عبد الله السناوي *
عاد السد العالي إلى صدارة المشهد المصري ورد اعتباره مجدداً بالدور الذى لعبه في حماية البلد من فيضانات مدمرة ضربت الشقيق السوداني بكوارثها ومآسيها.
على مدى عقود متصلة لاحقته حملات ممنهجة بدواعي تصفية الحسابات مع «جمال عبدالناصر» عصراً ومشروعاً، دون أدنى اعتبار لأدواره في التنمية وحماية مصر في أوقات الفيضانات، أو عند الجفاف والشح المائي.
ارتفعت أصوات في سبعينيات القرن الماضي وما بعده تصمُ السد بكل نقيصة وتدعو إلى هدمه، كان من بينها مرشد جماعة «الإخوان المسلمين» «عمر التلمساني»، وأصوات محسوبة على نظام «أنور السادات».
مرة بعد أخرى تكفلت الحقائق بدحض الحملات وتأكدت قيمته في أدبيات الأمم المتحدة كأهم مشروع هندسي في القرن العشرين.
كانت تلك شهادة هندسية مستحقة، لكنها تقصر عن الإلمام بالدور المحوري الذى لعبه في التاريخ المصري المعاصر.
لم يكن السد العالي سوى معركة في حرب حقيقية حول المنطقة ـ بند في مشروع، وليس كل المشروع!
هناك فارق جوهري بين المشروع العمراني والمشروع القومي.
هناك من يتصور المشروع القومي محض مشروع اقتصادي، أو زراعي، أو صناعي كبير، تحشد من حوله الطاقات والقوى وتكتب وتلحن من أجله الأغاني ـ في طلب نفس الأثر الذى أحدثه مشروع «السد العالي» دون الخوض في معارك سياسية أو عسكرية، كالتي جرت بسببه ومن حوله.
لا توجد في التاريخ مشروعات قومية بلا كلفة وتكاليف وأثمان.
معاركه اكتسبت إلهامها بتحدي البناء والتنمية واستكمال مقومات استقلال القرار الوطني لا بالأغاني والأناشيد.
معركة السد العالي لم تصنعها «الأغاني»، بل هي التي صنعت أغانيها.
تصدر «صلاح جاهين» مشهد الأحلام الكبرى.
بقدر ما أخلص لاعتقاده أثرت أناشيده جيلًا بعد آخر، رغم ما ألمّ به من اكتئاب حاد بعد هزيمة «يونيو».
في أشعاره تبدت قدرات لا تتوافر لغيره تبسيطًا لأعقد الأفكار السياسية بلغة يفهمها الناس جميعهم على اختلاف ثقافتهم ومستوى تعليمهم.
«لا تثبت الأحجار بلا موان
وكانت إرادتنا ونفذنا أمرنا
ولا همنا ساخط ولا زعلان».
أين الأحجار والموان؟
كان ذلك تحدى البناء.
بدت «جوابات حراجي القط العامل في السد العالي وزوجته فاطنة أحمد عبدالغفار»، التي أبدعها باللهجة الصعيدية «عبدالرحمن الأبنودي»، نظرة عميقة في فلسفة الحياة والغربة والتحول داخل مجتمع مهمش وفقير إلى عالم جديد.
التحول في أساليب الإنتاج من «صاحب فأس» إلى «أسطى في السد العالي» ألهم الشعر وأضفى عليه إلهامه.
أي مشروع يكتسب قيمته من قدرته على صياغة إرادة التغيير في مجتمعه بما يتسق مع احتياجاته وفق رؤية للمكان والزمان والإنسان.
أسس السد العالي لعصر التصنيع الثقيل وتمصير الاقتصاد المصري وبناء قطاع عام قوى وقادر على التنمية والوفاء بمتطلبات الانتقال إلى عصر جديد أكثر عدلًا اجتماعيًا.
ارتبط بتوليد الكهرباء إلى معدلات غير مسبوقة بحسابات زمانها وزيادة رقعة الأراضي الزراعية مع اتساع الخدمات الصحية والتعليمية.
اكتسب السد العالي رمزيته من سياق مشروعه.
أكثر ما يسيء لأى مشروع من هذا الحجم النظر إليه كنوع من «التوحيد» الإجباري وراء فكر واحد.. وزعيم واحد.
المشروع القومي هو مجموعة «القيم الأساسية»، التي تحكم الحركة إلى المستقبل وتمثل المشترك الأعظم بين جميع القوى والاتجاهات السياسية.
المشروع القومي لم يخترعه «عبدالناصر»، فهو لم يخترع الوحدة العربية ولا خلق من فراغ أحلامها وتطلعاتها، وهو لم يخترع مطلب الاستقلال الوطني والاستعداد للتضحية فى سبيلها، لم يؤلف دور مصر في المنطقة، حيث حقائق الجغرافيا والتاريخ تدعو إليه، ولم يكتشف مقتضيات العدل الاجتماعي.
الأفكار الرئيسية لـ«عبدالناصر» كلها ـ تقريبًا ـ كانت موجودة في الجو السياسي والثقافي العام قبل ثورة يوليو.
قيمته في التاريخ أنه وضعها موضع التنفيذ وتحمل مسئولية مجابهة التحديات والصعاب.
لعل «حكاية شعب»، التي صاغها «أحمد شفيق كامل» وأنشدها «عبدالحليم حافظ» من ألحان «كمال الطويل»، أفضل ما غنى لملحمة السد العالي؛ حيث وضعت في سياق تحدياتها ومعاركها طلبا للتحرر الوطني والتنمية المستقلة.
لم يكن تحدى السد العالي حربا في فراغ الدعايات، فقد استكمل مقومات القدرة عليه من تأميم قناة السويس في (٢٦) يوليو (١٩٥٦).
ألهمت صرخة «عبدالناصر» من على منبر الأزهر الشريف أثر العدوان على مصر: «الله أكبر.. سنقاتل ولن نستسلم أبدًا»، حركات التحرير في العالم الثالث.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربي والقارة الأفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود في حرب السويس.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأي زعم آخر تجديف في الوهم.
هكذا جرى بناء السد العالي، وبنت ثورة «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمّرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرمانا.
المشروعات الكبرى تُقاس بنتائجها السياسية والاجتماعية كما أرقام عوائدها الاقتصادية.
هناك ما ينتقد في التجربة الاجتماعية والاقتصادية لثورة «يوليو»، فلا تجارب إنسانية تستعصى على الأخطاء.
كل نقد مشروع وطبيعي، طالما استند على معلومات مدققة وقراءة فى الأرقام قبل إصدار الأحكام باجتهاد، غير أن تجربتها لا تضارعها أية تجربة مصرية أخرى منذ فجر الضمير على ضفاف نهر النيل من حيث التزامها قضية العدالة الاجتماعية وحجم الحراك الاجتماعي الذى أحدثته.
لم يكن بناء السد العالي سوى خطوة فى مشروع امتد إلى كل مناحي تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعي.
في عام (1967) جرى استهداف المشروع الناصري من بين ثغرات نظام ثورة يوليو، وكانت الحملة على السد العالي في السبعينيات وما بعدها أقرب إلى انقضاض على ركائز ذلك المشروع.
من مفارقات التواريخ أن يرد اعتبار السد العالي مجددا في نفس الشهر الذى رحل فيه «عبدالناصر» قبل خمسين سنة، فأخذ كثيرون يرددون على شبكة التواصل الاجتماعي بيتا شعريا مؤثرا لـ«عبدالرحمن الأبنودي»: «يعيش جمال حتى في موته».
الأهم والأجدر بالنظر رد اعتبار المشروع القومي نفسه.
* كاتب عربي من مصر
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.