبسبب الخوف الذي شلّ قدرات السوريين وكبّل طاقاتهم حوالي نصف قرن، وقد كان هو محور روايتي الأولى. لكن انطلاق الشرارة الأولى للثورة في الحريقة وفي درعا، التي كنت معها منذ البداية، أبكاني فرحًا وإيمانًا بعودة الروح للشعب السوري الحرّ على الرغم من كل أشكال الإرهاب المطبقة عليه، الروح المنعتقة من عبودية الذل وهدر الكرامة، قبل الحاجة إلى تأمين لقمة العيش التي شارف شعبنا على الحرمان منها حينذاك. حين انطلقت الثورة لم تكن بدايةً بهدف إسقاط النظام، لكن عسف الحل الأمني والمجازر والإبادة الجماعية التي واجهت المتظاهرين السلميين هي التي دفعتهم إلى تجذير مواقفهم، وكسر حاجز الخوف نهائيًا، وهذا بدوره ساهم في استقطاب الملايين لصالح الثورة، لكنه حرّض على تضافر كل قوى العالم لدعم النظام لمنع سقوطه، بصمتهم أوّلًا، وباختراق الثورة التي لا مصلحة لأحد بانتصارها، عبر تسليحها وأسلمتها ودعم (جبهة النصرة) وتنظيم (داعش)، لإسباغها بسمة الإرهاب والتطرف، وقد كانت منهما براء، حتى سيطروا على الدعم المالي والتسليحي، فأقصوا وصفوا جسديًا قادة الثورة الحقيقيين، تمامًا كما فعل النظام.
بالنسبة إلي جسّدت هذه الثورة حلمي، هي ثورتي للأبد، مهما تكالب عليها العالم وتعرضت للوهن والهزائم، هي ثورتي كفكر ومبدأ، قبل أن تعلن وجودها المادي، والفكرة لا تموت، وكنت أدفع الثمن تهميشًا ومنعًا من العمل، حتى قبل اندلاعها، لكوني أحمل بذورها وأنتمي إليها بأعماقي، وشاركت في منتديات ربيعها الأوّل منذ عام 2000 وبيانه التسعة وتسعين، وبيان الألفين، وبيان الانسحاب السوري من لبنان، وغيرها من بيانات، على الرغم من إرهاب النظام لكل من يحمل تلك البذور أو يحمل فكرًا مغايرًا غير مدجن، وهو ما دفع مسؤولًا أمنيًا لمنعي من العمل بكل الوزارات منذ عام 2006.
– انتقدتِ حديثًا، عبر منشور على جدار صفحتك في موقع (فيسبوك)، “اللجنة الدستورية” ووصفتِها بأنّها “فاقدة لشرعيتها”. هل توضحين لنا ما البعد الذي قصدتهِ؟ وما موقفك من عملية التفاوض السياسية برمتها، التي تجري بين قوى الثورة والمعارضة وممثلين عن المجتمع المدني ووفد نظام الأسد في جنيف؟
= بقناعتي، “اللجنة الدستورية” مجرد لعب بقضيتنا ومصير مستقبل بلدنا، في الوقت المستقطع لا أكثر، وهي فاقدة للشرعية بحكم تجاوزها لمقررات جنيف، ولالتفافها على أولوية الحكم الانتقالي، وهي السلة الأولى التي يُفترض تطبيقها كأولوية لتشكيل “اللجنة الدستورية”، وإلّا فسيخرج الدستور من تحت عباءة احتلالات متعدّدة لسورية، ولن يتجاوز كونه استبدال دستور المحتلين بالوطن. أضف إلى ذلك أنها غير معترف بها من الطرف الممثل للنظام الذي أعلنها لجنة وطنية لا رسمية، أي لجنة تحاور عنه من دون أن تُلزمه بمقرراتها، وجعل من الطرف الثوري طرفًا غير وطني، وفوق كل هذا وذاك، فإنّ أغلب أعضائها لا علاقة لهم بالقانون، وأكثر من نصف عددهم تابع للنظام الذي يستخدمهم كـ “لهايات” أطفال لتمرير الوقت، حتى يتمّ توزيع البلد وثرواته بين الأوصياء على اللجنة من الطرفين المتحاورين، فماذا سنأمل، وعلى ماذا سنعول من لجنة كهذه بعد كل ذلك؟
لم أرضخ لآلية كمّ الأفواه:
= عملك السينمائي الروائيّ الطويل الثاني «هوى» (2011)، عن رواية للكاتبة السورية هيفاء بيطار تحمل الاسم نفسه، وهو من إنتاج “المؤسّسة العامّة للسينما” التابعة للقطاع العامّ، حظي بفرصة مشاركة واحدة في “مهرجان مسقط السينمائي الدولي”، وتوقفت المؤسّسة عن دعمه، ومُنع عرضه في بلدك من دون إبداء أسباب ذلك من وزارة الثقافة في دمشق، هل لك أن توضحي لنا أسباب منع العرض، مع أن الفيلم من إنتاج هيئة رسمية تابعة لسلطة وزارة الثقافة التي أصدرت قرار المنع؟
آلية كم الأفواه المطبقة على كل مجالات الإبداع في سورية، التي لم أرضخ لها حتى قبل وأثناء تصويري للفيلم الذي أُنجز أثناء الشهور الأولى من بدء الثورة السورية، بدأت بتضييق الخناق عليّ عقب رفضي التوقيع على بيان السينمائيين الموالين للنظام الذي كان ردًا على بيان السينمائيين الأحرار الذي وقعت عليه في مدة التحضير لتصوير الفيلم. حينها، أعلن المخرج جود سعيد أمام المجتمعين في مقر مؤسّسة السينما أنني لست منهم، وأنّ على إدارة المؤسّسة معاقبتي بإيقاف تصويري لفيلمي «هوى» فورًا. تكرر تهديدي بإيقاف الفيلم حين أصررت على إضافة لقطة للتونسي محمد بوعزيزي حين أحرق نفسه ليشعل لهيب ثورات الربيع العربي، كمؤشر على ما سيؤول إليه حالنا مع استمرار الفساد المطروح في فيلمي هذا، السابقة أحداثه للثورة. وهذا دفعني لطرد مدير الإنتاج، ومدير التصوير ومهندس الصوت الروسيين، وعناصر أساسيّة أخرى من الفيلم، بسبب سعيهم الدؤوب لإفشال تصوير الفيلم. وفي النهاية، حين توضحت لهم مواقفي ومواقف كاتب سيناريو الفيلم الدكتور رياض نعسان آغا (وزير الثقافة الأسبق)، المؤيدة للثورة، تمّ منع الفيلم، على الرغم من أنه من إنتاج “المؤسّسة العامّة للسينما”، وتمّت إقالتي تعسفيًا من وظيفتي بصفتي مخرجة في المؤسّسة، من دون حاجتهم إلى تبرير هذا المنع والإقصاء التعسفي، طالما لم يردعهم شيء عن استباحة حياة ملايين الناس، وتدمير سورية وتهجير نصف سكانها، وجعلها بؤرة لاستقطاب الاحتلالات المتعدّدة وكل شذاذ الأرض والآفاق.
– يرى زملاء وزميلات لك من الفاعلين في الوسط الفنّي السوري أنّ القرارات التي اتّخذتها نقابة الفنّانين في السنوات الأخيرة، ومنها فصل حوالي 200 فنّان وفنّانة -أنتِ واحدة منهنّ- في تمّوز/ يوليو 2015، يفتح الباب واسعًا لأسئلة كثيرة عن ماهية هذه النقابة ومسؤوليتها الأولى، ألا وهي حماية أعضائها، وإذ هي تتحوّل إلى “فرع أمني“. ما تعليقك؟
= تمركز الفنون وتجميعها في نقابة واحدة، على الرغم من اختلافها وتنوعها بين سينمائيين ومسرحيين وتلفزيونيين مع مغني وعازفي وراقصي الكبريهات -مثلًا- كان بهدف مركزة الهيمنة الاستبدادية عليها وعلى حرّية ما يمثله أفرادها من فكر وفنّ، وليس للقيام بالدور الحقيقي للنقابات التخصّصية، وهو ضمان حقوق وحرّيات المنضوين تحت لوائها، وهو ما سبق أن طرحته مع غيره من مطالب تتعلق بالحرّيات في لقاء بشار الأسد معنا، بصفتنا فنّانين، عام 2003، طبعًا لم نلمس منه سوى الوعود التي تبخرت في الهواء. وقد توضّح دور هذه النقابة على حقيقته بأكمل وجه بعد الثورة، إذ قامت فعلًا بدور فرع أمن وبدأت تفصل الفنانين تعسفيًا، بطريقة تكرّس الضحالة والعبودية، كبديل للفنّ الحرّ، وللفنّانين المبدعين الذين لن يكونوا مبدعين إذا كانوا عبيدًا لنظام الإبادة والقتل، حيث يتناقض ذلك مع ضميرهم الإنساني، ومع رسالة الفنّانين الأحرار الذين يعكسون صورة شعبهم ومأساة بلدهم.
تلاحم الإبداع الروائيّ وعجنه بالحرّية:
– الممثلة والمخرجة واحة الراهب، كيف حدث أن ذهبتِ إلى أرض الرواية؟
= حين بدأت دراستي للسينما بباريس في السنة الأولى، قدّمت أوّل سيناريو فيلم روائيّ قصير لي وهو «منفى اختياري»، أحبه كثيرًا أستاذي الذي درّسني آنذاك، كان متحمسًا، وقدمً كافة وسائل الدعم لأتمكن من تصويره، حتى قبل أن أتعلم كثيرًا، ثمّ فاز الفيلم لاحقًا بالميدالية الفضية لـ “مهرجان قليبية للسينمائيين الهواة” في تونس، كان لذلك الفضل في تمتين ثقتي بعدم تطفلي على مهنة الكتابة، ولا على الإخراج الذي لم أجد من يشجعني على دراسته، كونه حكرًا على الرجال. ثمّ كان نجاح سيناريو فيلمي الطويل «رؤى حالمة» وطبعه كتابًا، إضافة إلى صدور كتابي «صورة المرأة في السينما السورية»، محفزًا آخر لي. لكن فكرة روايتي الأولى «مذكرات روح منحوسة» لم أنفذها على الورق إلّا بعد سنوات من المخاض العسير الذي جعلني أؤجل كتابتها إلى ما بعد انطلاق الثورة، لقناعتي التي ترسخت أكثر حول ضرورة تلاحم الإبداع الروائيّ وعجنه بالحرّية التي كان القمع يكبّلها، ذلك القمع الذي كان محور روايتي تلك. واستعضت عن تحقيق هذا التلاحم، بوصفه شرطًا أساسيًا للإبداع الروائيّ، بصوغ أفكاري عبر الصورة السينمائية والتلفزيونية القادرة على إتاحة فسحة من إبداع الخيال، للالتفاف على الرقابات القمعية.
– هلا حدّثتنا عن روايتك الأخيرة «الجنون طليقًا»، الصادرة عن “دار نوفل”، بيروت 2019؟
= تتناول الرواية قصة فريق يُصَوِّر فيلمًا سينمائيًا، ومجموعة فاسدين، ومجرمًا طليقًا، ومريضات هنّ أقلّ مرضًا ممّن خارج مشفاهنّ.
جريمة تليها جريمة ثمّ أخرى، في ظل إطباق الحصار الذي فُرض عليهم، كما فُرض على أطراف العاصمة السورية حيث يقع هذا المشفى، وهو الناتج عن الحرب الدائرة هناك منذ سبع سنوات، من دون أفق لحل قريب لها. وهذا فرض الإقامة الجبرية ووحَّد مصير جميع الموجودين في المشفى، سواء أكانوا من المقيمين المرضى أم من الأطباء والإداريين، أم من فريق تصوير الفيلم السينمائي.
تفاقُم الخوف من وجود قاتل طليق يدفع كل شخص إلى الاشتباه بالآخر، حتى يطال الاشتباه بينهم ذواتهم أيضًا، فيختلط الجنون بالعقل، والعامّ بالخاصّ، ويذوب الخيط الرفيع الفاصل بين الواقع والدراما، بينما ينبري كاتبٌ مراوغ، بدعم من المخرج المغرق في الواقعية، لتطويع السيناريو حتى يتطابق مع الواقع الذي باتت أحداثه أقسى من أن تُصدّق بسبب تداخل كبير جعل اختلاط الأمر الواقع على المحقّق ذاته بين الواقع والدراما التي استنبطها من تصفحه للسيناريو الذي يُصوّر، لدرجة كادت أن تدفعه ليعتمده دليلًا يوصله للقاتل لولا اعتزازه بقدراته الذاتية. إنّ اختطاف إرهابي من تنظيم (داعش) لبطل الفيلم، لم يكن الحدث الأفدح أمام الأهوال التي مرّت على الجميع، والتي ساهمت بتحويل ذاك المختطف من إنسان مسالم إلى إرهابي قاتل، وهذا عرّى عمق الدواخل النفسية ودوافع البعض لارتكاب تلك الجرائم، حيث اضمحلت الفوارق وذابت بين الجميع، وانجلى عنها اكتشاف الجميع لتداخلات مرضية، تجعل من جنون المريضات عقلًا نيرًا، أمام انفلات حجم الجنون الذي عمّ الداخل والخارج، وحوّل سورية إلى مشهد سريالي لا يُصدّق، ولا سيّما بعد أن تشعَّبت الجرائم، وتعدَّت كونها حالات فردية يمكن إيقافها والحد من تبعاتها.
– قبل الشروع في كتابة هذه الرواية، هل كان في ذهنك مخطط عامّ لها؟ وماذا عن الجدول الزمني لكتابتها ونشرها؟ وهل كتبتِ أكثر من مسودة؟
= أتت شرارة فكرة روايتي «الجنون طليقًا» من ذكرى مكان صورت فيه فيلمي الروائيّ الطويل «هوى»، وهو مشفى الأمراض العقلية بدمشق، كبديل للمشفى الوطني الذي يعج بالفساد، بحسب أحداث الفيلم، وكانت تلك الذكرى الشرارة التي أبحث عنها لتجسيد واقع الجنون الطليق في سورية الآن، في ظل حرب لا تبقي ولا تذر.
الرواية هي مقاربة للواقع، ومحاولة لعكس الواقع بمقوماته الأساسيّة النفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفنّيّة، لكنها تشطح عنه بإعادة صياغة متخيلة له، بحبكة بوليسية تحقّق التشويق، وتعكس في الوقت نفسه تنامي العنف في مجتمعنا، وكيف يولد عنفًا أشد في المقابل. حتى عنوانها كان المراد له أن يعكس واقع عصر بأكمله، يتخبط الجميع فيه بحالة انفلات للجنون، نتيجة انفلات العنف والخوف والطغيان. فتضمحّل الفوارق ويختلط الجنون بالعقل، وتضيع الحدود الفاصلة بينهما، وبين الدراما والواقع الذي كنا نهرب من تصديق وقائعه فننسبها للدراما، لكن ما حدث بسورية تجاوز أيّ خيال أو أيّ إمكانية لنسبها للدراما.
أما عن جدولها الزمني، فقد نبعت الفكرة وتمكنتُ من صياغة هيكلها العامّ قبل عام من بدء صياغتها التفصيلية التي أتممتها بسلاسة أكبر من روايتي الأولى ذات المخاض الأكثر عسرًا، الذي حبوت معه خطواتي الأولى في عالم الرواية والحرّية في الكتابة معًا.
أما الرواية الثانية فأنهيتها كتابةً أوّلية خلال شهرين أو ثلاثة. لكن إعادة العمل على تمكين صياغتها وتطويرها أخذ مني ما يقارب عامًا أيضًا، وكنت أجري عليها بعض الإضافات والتعديلات، حتى قبل آخر لحظة من طباعتها.
القلق رفيقي في الكتابة والتمثيل:
– كيف كانت علاقتكِ بفنّ الرواية قبل أن تشرعي في كتابة نصّك الروائيّ الأوّل؟
= منذ طفولتي كنت قارئة نهمة، أحلق في عالم القصص والروايات والأشعار حتى الكتب النظرية الثقافية، كبساط ريح يعبر بي الكون ويغني عالمي، وكان لديّ محاولات نثرية وأفكار وخيال جامح، وكانت أوّل فكرة خطرت لي كرواية حين كنت أدرس الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وكانت حول جندي عبد مأمور لأسياده، يسكن في قبو فارغ إلّا من الجرذان، ولا يجد له متنفسًا عن فقره وقمعه وإذلاله من الضباط سوى إعادة تطبيقه على جرذانه المذعورين، وهكذا يتحوّل بدوره إلى قامع أكبر لمن حوله. لكني أجّلت كتابتها لعدم وجود هامش كافٍ من الحرّية لصياغة أفكاري في رواية. وحين وجدت متنفسًا للتعبير عن ذاتي وأفكاري ورسالتي عبر الصورة السينمائية القادرة على الهروب قليلًا من الرقابات، والقادرة على الإيحاء بأعمق الأفكار من دون كلام، اكتفيت بتضمين تلك الفكرة في سيناريو فيلمي الروائيّ الطويل «رؤى حالمة»، ولو من خلال مشهد للأب يعوض عجزه عن مواجهة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 بالاستقواء على فئران بيته وعائلته.
– من أوّل من يقرأ كتاباتك؟ ومن أوّل ناقد لأعمالك؟
= كان أوّل القارئين والأكثر إغناءً برأيهما لكتابيّ الأوّلين قبل الطباعة هما زوجي المخرج مأمون البني، والصديق الكاتب والناقد صبحي حديدي، وهو الأكثر صبرًا واستمرارية في قراءة كل ما أكتب، مع مجموعة أخرى من الأصدقاء الذين أهتم لرأيهم القيم، لكن تتفاوت قراءتهم بحسب تفرغهم حين يحتاج الأمر ذلك، ومنهم الأصدقاء مازن عدي والدكتور أحمد برقاوي والصديقتان الكاتبة سمر يزبك وفاتن حلبي.
– ما تقييمك لتجاربك الأولى في الفنّ والكتابة من موقعك الآن؟
= بإمكاني الاستنتاج، على الرغم من قلّة إنتاجاتي الفنّيّة والروائيّة، وعلى الرغم من تدني عدد القراء في الدول العربية، أنني لمست من خلال ردود فعل النقاد والجمهور والقراء القادرين على تقييم تجربتي أكثر مني، اهتمامًا كبيرًا منذ أوّل عمل لي مثلته أو أخرجته أو ألّفته حتى الآن. حصدت روايتي الثانية «الجنون طليقًا» اهتمامًا أكبر من روايتي الأولى التي أعتز بها كثيرًا «مذكرات روح منحوسة» التي لاقت إعجاب كل من قرأها، وأشادوا بابتكار فكرتها وجمالية الأسلوبية واللغة والشخصيات والأحداث فيها، وارتفعت نسبة الإقبال عليها، وربما حجم متابعة الثانية كان أكبر لكون القراء يتوقعون من أوّل رواية لي أن تُقدّم بقالب تقليدي سهل مبسط، من دون كسر للمحرمات، وربما كان ذلك لأنه لم يتوفر لها الترويج الكافي إعلاميًا، بينما الثانية «الجنون طليقًا» لاقت اهتمامًا من دار النشر ووسائل الإعلام والقراء على حدٍّ سواء، وما زلت أتلقى صداه حتى الآن، على الرغم من عمر الرواية القصير نسبيًا، وقد أكمل العام، وعلى الرغم من كتابتها كاملة بالفصحى، فهي فصحى مبسطة وسلسة بحسب ما قِيل، وتتناول خطوطًا متعدّدة تثير التشويق أكثر.
أما بالنسبة للتمثيل والإخراج فقد كُتب كثير عن أوّل دور لي، وكان ذلك في بطولة مسرحية «لكع بن لكع» للمخرج وليد قوتلي والكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي، إذ عدّتني الصحافة اكتشافًا فنّيًا، وكُتب حول العمل كثير حتى في الأرض المحتلة، -أذكر أنّ أبناء الداخل المحتل كانوا يأتون سرًا لمشاهدة عرضنا- وفي أوّل ظهور لي في السينما بفيلم «أحلام المدينة» للمخرج محمد ملص، وفي أوّل ظهور لي على الشاشة الصغيرة مع المخرج هيثم حقي في مسلسل «غضب الصحراء» حين كتب عن دوري -على الرغم من تأخر ظهوري إلى ما بعد منتصف المسلسل- أنّ ظهور هذا الوجه الجديد سيسحب البساط من تحت أقدام أغلب فنّاناتنا. وقد كان ينتابني دومًا شعور بعدم الرضى والاكتفاء تجاه أيّ عمل أشعر بقدرتي على تقديمه بشكلٍ أفضل فيما بعد، أو ينتابني القلق من نشر رواية أجري التعديلات عليها حتى آخر لحظة، كما في روايتي الأخيرة التي ستنتشر هذا الشهر «حاجز لكفن». هناك قلق يغمر كل ما أكتبه أو أؤديه، هو ذات القلق والخوف على جنين أرعاه بكل دفقات الحب في أحشائي لأنجبه مكتمل الخلق إلى الحياة.
مناصرة قضايا المرأة والمجتمع السوري:
– حصلتِ أخيرًا على جائزة “أفضل فيلم قصير“، في مهرجان كييف في أوكرانيا السينمائي، عن فيلمك «قتل معلن»، كيف تلقيت خبر الفوز بهذه الجائزة؟ وما الانطباعات الأولى التي شعرت بها في لحظة الفوز؟ ومن الذي خطر ببالك في تلك اللحظة بالذات؟
= كانت سعادتي واعتزازي بها كبيرين، لأنّ السيناريو تمّ اختياره كرقم أوّلي حين قدّمته للمنظّمتين الداعمتين لإنتاج مجموعة أفلام عن المرأة لمجموعة كتّاب ومخرجين سوريين، فالفيلم مموّل من قبل منظّمات مدنية محدودة الإمكانيات، وتحظى بفرص ضئيلة في المشاركة بالمهرجانات الكبرى، بسبب الميزانية الضعيفة. ومهمّة تسويقه كانت صعبة عليّ لكونها تحتاج إلى اختصاصيين ووقت فائض لا أملكه. لذلك جاء هذا الفوز، على الرغم من كل الظروف، تتويجًا لجهود كل العاملين في الفيلم والداعمين له ولفكرته المناصرة لقضايا المرأة والمجتمع السوري، وقضايا زواج القاصرات في مخيمات اللجوء السوري في لبنان. وسعادتي كانت كبيرة، فالقضية السورية عادة ما يتمّ تهميشها إذا تطرقت -في الرواية- إلى عمق الواقع، كما هو الحال في فيلمي، ومن المعروف أن تسويق وإنتاج الأفلام الوثائقية كان يتمّ لكونها تغطي مساحة إخبارية واسعة إعلامية واستهلاكية فقط، لا تخلد في الذاكرة إلا بقدر طبعها بالطابع الروائيّ الأكثر تأثيرًا في الوجدان وتخليدًا للهوية وللذاكرة الوطنية، أو على المبدع تغيير مسارات عمله ليلقى الدعم، كما حدث في تجربة فيلمي «رؤى حالمة» حين تمّت الموافقة عليه كسيناريو من جهة تمويل فرنسية، لكنها اشترطت إلغاء الخط المتعلق بالاجتياح الإسرائيلي لبيروت فرفضت المنحة والتمويل، وبعد تمويله من “المؤسّسة العامّة السينما” في سورية، تمّت محاربته وإقصائه عن أغلب المهرجانات السينمائية العالمية، وقد تفاجأ كثير من النقاد الأجانب الذين التقيتهم في مهرجانات عربية لعدم عرضه في مهرجانات بلادهم، في الوقت الذي تمّ شراؤه وحفظه في (متحف وأرشيف السينما اليابانية العالمية)، كأوّل فيلم سوري وعربي، لأربعة قرون قادمة.
– هل لك أن تحدّثينا عن موضوع هذا الفيلم، وكيف ولدت فكرته، ومن يقف خلف إنتاجه؟
أحجار تلقى، الواحد تلو الآخر، لتحرك المستنقع الراكد لذاكرة طفلة، فتتبدّى معها مظاهر العنف الممارس عليها في مجتمعنا، لتستيقظ الطفلة من كوابيسها وقد بللت فراشها وهي في الحادية عشرة من عمرها، تقطن تلك الطفلة مع عائلتها في مخيم للاجئين السوريين في لبنان، مع أب عاجز بسبب الحرب ويتنقل على عكاز، والأم في شهرها الأخير من الحمل ولها إخوة صغار. كوابيسها اليومية تعكس مخزون العنف الممارس ضد المرأة في ذاكرتها، على جميع الصعد حتى الاقتصادية، إذ لا يكفي عملها في الحقول مع أهلها لسداد أجرة الخيمة التي تقطنها، وهذا يدفع أهلها لتزويجها من شخص أكبر منها. تستفيق الطفلة من حلم الاحتفالية بها كعروس، لتغرق بكوابيس يقظة هذه المرّة، تخنق حلمها في الهروب بعيدًا عن هذا المستنقع الآسن.
ولدت الفكرة بعد ورشة عمل أقامتها منظّمتا (“مدني” و”سيرج”) لمجموعة من المخرجين وكتّاب السيناريو، حول الفنّ وضرورة تضمينه لقضايا المرأة، قدّمت المنظّمتان بعدها تمويلًا لأفلام عدة تمّ اختيارها حول هذا الموضوع. وكنت أودّ تقديم نصّ لفيلم روائيّ طويل كتبته، يطرح كثيرًا من قضايا المرأة، لكن مديرة المشروع من طرف منظمة “مدني”، السيدة ملاك سويد، نصحتني بتقديم مشروع فيلم قصير، لعدم توفر التمويل الكافي لدعم فيلم طويل. وهكذا، من فوري حاولت اختزال العمل ضمن ربع ساعة فقط، مهتمّة بكثير من قضايا المرأة.
استوحيت فكرة الفيلم من هذه المأساة اليومية متعدّدة الأوجه، للتعبير عن هاجسي القديم، وهو تسليط الضوء على مظلومية المرأة، لكونها الكائن الأكثر اضطهادًا وتعتيمًا على اضطهادها من غيرها. ولكون قضيتها هي المحور والركيزة الأساسيّة لتحضر المجتمعات وتحرّرها وتطوّرها، لأنها هي المربية للأجيال، وستنشئ أبناءها على ما تربت عليه من مفاهيم العبودية أو الحرّية. فالفيلم كما عنوانه «قتل معلن» لا يختزل المآسي والمظلومية التي تعيشها المرأة منذ طفولتها فحسب، بل يجسد تتويجًا للمآسي التي يتعرّض لها كافّة أبناء وبنات الشعب السوري، من قتل معلن على الملأ جهارًا، والعالم يغض الطرف ساكتًا عن جريمة العصر، المقتلة الأكبر في العصر الحديث، وما آل إليه حال السوريين من تشرد وضياع وفقر في مخيمات اللجوء بما يكرّس اضطهاد المرأة والطفلة والإنسان السوري بشكلٍ عامّ. وهو صرخة للتحذير من تفشي ظاهرة زواج القاصرات، المخالفة للدستور والقوانين السورية والإنسانية، وللتحذير من الوضع المعيشي السيّئ الذي يكابده السوريون في لجوئهم المذل للكرامة الإنسانية، والتشدّق بمساعدات الأمم المتّحدة التي يلمس المرء في المخيمات مدى زيفها وكثرة سرقتها، بينما يدعي العنصريون أنّ اللاجئين يهدرون أموال البلاد التي يقطنونها.
– هل واجهتِ أيّ عرقلة في أيّ مرحلة من مراحل تنفيذ فيلم «قتل معلن»؟
= العراقيل التي واجهتنا كانت في اختياري لمخيم اللجوء كجزء أساسي من السيناريو، وكانت من رغبتي في التعبير عن واقع أهلنا المؤلم القاسي، بسبب ربط تفشي قضية زواج القاصرات في هذه المرحلة بالذات بهذا الواقع المأساوي، على الرغم من تناقضها مع القوانين الإنسانية والمحلية التي تحدد الزواج بعمر الثامنة عشر. كنت أودّ أن يكون لديّ تمويل أكبر لأطرح القضية ومعاناة أهلنا في المخيم بكل تشعباتها، وليس بفيلم مدته ربع ساعة فحسب. والتصوير في مخيمات اللجوء يحتاج إلى موافقات كانت تعاكسنا أحيانًا، وكذلك تعدد أماكن التصوير التي عليّ التنقل بينها في يومي تصوير، وهذا قلّص فرص خيارات “اللوكيشنات” الأبعد. كان من الممكن أن أصوّر أيامًا أكثر، ومع أجهزة وإضاءة ولقطات وإمكانيات للتصوير أكثر تنوّعًا لو توفرت الميزانية المناسبة.
إن بعض المبدعين السوريين، مثل الفنّان مكسيم خليل، تبرع بأجره، والمونتير إياد شهاب تبرع بأجر مشاركته بالإنتاج، وأنا عملت ممثلة ومخرجة وكاتبة ومنتجة منفذة من دون أجر أيضًا، لأتمكن من صنع الفيلم بالحدّ المعقول لما أطمح لتحقيقه.
استعادة روح الثورة بقوّة الإرادة:
– بتقديرك، أما زال بإمكان السوريين العودة إلى ذواتهم، واستعادة روح الثورة والمبادئ التي كانت تمثّلها، في الحرّية والكرامة وحقّ الشعب في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحّى من أجلها ملايين السوريين، بعضهم بأرواحه وبعضهم بمستقبله وكل ما يملك؟
=على الرغم من المشهد المحبط المحيط بسورية وثورتها وشعبها المكلوم، أنا مؤمنة بهذا الشعب الجبار الذي قام بثورة الكرامة على الرغم من تضافر كل قوى الكون لإجهاض ثورته لمدة ما يقارب عشر سنوات، وكاد أن ينتصر لولا الخيانات والمال السياسي المفسد الذي رهنّ قوى وأطياف الثورة والمعارضة للخارج، فضلًا عن رأس النظام الذي استجلب احتلالات متعدّدة للحفاظ على كرسي الحكم.
هذا الشعب ذاته قادر -ولم يعد أمامه حل آخر سوى الخروج من هذا الاستعصاء- على أن يستعيد إيمانه بقوّته وإرادته وحقّه في السيادة وتقرير مصيره، وأن يستعيد توحيد قواه المفتتة، حول شعارات الثورة الأولى التي ألهبت مشاعر (الحرّية، والكرامة، والشعب السوري واحد) دون غيرها، معتمدًا على قدراته الذاتية لا غير، مدركًا أن لا أحد له مصلحة بمساعدته على تحقيق أيّ انتصار لأيّ ثورة حرّة، على حساب المصالح الاستعمارية ومصالح حكومات محيطة بنا أو حتى بعيدة عنا، فحرّية الشعوب وانتصار ثورة كهذه تهدد حتى وجودها. ومن دون انتظار وجود قائد فذ ذو كاريزما قيادية تعيد إنتاج الاستبداد من جديد، إيماننا بالحرّية والديمقراطية كفيل وحده بإنتاج قادة عظماء من بين الثائرين الأحرار من أبناء شعبنا، وإلّا فستكون بانتظار شعبنا حياة عبودية أقسى من كل المهانة التي عاشها سابقًا، بل أقسى من الموت ذاته في ظل وجود ما يفوق خمسة احتلالات تدعم وجود نظام متوحش كهذا، ليبقى يفتك بشعبه ويبيده من دون حسيب أو رقيب.
الثورة انطلقت كفكرة، والأفكار لا تموت، فما بالنا بثورة كهذه صمدت وحدها في وجه كل قوى العالم شرقًا وغربًا التي عملت على نحرها، وما زال أبناؤها يحلمون بانتصارها.
– أخيرًا، ماذا بعد «الجنون طليقًا» في عالم الكتابة، و«قتل معلن» في السينما؟
= ستصدر عن دار “أنطوان هاشيت – نوفل” في بيروت، هذا الشهر، روايتي الثالثة «حاجز لكفن»، وقد بدأت بوضع أفكار الرواية الرابعة. أما بالنسبة لإخراج السيناريوهات المتعدّدة التي كتبتها، ومنها اثنان لفيلمين سينمائيين، «مملكة الخوف»، و«الجنون طليقًا»، والثاني مقتبس من روايتي التي تحمل الاسم نفسه، فهذا يتوقف على وجود مموّل، وهو ما بات صعب المنال أمام الضحالة التي باتت مطلوبة لتحقيق الأعمال الفنّيّة التي أجد نفسي بمنأى عنها.
__________
ملخص رواية «حاجز لكفن» (تصدر قريبًا عن دار “هاشيت أنطوان – نوفل”، بيروت 2020):
أثناء حصار المدن في البلاد التي ما زالت تخوض حربًا لإخماد الثورة فيها، يعتقل حاجز أمن امرأة بتهمة الإغاثة المعادِلة لتهمة الإرهاب بعُرف النظام، بعد أن يخلع عنها حجابها الذي كان الحاجز الوهمي الكابح لرغباتها كرمز لصون شرفها وعفتها، وتتعرّض “صبا” للتحرش والاغتصاب والتعذيب الوحشي هناك، تكتشف أشكالًا متعدّدة للخوف والموت، وتتجاوز خوفها من نوبات مرض رهاب الموت الذي تعاني منه. وتضطر للاعتراف أخيرًا بملكية الحقيبة، ولشرح حكاية كل ما يتمّ انتشاله منها، مطلقة العنان لخيالاتها المكبوتة والمستلهمة من رغباتها في تجسيد العالم الحرّ الذي تعكس الحقيبة دلالاته، بدءًا بملابسها الخاصّة والداخلية وأشيائها الحميمية، مرورًا بشجاعتها في إيصال تلك الأدوية ومواد الإغاثة لمساعدة الثوار والمصابين، وانتهاءً بما رغبت في تحقيقه على جهاز الكمبيوتر المحمول الذي عثروا عليه في الحقيبة، من تسجيل ما يمكّنها من الانفصال عن عالمها القاسي القاهر حين يُتقصد إيذاؤها.
تستفيق “صبا” من أحلام يقظتها على خبر إلقاء القبض على شريكتها “شذى”، الوجه الآخر المعاكس لها، المجسد لحياتها المشتهاة، وكانت قد هربت من سيارة الأجرة ذاتها حين تباطأ السائق أمام الحاجز خوفًا من اعتقالها للسبب ذاته، فكلتاهما محكومتان بعالم ذكوري قامع ومقموع في الآن ذاته.
أما حقيبة “صبا” التي استعادها الأمن من حوزة “شذى”، فيتضح أنها لا تحمل سوى الغرضين الوحيدين اللذين كانت تنوي بهما تجسيد الفعل الإرادي اليتيم الذي رغبت في تحقيقه، هربًا من ظروف فشل حياتها، وهربًا من الحرب ومن ضغط خوفها المستعصي على الموت ذاته. فتكتشف أن حرمانها حتى من خيار الموت، لم يعد هو نهاية المطاف مع جلاديها وحوش هذا العصر، فالخيار بات بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أن تكون وإما أن يكونوا.
__________
الملخص المختصر لسيناريو فيلم «مملكة الخوف» (من وحي وقائع الثورة السورية):
تأليف وسيناريو وحوار: واحة الراهب
“حكاية تدمير حي بابا عمرو في عيد الحب عام 2012، من خلال عائلة حمصية ثائرة لكنها منقسمة، يملك أحد أبنائها -وهو موالٍ للنظام- مدجنة يعلف فيها الدجاج بهدف ذبحه”.
من بداية عام 2012 إلى يوم عيد الحب 14 شباط/ فبراير 2012، نرصد تدمير وطن بأكمله من خلال تدمير النظام لحي بابا عمرو والأحياء الثائرة بحمص، عبر حكاية عائلة حمصية تقطن الحي، يملك أحد أبنائها -وهو موالٍ للنظام- مدجنة يتكاثر فيها الدجاج ويُعلف بهدف ذبحه، كما يقول، ويعيش أبناؤها التناقضات والفقر وحالة الارتهان للخوف بأشكال مختلفة، لتنتهي إما بالإغراق خوفًا وذلًا حتى الموت، لدرجة العبودية والقتل لأجلها ولإرهاب العائلة والانسلاخ عنها، وإما بمقاومة الخوف واستعادة طعم الحياة من جديد، ليتبيّن أنهم انتفضوا أوّلًا على خوفهم الذي لم ولن يمنع عنهم الموت في واقع كهذا، بل هو الموت بحدِّ ذاته، لنتلمس من خلالهم معالم وطن ينشد الحرّية، ويحتفي بالحياة والحب، على الرغم من الدمار والعنف والموت اللذين باتا يطغيان على المكان.
* صحافي سوري – فلسطيني
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.