مجدي رياض *
في أربعينيـة الدكتور جمال الأتاسي راودتني أفكـار ومشاعـر عـديدة, وكان هـاجس الكتابة عنه منذ رحيله يضغط على أعصابي . فلا الرثاء يكفي، أو التقاط حدث أو حديث لإثارة صحفية تليق بذكراه, وفي الوقت ذاته تفتقر الكتابة البحثية إلى الروح الحميمية التي تفرضها الذكريات معه وتبثها الذكريات عنه .
من هنا جاءت هذه المحاولة لتجمع بين البحث والتحليل.. وبين الروايات والانطباعات, وتهدف إلى رسم صورة متعددة الزوايا لرجل تنوعت أدواره.. ووضع بصمته فوق الأحداث لعدة مراحل . وقبل كل هذا.. فإن الحديث عنه يعني الحديث عن جيل.. وعن التيار القومي في المشرق العربي.. وفي مقدمته التيار الناصري .
اللقاء الأول:
كان هذا اللقاء في دمشق- الشام- مع نهايات عام 1986, وعبر أسبوعين من جلسات الحوار الممتد إلى ساعات متأخرة في الليل بمنزله في منطقة المزة تشكلت لدي صورة جديدة عن الرجل ودوره وتاريخه, فمعرفتي به من قبل تمت عبر الآخرين ومن خلال القراءة .
كان الإخوة السوريون من رابطة الطلبة الوحدويين بالقاهرة يتحدثون عنه باستفاضة وفي مواجهة الاتهامات التي أطلقها البعض حول محاولة الدكتور جمال من قبل لمركسة الناصرية, وكان ذلك في بداية السبعينيات .
وكان “أبو ممدوح” الأستاذ حسن إسماعيل المحامي كأحد أبرز قيادات الاتحاد الاشتراكي العربي وكعضو بمجلس الشعب السوري آنذاك يتردد كثيراً على القاهرة التي تُشكل مع ليبيا وسورية اتحاد الجمهوريات, ومن خلال اللقاءات العديدة بيننا وحوارنا المتشعب حول الناصرية كما يراها جيلي الذي بدأ عمره مع الثورة والطبقة التي تضمني شرائحها- الطبقة الوسطى- ومن ثم كانت رؤيتنا تختلف عن رؤية الأجهزة والمنظمات الرسمية المصرية آنذاك والتي لم تكن قد خلعت رداء الناصرية علناً، ومن هنا كانت أهمية هذه الحوارات وضرورة الحديث عن الدكتور جمال الأتاسي كأمين عام للاتحاد الاشتراكي بسوريا وكسياسي مخضرم وكقيادي بارز، وقبل كلّ هذا كمفكر قومي يلتزم بالناصرية ويعمل على تطويرها .
ثم كان هناك الدكتور عبد الكريم أحمد- رحمه الله- الذي تولى فترة لم تدم طويلاً لأمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي العربي بمصر، حيث أصر أن يكون البرنامج التثقيفي باسم الناصرية، وهو أمر لم يكن مرغوباً فيه لأن الاستعدادات آنذاك كانت تجري على قدم وساق لإلغاء كل ما يمت بصلة للناصرية على المستوى الفكري كما هو الامر على المستوى السياسي والاقتصادي، لذا تمت ازاحته من موقعه، لكن الرجل لم يتقاعس لحظة واحدة عن دوره ومبادئه رغم موقعه الرسمي كوكيل لوزارة التعليم العالي آنذاك، وراح يلتقي بالشباب ويلقي المحاضرات في الجامعات ووسط الحركة الطلابية الناصرية الصاعدة والمتمردة، في الوقت الذي انقلب فيه الكثيرون وتقاعس فيه المترددون وانكفأ البعض صمتاً أو جبراً أو رُعباً، ولأن الدكتور عبد الكريم أحمد من طلائع المفكرين القوميين في مصر، فقد كان نقطة التقاء بينهم كما كان بيته مزاراً وبوابة المرور للأخوة العرب في رحلتهم العربية بالقاهرة القومية، ولذلك كان من الطبيعي أيضا ولأسباب أخرى أن تربطه بالدكتور جمال الأتاسي علاقة صداقة قوية ودائمة بل وأسرية، ومن هنا كانت لقاءاتي مع الدكتور عبد الكريم العديدة وخاصة في مرحلة تأسيس نادي الفكر الناصري أو إعادة إحياء اللجنة العربية لتخليد القائد لا بد وأن يتخللها حديث عن الدكتور جمال، فكلما أحس بنوع من التشدد في الآراء أو في التحليل ومن ثم المواقف المترتبة عليه كان يردد قوله الشهير: “أنتم تذكرونني بالدكتور جمال ويبدو أنه الأصلح للعمل معكم هنا”، وفي الصيف وبعد عودته هو وأسرته من مصيف البلودان القريب من دمشق وفي رفقة د. جمال وأسرته، ينقل لنا سلامه والكثير من القضايا التي تم طرحها في جدل الفكر وحركة السياسة وحرارة السمر.
وكانت هناك الكتب والمجلات التي قرأت فيها أعماله، ومنها الترجمات المميزة التي قام بها مع صديق عمره ودربه سامي الدروبي کالمدخل إلى الفكر السياسي لموريس دوفرجيه، ومنها دراساته المتعددة حول الفكر الاشتراكي وقضايا الفكر القومي بصفة عامة والفكر الناصري على وجه الخصوص سواء في الكتيبات أو النشرات التنظيمية أو المجلات الفكرية والثقافية كالمعرفة وغيرها . ثم كان كتابه الدقيق والقيم “إطلالة على الفكر الاستراتيجي لجمال عبد الناصر” .
من خلال الروايات الفردية والجماعية ومن خلال القراءات تشكلت لدي ملامح لتلك الشخصية المثيرة للجدل وللاكتشاف في آن واحد، وكانت اللوحة الشخصية- البورتريه- التي رسمتُها في مخيلتي لهذا الرجل أقرب ما تكون ملامح قائد عسكري منتجهم تعلو الصرامة وجهه وتبرز القسوة فوق نظراته ومن خلال تجاعيد الجبين، ومن ثم فإن الحوار معه قد يكون مختصراً وحاداً إن لم يكن مستحيلاً، ولكن عندما التقيت به وجهاً لوجه خلال تلك الأسابيع الأخيرة من عام 1986 فوجئت به أنه إنسان تسبقه بشاشته وتحيطه الشفافية، ويتسم برقة شديدة لا نعهدها إلا في الشعراء والفنانين الحقيقيين وفوق كل هذا وقبله.. لديه قدرة فائقة على الحديث والجدل السياسي والفكري لساعات ممتدة دون الوقوع في مستنقعات الثرثرة أو متاهات السفسطة والخطابية، بل تظل خلفيته الموسوعية تحكم منهجيته وتواضعه بحثاً عن الحقيقة ووصولاً إلى الهدف والجواب الصحيح .
التاريخ والدور:
إن الحديث عن تاريخ الرجل ودوره تأتي أهميته وضرورته في آن واحد من خلال إدراكنا لعوامل ثلاثة على سبيل الاختزال لا الحصر:
فهو يمثل الجيل المشرقي للجيل الذي صنع الثورة في مصر وبخصوصية الواقع هناك وما فرضه من وقائع, وهو من جهة ثانية يعبر خير تعبير عن تطور الحركة القومية الناصرية في تطورها من العفوية والتناثر إلى البلورة والتناغم, وهو في الوقت ذاته من القلائل الذين آمنوا بأهمية المسألة الفكرية وضرورة الاجتهاد والتطوير ومارس هذا الأمر حتى آخر لحظة في عمره .
أولا الجيل:
ينتمي الدكتور جمال إلى الجيل الذي ولد وتعلم وتفتحت مداركه السياسية خلال الفترة مداركه السياسية خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين, هذا الجيل شاهد الدراما الدولية حين اصطدمت المصالح والجيوش بين القوى الاستعمارية الكبرى, ورأى انهيار دول وامبراطوريات شاخت أعمارها, ولمعت في عينيه بريق ثورات أيديولوجية وتحرر وطني وقيام دول جديدة في ظل الانقسامات وتحت ظل حق تقرير المصير وفي أتون الحروب والشرار الناجم عن احتكاك الافكار والطموحات والمؤسسات الدولية الصاعدة كعصبة الأمم, والأمم المتحدة فيما بعد، وهي أمور تفاعلت مع معايشته للحركات الوطنية وللانفجارات الجماهيرية فوق أرضه, لكنه لاحظ أيضا ضعف القيادات وانتماء معظمها إلى نفس الطبقات الحاكمة من الاقطاع وكبار التجار والرأسماليين المرتبطين بالرأسمالية المستعمِرة, وبرغم عدم امتلاكها رؤية أو مشروعاً سياسياً واجتماعياً وفكرياً بديلاً للمشروع الاستعماري والسلطات الحاكمة، إلا أنها كانت من جهة واجهة التحدي في تلك المرحلة وتشكل ائتلافاً حاشداً لقوى وشخصيات متعددة، وهي الحالة العربية المشتركة آنذاك، وكما يقول عالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك فإن الاندفاعة الوطنية في أي قطر عربي سعت إلى إيجاد تجمع عريض غير متجانس مثل الكتلة الوطنية في سوريا والوفد في مصر والاستقلال في الجزائر والدستوري الجديد في تونس، فقد تآلف رجال بماض ومشارب متباينة وراء هدف وحيد هو الاستقلال، ولكن النجاحات الأولى سواء تمت عن طريق التفاوض مع الدولة المحتلة أو عن طريق الكفاح المسلح ضدها، فإنها كانت تشق هذه التجمعات، لقد كانت الانشقاقات الأيديولوجية والشخصية تثور وتحل التمييزات الحادة مكان الوطنية الأصلية الطوعية، من هنا كان من الطبيعي أن يشارك الدكتور جمال في الحياة السياسية القائمة أنذاك كواحد من طلائع هذا الجيل، ثري في بيت والده المزارع والذي يمتلك بعض الأراضي ويفتح منزله بحمص للقاء القيادات الوطنية في ذلك الوقت . ويأوي أيضاً بعض المضطهدين من كوادر الثورة السوريين وكان بديهياً أيضاً عند حصوله على شهادة البكالوريا ورحيله من مسقط رأسه حمص إلى دمشق حيث التحق بكلية الطب هناك، أن ينغمس في الحركة الطلابية ويشارك في تأسيس رابطة عربية للطلاب العرب الملتحقين بجامعة دمشق، وكان قبلها بعامين أي في 1941 قد شارك في مجموعة طلابية ثقافية التفت حول زكي الأرسوزي، وفي نهاية هذا العام ذهب مع مجموعة من الطلاب العرب للالتحاق بثورة رشيد عالي الكيلاني بالعراق وعادوا بعد فشلها، وهناك كان أول لقاء مباشر وملموس له مع القضية الكردية والتي شكلت فيما بعد نقطة اختلاف إنساني وديمقراطي مع حزب البعث الذي ينتمي إليه .
ولم يكن غريبا أن يقترب من حزب الكتلة الوطنية أثناء وجوده بحمص، إلا أنه بدمشق راح يشارك في الحوار الدائر آنذاك حول الصيغ الجديدة للعمل السياسي لتجاوز الأزمة القائمة والقيادات السائدة وفي مقدمتها قيادات الكتلة الوطنية والتي انفرط عقدها في النصف الثاني من الأربعينيات، واضطرت إلى تجميع شتاتها قبيل انتخابات 1947 فشكلت من جناحها الحاكم الحزب الوطني والذي كان على رأسه شكري القوتلي وصبري العسلي .
ولكن جيل ما بين الحربين المشرقي كانت له خصوصيته التي تميز بها عن نظيره في مصر، حيث كانت القضايا القومية في مقدمة مطالبه وأولويات حركته ومعاركه، صحيح أن الهم القومي بدأ يفرض نفسه على ساحة العمل السياسي بمصر منذ نهاية الثلاثينيات سواء على المستوى الحكومي أو قوى المعارضة، لكن هذا الأمر ظل على المستوى الشعبي جزءاً من الانتماء الأخوي الإسلامي، وفي جبهة المعارضة والمثقفين ظل محصوراً في الحال الثقافي أو بارزاً وواضحاً لدى قلائل ممن كانوا على صلة بالقادة القوميين العرب المنفيين أو الزائرين على حد تعبير جاك بیرك، أما الحكومة: القصر أو الوفد فقد كان البعد العربي للسياسة المصرية آنذاك جزءاً من الصراع بين الملك فاروق ومصطفى النحاس، وهو الأمر الذي لاحظه أحد أعضاء الوفد السوري في مباحثات الجامعة العربية الدكتور نجيب الأرمنازي حين قال “وقد أدركنا أن همهما الوحيد من إنشاء الجامعة العربية كان من أجل وضعهما في مصر وليس من أجل العرب، ولكننا أغمضنا عيوننا على ما رأينا، فقد كنا سعداء بأن مصر مهما كان الدافع أخذت تعتبر نفسها جزءاً من العالم العربي”، ويبدو أن هذه الخصوصية- الأولوية القومية- لدى الجيل بالمشرق العربي لها أسبابها التاريخية والسياسية بل والجغرافية أيضاً .
فالجغرافيا جعلت الشام بصفة عامة حزام الواحات الشمالي للجزيرة العربية، وجعلت دمشق بصفة خاصة المدينة المركز في مدن الشام منذ القدم، ومن خلال هذا الموقع أصبحت عاصمة أول إمبراطورية عربية- الأموية- وحتى عندما انتقلت الخلافة إلى بغداد أو مصر أو استنبول ظل موقعها ودورها جزءاً مهما من حركة وسياسات عاصمة الخلافة، بل إن هذا الموقع الجغرافي ربطها عبر التاريخ بأمن مصر فأحدث بذلك خط الدفاع الأول لها، مما جعل الشام دوماً في غمار المعارك المُنقذة للعروبة على حدّ تعبير عبد الكريم زهور، وجعل الاستيلاء على سوريا يعني في النهاية الاستيلاء على المشرق ككل، بل والمنطقة بأسرها كما يقول باتريك سيل.
ومن ناحية جغرافية وتاريخية كما يقول الدكتور جمال الأتاسي لم يكن هناك قبل الانتداب الفرنسي ما يسمى بحدود سوريا الحالية، بينما مصر بحدودها المعروفة لنا كانت موجودة من ألاف السنين، وإذا أضفنا إلى ذلك الظروف التاريخية والسياسية التي جعلت مصر مستقلة عن السلطنة العثمانية منذ أوائل القرن التاسع عشر، بينما سوريا والشام ظلت تحت هذه السيطرة حتى الحرب العالمية الأولى، ومن ثم كانت معركة الهوية في مصر والمغرب العربي هي الإسلام في مواجهة الغرب المحتل، بينما في المشرق شكلت العروبة ساحة المواجهة والهوية، فالحقبة العثمانية وقبضتها الأعنف بالمشرق وكذلك المجازر أو الشوفونية الطورانية كانت وراء هذا البروز المبكر للوعي والحركة القومية .
* كاتب صحفي ومناضل قومي ناصري مصري
المصدر: جريدة العربي المصرية؛ 28 أيار/ مايو 2000
التعليقات مغلقة.