عبد الباسط حمودة *
أصبحت سورية، نموذجاً مثالياً وواقعياً للمكان الخبيث ’’الديستوبيا‘‘ الذي يزدهر فيه العنف والتمرد والدكتاتورية والتفكك الاقتصادي والأوبئة ويغيب الأمل وتتلاشى الحلول وتنعدم المخارج ذلك كله بعد أن أقعى ذيلُ الكلب على تلتها وباتت البلاد تغرق بالاحتلالات وفي تلك المشاكل على اختلاف أنواعها، ما يجعل الاضطرابات مستقبلها المُظلم والوحيد.
وقد فقد نظام الجريمة الأسدي الاهتمام بتصدير صورته ككيان متماسك، بقدر ما يهتم بصورته ككيان مجرد من أي صفة أخرى، فالبلاد تنجر نحو التفكك، وأيضاً لناحية انتظار حدوث الكوارث وترقبها، فالحرائق التي تنتشر هذه الفترة في الساحل السوري وجباله كمشاريع للتحطيب والتفحيم وإفراغ الأرض من خضرتها، ناهيكم عن الانفجارات التي قد تحصل في أي لحظة مستقبلية بأربع أرجائها، وما الكارثة الإنسانية المتمثلة بضحايا الإجرام الأسدي طيلة عقود، خاصة خلال الثورة بسنواتها الطويلة، فليست سوى ذكرى تاريخية تؤسس لسنوات قادمة من عدم الاستقرار بسبب غياب العدالة.
ولا تُعد الحرائق أمراً جديداً في جبال الساحل السوري تحديداً، بل هي حدث سنوي منذ سبعينيات القرن الماضي؛ ومنذ 2016، تحولت هذه الحرائق- برعاية الاحتلال الروسي- من حوادث فردية يمكن السيطرة عليها نسبياً إلى حوادث جماعية، بلغت في شهر تشرين الثاني 2016 أكثر من 15 حريق في ريف اللاذقية وحدها، وهو رقم ارتفع بشكل ملحوظ وصولاً للحرائق الهائلة الأخيرة التي قضت على آلاف الهكتارات، في مناطق واسعة من الساحل السوري وسهل الغاب ومحيطهما، والتي قضت على آلاف الهكتارات من الغابات التي يعود تاريخ بعضها إلى حقبة الحروب الصليبية، ولم تعرف نسبة أضراره بشكل دقيق بعد. فيما يشير الخبراء إلى أن نسبة الحوادث المتعمدة منها ارتفعت من 41% بين العامين 1987 و1998، إلى 90% بين العامين 2011 و2018بما يشابه حريق المحاصيل الزراعية على مدار أعوام الثورة كلها.
أليس من الصعب حقاً التفكير بأن البلد الذي عُرف يوماً باسم سورية، وشهد طوال عشر سنوات مأساة إنسانية- أعقبت أعظم ثورة في العصر الحديث- قد تكون الأفجع بين المآسي منذ الحرب العالمية الثانية، أن يكون قادراً على توليد مزيد من الكوارث التي لم تعد تثير الحسرة بقدر تذكرها؟
من السهل الحديث عن انهيار الدولة وتحولها لنموذج الدولة الفاشلة بعد 2011 ما يسهل الأعمال الخارجة عن القانون من قبل الأفراد، وهو أمر يُحب نظام الجريمة تكراره والاستثمار فيه دعائياً وإعلامياً، لكن الواقع أن سورية قبل الثورة لم تكن تمثل نموذجاً مختلفاً، لأن الأطراف المتورطة في خرق القانون عموماً، لم تختلف، بل كانت السلطة ومازالت طرفاً يحمي المتنفذين والشخصيات المرتبطة بالنظام، في مختلف المجالات، ومنها التعدي على الثروات الطبيعية وحرائق الغابات لأهداف تبدأ بمشاريع التحطيب والتفحيم ولا تنتهي بالمحاولات المستمرة للسيطرة على الأراضي بالقوة وتحويلها إلى مشاريع سياحية بالدرجة الأولى كما تصبو له الآن سلطة الاحتلال الروسي.
وبأجواء التطبيع العام الجارف مع الكيان الصهيوني، متوافقاً مع الانحدار العربي الشامل، وبدفع أميركي روسي مشترك، تتويجاً لتخلي جميع الأنظمة العربية عن حقوق شعوبها وتضحياتها، وخاصة الشعب العربي الفلسطيني وتضحياته، تتلاحق الانهيارات بما يتوافق مع المنظور الأميركي لمنطقتنا العربية وما حولها بالعموم.
وفي سورية طالبت وزارة الخارجية الأميركية برحيل الميليشيات الإيرانية من سورية، دون أن تطالب روسيا بذلك، في حين يواصل البنتاغون دعمه لما يسمى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لتأمين حقول النفط والغاز المنهوب، وقال الناطق باسمها لمجلة “نيوزويك” الأميركية إن “أهداف السياسة الأميركية بالنسبة لسورية متسقة وستظل على حالها”، وإن أميركا تريد هزيمة تنظيمي “الدولة” و”القاعدة” بصورة دائمة، والتوصل إلى حل سياسي لا رجعة فيه بالنسبة للنزاع السوري، بما ينسجم مع القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، مع انسحاب سائر الميليشيات التي تدعمها إيران، بحسب المسؤول الأميركي، الذي أضاف أن هذه الأهداف الثلاثة الشاملة ترتبط ببعضها لكونها ضرورية لتحقيق السلام بصورة دائمة بالنسبة للشعب السوري، وفق تعبير الناطق، دون الإشارة لأصل الجرائم والحرائق والكوارث بحق شعبنا السوري المكلوم، النظام الأسدي.
وبهدف حماية النفط والغاز بمساعدة “قسد” قال بوضوح وأشار لضمان بقاء قسد- بوصفها شريكة- بوضع مناسب لتقوم بالدفاع عن تلك الموارد التي سيتم الاستعانة بها لدعم أهالي تلك المنطقة”، حسب زعمه مشيراً إلى أن النفط السوري هو ملك للشعب السوري، نافياً أن تكون واشنطن تمتلك أو تسيطر أو تدير الموارد النفطية في سورية.
وعلى الرغم من تضارب مصالحها مع موسكو، أكدت واشنطن أنها لم تسع لإنهاء علاقات الدفاع طويلة الأمد التي تربط بين روسيا ونظام الجريمة الأسدي حيث صدّق الكرملين على صفقات تقضي بتوسيع القاعدة الجوية على الساحل الغربي إلى جانب القواعد البحرية الأخرى، و قال مبرراً وجودها: إن “وجود القوات العسكرية الروسية في سورية سبق بداية النزاع السوري في 2011، ولهذا فإننا لا ندعو لإخراج تلك القوات”.. والمسكوت عنه أمن الكيان الصهيوني.
هذا التصريح ليس الأول لأميركا حول بقاء القوات الروسية في سورية، فقد قال المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية ’’جيمس جيفري‘‘، إن “السياسة الأميركية تتمحور حول مغادرة القوات الإيرانية للأراضي السورية كافة، جنباً إلى جنب مع كل القوات العسكرية الأجنبية الأخرى التي دخلت البلاد عقب عام 2011، وهذا يشمل قواتنا، والقوات الإسرائيلية، والقوات التركية كذلك”، وحول القوات الروسية أوضح جيفري أنها “دخلت الأراضي السورية قبل عام 2011، وبالتالي، فإنهم مستثنون من ذلك”، في إشارة إلى العلاقات العسكرية التي كانت تجمع روسيا ونظام آل أسد قبل الثورة السورية، والتي كانت تقتصر على التعاون العسكري وشراء الأسلحة والتدريب العسكري حسب المزاعم الأميركية. حرصاً على دورها المسكوت عنه نيابة عن أميركا. كما وأن تصريحاً لمسؤول أميركي، قال فيه، إنه على الرئيس بوتين أن يسأل نفسه بعد مرور خمس سنوات على التدخل المباشر لجيشه: هل يريد أن تكون سورية في 2025 كما كانت في 2020؟
زيارة الوفد الروسي الأخيرة لدمشق، جاءت انطلاقاً من هذا السؤال، لتقديم “إغراءات اقتصادية ونصائح دبلوماسية” تبدأ من التنسيق المشترك ’’روسياً وأميركياً‘‘ حول تجنب تبعات قانون قيصر ما أمكن كإغراءات لزج نظام الجريمة الأسدي- حليفهما- للمشاركة بشكل أكثر فاعلية بالحل السياسي حسب زعمهم ودفعه للتخلي عن طهران! وضمان تنفيذ الاتفاق الروسي- الأميركي الذي تضمّن إبعاد إيران عن جنوب سورية، لتمهد الطريق أمام دول عربية وأوروبية لـ “تطبيع” العلاقات والمساهمة في إعمار سورية وتنفيذ التفاهمات بين موسكو وواشنطن حول شرق الفرات وبين موسكو وأنقرة حول شمال غربي سورية، أي، أن يرضخ نظام القتل لسقف التفاهمات الاستراتيجية الكبرى بين تركيا وروسيا، والتي تخص ملفات أكبر بكثير من خطوط التماس في شمال غربي سورية، وأن “سورية الجديدة” التي تحدث عنها الاتفاق بين حليفي موسكو وواشنطن- ما يسمى “حزب الإرادة الشعبية” وما يسمى “مجلس سورية الديمقراطية”- تريد روسيا الوصول إليها عبر تنفيذ القرار 2254، وأن بوابة تنفيذ هذا القرار، هي اللجنة الدستورية، لكن الواضح أن نظام أسد لم يكن بصدد الانخراط الجدي في هذا المسار، عبر تغيير أسلوب التعاطي مع اجتماعات اللجنة الدستورية وتسريع عملها لتحقيق اختراقات قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة لرأس الجريمة الأسدي حسب المبعوث الأممي ’’غير بيدرسن‘‘ الذي ذهب إلى موسكو بعد الجولة الثالثة وأطلع لافروف ووزير الدفاع الروسي على نتائج اجتماعات اللجنة التي كان شاهداً على عملها مستشار روسي من داخل القاعة، على أسلوب عمل وفد النظام الكيماوي، وعليه، ستكون الأيام والأسابيع المقبلة اختباراً لمدى استماع النظام إلى “النصائح” الروسية، وما إذا كان سلوكه سيكون مختلفاً عما قاله دبلوماسي روسي سابق “دمشق تأخذ منا كل شيء إلا النصيحة”.
إنه إنهاء لآخر دور للدولة في منطقتنا، وتحويل السلطات إلى عصابات مسلحة وسلطات أمر واقع، وإنهاء أي شكل من أشكال العقد الاجتماعي لصالح العقد السلطوي والميليشياوي مع الخارج- أشباه سايكس_ بيكو، الجدد- بصورة واضحة، مترافقاً مع إعطاء دور متزايد لمنظمات الإغاثة و” المجتمع المدني” المشبوهة والمدعومة من الخارج والمرتبطة به.
إننا في منعطف وجودي وليس في مرحلة استثنائية فقط، مرحلة تتطلب قيادات كبيرة ومواقف أكبر لمرحلة لا تبنى على شراء الأوهام والوعود الكاذبة الدولية وبخاصة الروسية والأميركية، أو القفز فوق النكبة التي يتعرض لها الإنسان العربي وكياناتنا الوطنية، والتي تتطلب الإطاحة بكل رموز الفساد والإفساد والاستبداد- المدعومة من الغرب والشرق الكاذبين- والذين بنوا رصيدهم السياسي على تقاسم الحصص والمتاجرة بحقوق المذاهب والطوائف والأقليات، إنها مرحلة تتطلب برامج سياسية واجتماعية واقتصادية وقيادات ثورية حقيقية تضع نصب أعينها القطيعة التامة مع المرحلة السابقة بكل رموزها وشخوصها وأحزابها ونظمها وأرباب نعمتها كبنوك لأهدافها.. فهل من سبيل؟
عبد الباسط حمودة
مهندس وباحث سوري
المصدر: إشراق
التعليقات مغلقة.