عمر كوش *
أطلق مسؤولون أتراك، في الآونة الأخيرة، إشاراتٍ عديدة في اتجاه فتح حوار بين تركيا ومصر في قضايا تخصّهما، يهدف إلى تطبيع العلاقات بينهما، ويطاول التطورات التي حصلت في ليبيا وفي منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط، على خلفية ما صرح مستشار الرئيس التركي، ياسين أقتاي، عن وجود “أسباب عديدة للتعاون أكثر من أسباب الحرب والعداء بين مصر وتركيا”، وأن “تعاون الدولتين وتضامنهما أمر لا مفر منه، وعليهما أن يفعلا ذلك عاجلاً أم آجلاً”. وقبل ذلك، اعتبر وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أنه “على الرغم من أن علاقاتنا مع مصر متوترة، إلا أن رجال الأعمال الأتراك يواصلون أعمالهم التجارية مع مصر، ومن الممكن أن نعقد اتفاقاً مع مصر في المستقبل في حال تطابقت مصالحنا”. وجاءت أقوى الإشارات على لسان الرئيس التركي، أردوغان، الذي رأى أن “لا مانع لدينا في الحوار مع مصر، وإجراء محادثات استخباراتية مع القاهرة أمر مختلف وممكن، وليس هناك ما يمنع ذلك”، الأمر الذي يطرح أسئلةً حول إمكانية فتح حوار بين البلدين، يفضي إلى تطبيع العلاقات بينهما، على الرغم من حجم الخلافات والتوترات التي اعترتها خلال السنوات السابقة.
في المقابل، ما يزال المسؤولون المصريون يقابلون دعوات فتح الحوار التركية بتحفّظ، ويشككون في مدى انطباقها مع الأفعال، وتوافقها مع السياسات، ويربطونها بالتنسيق مع حلفائهم الإقليميين، لكن ذلك لا يمنع طرح تساؤلاتٍ عن إمكانية حدوث تقاربٍ بين تركيا ومصر، مدخله المصالح المشتركة بين البلدين، من خلال التوصل إلى اتفاقيةٍ لترسيم الحدود البحرية بينهما، على غرار مذكّرة التفاهم التي وقّعتها أنقرة مع حكومة الوفاق الليبية في 27 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ويسبقها، أو بالأحرى يمهّد لها، تحسّن في العلاقات السياسية بين البلدين، حيث تؤكّد تركيا أن توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع مصر ستكون الرابح الأكبر منها هي مصر، لأنها ستستعيد حقوقا كبيرة فقدتها من الاتفاقيات السابقة التي وقّعتها مع كل من اليونان وقبرص اليونانية.
وإن كان معروفاً في عالم السياسة الدولية أنه لا توجد خصومات أو صداقات دائمة بين أنظمة الدول، بل توجد مصالح دائمة، إلا أن تصريحات بعض المسؤولين الأتراك لا تعكس فقط رغبة في فتح حوار مع مصر، بل بناء تفاهماتٍ تهدف إلى تحييدها عن الصراع الدائر في منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط، والذي يدخل ضمنه الصراع على ليبيا، إضافة إلى الصراع على مصادر الطاقة في المنطقة. ولذلك تأتي الدعوات التركية في سياق جسّ النبض السياسي بشأن إمكانية تحسين العلاقات من خلال التمهيد لتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية، خصوصا أن وزير الخارجية التركي اعتبر أن مصر لم تنتهك، في أي وقت، الجرف القاري لتركيا في الاتفاقيتين اللتين أبرمتهما مع كل من اليونان وقبرص اليونانية، بشأن تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة في منطقة شرقي المتوسط، ولم يغب عنه أن إبرام اتفاق مع مصر بهذا الخصوص يقتضي تحسّن العلاقات السياسية معها.
وتأتي دعوات الحوار التركية مع مصر بهدف التخفيف من التوتر والخلافات العديدة التي شهدتها العلاقات التركية المصرية، والتي تراكمت منذ انقلاب يوليو/ تموز 2013 في مصر، ووصلت إلى حدّ التخوف من حدوث مواجهة عسكرية بين البلدين على الأرض الليبية، بالتزامن مع التصعيد العسكري الذي شهدته منطقة شرقي المتوسط. ولذلك، فإن تواتر الإشارات التركية يترافق مع الحلحلة النسبية التي يشهدها الوضع في ليبيا أخيرا، بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار وبدء حوار بين الأطراف الليبية، إلى جانب التهدئة ما بين اليونان وتركيا، التي يقودها حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى جانب ألمانيا، وأثمرت عن لقاءاتٍ بين قادة عسكريين من البلدين.
تطبيع العلاقات التركية المصرية مرهون بمصالح الدولتين وسياساتهما، إذ على الرغم من توتر العلاقات السياسية، فإنها تشهد في المقابل تطوراً ملحوظاً على المستوى الاقتصادي، من خلال ارتفاع حجم التبادلات التجارية السنوي الذي حقق رقماً قياسياً تاريخياً في عام 2018 بلغ 5.24 مليارات دولار، حيث بلغ حجم الصادرات التركية إلى مصر 3.05 مليارات دولار، والواردات التركية من مصر 2.19 مليار دولار، حسب بيانات هيئة الإحصاء التركية، وارتفع في عام 2019، ليتجاوز 6 مليارات دولار. ولم تنقطع مطلقاً الزيارات المتبادلة لرجال الأعمال بين الدولتين، على الرغم من توتر العلاقات بينهما، الأمر الذي يفيد بأنه في عالم الاقتصاد تكون الغلبة دوماً للمصلحة المشتركة والمتبادلة للأطراف.
ولا يبتعد عالم السياسة الدولية كثيراً عن عالم الاقتصاد، لكنه يحتكم إلى طبيعة كل دولة وخلفياتها ومواقفها، إلى جانب علاقاتها مع القوى الدولية الأخرى التي يعتريها تقاطع المصالح والاستراتيجيات وتشابكهما، حيث لا تخرج مواقف كل من تركيا ومصر عن إطار صراع المحاور والتكتلات في المنطقة، المنقسم إلى محورين، يجمع أحدهما تركيا وقطر وحلفاءهما في الإقليم، فيما يجمع الثاني السعودية والإمارات ومصر والبحرين، إضافة إلى امتداداتٍ تطاول، في بعض الأحيان، فرنسا واليونان وقبرص اليونانية في منطقة المتوسط. لذلك يصعب تصوّر حدوث تطورات مهمة في هذه التحالفات، لكن الأمر لا يخلو أحياناً من ممكنات بناء تفاهمات تكتيكية حول بعض القضايا والملفات.
والملاحظ أن السياسة التركية بدأت تميل، في المرحلة الراهنة، إلى المرونة وسلوك طريق الحوار حيال الملفات والقضايا الخلافية في منطقة شرقي المتوسط وليبيا، وذلك في محاولة لتجنب المواجهات والسيناريوهات المكلفة. وبالتالي، ربما تشكل دعوات فتح حوار مع مصر محاولة لسحب نظامها إلى خانة التقارب والتفاهم، بدلاً من العداء والمواجهة، وإبعادها عن المحور الإقليمي الرباعي، لكن ذلك كله قد لا يفضي إلى تطبيع شامل أو مصالحة مع ساستها.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.