أرنست خوري *
رصدٌ بسيط لتعاطي الإعلام العربي مع أشرس معارك عسكرية تخوضها أرمينيا وأذربيجان منذ العام 2016 يكفي لكي يخال المرء أن الحرب تدور في إحدى الحواضر العربية، وليس في بقعة جغرافية تفصلنا عنها آلاف الكيلومترات، ولا يجمع منطقتنا بها سوى طرفي نقيض: في الطرف الأول أقلياتٌ أرمنيةٌ تعيش منذ عقود في بلدان عربية عدّة، وهي تنتظم في لولبياتٍ فاعلةٍ ضد كل ما يمتّ لتركيا بصلة. وعند الطرف الثاني، تلتقي مشاعر دينية تتحمّس للأذربيين المسلمين، على قاعدة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. لكن بين الطرفين، ينسلّ خيط عربي ثالث، يخرّب الانقسام الديني التقليدي بين المعسكرين، على وقع شعارات كره تركيا التي صارت لاعباً أساسياً في كل صراع عربي.
ناغورنو كاراباخ إحدى التركات الثقيلة لتفكّك الاتحاد السوفييتي. هي مرتفعات استراتيجية تتصارع عليها القوميتان، الأذرية (التركمانية) والأرمنية، منذ العام 1988 (جذور الصراع تعود إلى 1923) لتكون الـ4400 كيلومتر مربع وصفةً للحروب الدينية، ولتشابك الهويات الدينية والقومية المتناقضة حتى الدم. ومحاولة حسم هوية الظالم والمظلوم ليست سوى جهد عبثي عجز أهل التاريخ والجغرافيا عن البتّ به، لما للطرفيْن من حجج وأدلة، يرونهما دامغة لحق الأرمن والأذريين في لوائهما السليب. لكنّ عرباً كثيرين ممن يظنون أن لهم وزنا في السياسة والإعلام قرّروا الانخراط في الحرب الأخيرة كعنصر كشّاف منذ اندلاع المعركة صبيحة الأحد الماضي: معسكر “عرب أرمينيا”، بما تمثله هذه الدولة من عداءٍ في كل شيء لتركيا، شهروا أسلحتهم الفتاكة بأخبار عاجلة وبتقارير صحافية عن أرتالٍ من المقاتلين السوريين ترسلهم تركيا للقتال إلى جانب الأذريين. في المقابل، ظن إعلام “عرب تركيا” أن تغييب الرواية الأرمنية للأحداث ولبدايتها سيكون عنصراً حاسماً في مجرى المعركة التي سقط في ساعاتها الأولى عشرات القتلى من الطرفين، فأتت تغطيتهم الخبرية منافسةً لانحياز الإعلام التركي المحلي.
ولكن إقحام العامل السوري في حرب أرمينيا وأذربيجان قد لا يكون مجرد بروباغاندا إذا ما تذكرنا بداية تسلل عبارة “المقاتلين السوريين” في الحرب الليبية. حينذاك، تسارعت بيانات النفي، قبل أن يصبح وجود سوريين في معسكري ’حفتر‘ وحكومة الوفاق حقيقة لا تشكيك فيها، وصار كل النقاش يتركّز حول مَنّ مِنَ المعسكريْن يستعين أكثر من الآخر بمسلحين سوريين؟ سفير أرمينيا لدى روسيا، ’فاردان توجانيان‘، كان أول من تحدّث عن أن تركيا نقلت نحو 4000 مقاتل من شمال سورية إلى أذربيجان. باكو سارعت إلى النفي. أغلب الظن أن إيكال المهمة إلى السفير في روسيا تحديداً محسوبٌ بدقة من معسكر أرمينيا، فعلى الرغم من أن موقف موسكو لا يزال رسمياً يلتزم الأدبيات الدبلوماسية “الطبيعية” بدعوة الطرفين إلى “ضبط النفس” و”وقف فوري لإطلاق النار”، من دون إشهار انحيازٍ لمصلحة يرفان، إلا أن صراعاً روسياً ــ تركياً جديداً في جبال ناغورنو كاراباخ لا يخفى على أي مراجعةٍ لظروف اليوم والأمس، فمنذ عشرينيات القرن الماضي، ظل الإقليم المتنازع عليه محلّ مساومات روسية ــ تركية، ترتفع حدّة التوتر بين الأذريين والأرمن، كلما أراد الطرفان خوض مواجهة غير مباشرة، وتخبو كلما أرادا إعلان هدنةٍ عرفت انتكاسةً فعليةً بعد وفاة ستالين. واليوم، في المدى الجيواستراتيجي، لا تبدو روسيا وتركيا في وارد فتح مواجهةٍ إضافيةٍ في العلاقة العجيبة التي تربط ما بينهما، علاقة تحالف وحرب في آن، على الأقل في ساحتين دمويتين: سورية وليبيا. ولكن ربما تكون النوازع المحلية اليوم بين الأرمن والأذريين أقوى من رغبات العرّابَين اللذين سيكون عليهما اتخاذ قرار حاسم في منطقة القوقاز على مقربةٍ من إيران، عشية انتقال محتمل للسلطة في البيت الأبيض.
هي حربٌ بين الأرمن والأذريين. ربما تصبح بين الروس ومعهم بعض الأوروبيين ضد الأتراك بالوكالة. لكن المؤكّد أن لا علاقة للعرب بها، حتى وإن أحبّ هؤلاء مواصلة استعراض فضائحهم في بلدانٍ بالكاد يعرفون أسماءها.
* مدير تحرير “العربي الجديد”
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.