موفق نيربية *
ربّما كان من الأفضل لنا ولكم أن نتخاطب عن بعدٍ قليلاً، لعلّنا نستطيع أن نكون أكثر صراحةً ووضوحاً. لقد وصلت دعوتكم إلى اللقاء التشاوري، الذي عقدتموه يوم الجمعة منذ عشرة أيام، ولم يصلكم اعتذار عن الحضور، كما تقتضي اللياقة قبل الموعد ولا بعده، فاقتضى الأمر بعضَ «البوح» كما يحلو لعقاب يحيى أن يسمّيه، في مجالات أقل مللاً وأكثر جدوى.
لقد ابتدأت طرقنا بالتباعد المكشوف، بُعيد سقوط حلب، يوم انفضحت العسكرة والأسلمة في شكليهما اللذين عرفتهما الثورة السورية المغدورة، فاستقال العديد منّا ـ نحن «غير» الإسلاميين، سياسياً، لعلّها تروق لكم أكثر من الديمقراطيين، مع أنكم تفضّلون غالباً وصف العلمانيين ـ قبل ذلك الحدث وبعده، وكنت من أواخرهم في أوائل شباط/ فبراير 2017. أذكر جيّداً كيف كان أحمد الجربا حريصاً دائماً على اصطحاب فاروق طيفور في اجتماعاته، ليترك له الكلام عند الحديث عن التشدد والتطرف والإرهاب والإسلاميين، فيعطي به مثلاً عن إمكانيات الاعتدال لدى من قيل عنه أحياناً إنه من صقور الإخوان، في تلك الفترة التي ساد في الائتلاف جوّ أبعد نسبياً عمّا هو إسلاموي، إلى هذا الحد أو ذاك. في المقابل، أذكر جيداً أيضاً، حرص النواة الصلبة للائتلاف المؤلفة خصوصاً من عواميد وتفرعات الإخوان، على تقديم ميشيل كيلو ورياض سيف وعقاب يحيى وتقديمي وغيرنا، عند الحاجة إلى ثوب الوداعة والتسامح والحداثة.. ولا يخلو الأمر أحياناً من خلطة طائفية وقومية، تنفع في صالون التجميل، حتى انفتق الحساب في تلك الفترة المذكورة.
أعتقد جازماً، أننا كنا، نحن المستقيلين والمتنحّين جانباً – أحرص على الائتلاف من «أهله» لأنه الأداة الأولى في التاريخ الحديث للمعارضة السورية، التي اعترف بها العالم يوم كان مقبلاً علينا، ولأننا ندرك، ربما أكثر من غيرنا، أهمية هذا التمثيل وضرورته القصوى لشعبنا يوم سلمه ويوم حربه.
رغم ذلك كله، وبمناسبة ما يتردد حالياً عن نوايا الإصلاح الشامل في البنية التنظيمية والسياسية، أو عن تطوير تمثيل الائتلاف وتحديث رؤيته السياسية، ينبغي الإشادة بعرض النوايا هذا، وتمني النجاح لها، إن لم يكن الأمر كلّياً فجزئياً على الأقل، مع أن الطريق تنحدر باستمرار نحو المزيد من الفشل، ولا ينفع المسارَ شيئاً تعبيدُ تلك الطريق بالنوايا الطيبة، وهي موجودة على علمنا غير نادرة، ولكن إلى جانب نقيضها. ربما يتذكر الأخوة في الائتلاف المذكرة التي تقدمت بها باسم» تيار مواطنة» الذي كنت أمثله، في أوائل يناير 2017، نحدد فيها عناصر للأزمة ومنافذ للخروج منها، وكيف تمّ تقبّلها بصدر رحب ووجهٍ بشوش، وتشكلّت لجنة وازنة لبحث خطوات الإصلاح في جذوره. حينئذٍ، اجتمعت تلك اللجنة الشاملة عدة اجتماعات، تبيّن ببساطة بعدها العجز عن الإصلاح، لأن أهم مظاهر الإصلاح كان إنهاء بعض مكونات تلك اللجنة ذاتها، وإنهاء زيف تمثيل مكوّنات أخرى فيها. كان الائتلاف بحاجة إلى التفوّق على ذاته، بأن ينفي ذاته، وذلك طلب كبير جداً ومستحيلٍ في ظروفنا البائسة.
وترنّ أصوات الخطاب الإصلاحي بقوة في هذه الأيام، وبشكلٍ يستدعي الإعجاب، لو كنّا على غير ما نحن عليه، ولو كان الائتلاف على غير ما هو عليه. فلا الائتلاف قادر على أن يعيد النظر في بنيته وتركيبه وسياساته، ولا السوريون بقادرين على إضاعة المزيد من وقتهم في مهمٍة مستحيلة، وفيلم أصبح مؤلماً ومضجراً في آنٍ واحد. وحتى لا يبقى الحديث في الفضاء، لا بدّ من توضيح بعض أسبابه المادية وأسئلته المباشرة.
عند تعاطي أهل الائتلاف، بين فينة وأخرى، مع مسألة توسيع تمثيله، يسارعون إلى التواصل مع مكوِّنات إثنية وعشائرية ودينية وطائفية، في خطأ «استشراقي» لا يُغتفر. يعتقدون أن ذلك استجابة لرغبة دولية أو إقليمية حقيقية، بدلاً من أن يذهبوا مباشرة إلى لبّ الموضوع، فيستعرضوا القوى والشخصيات السياسية والمدنية في الفضاء السوري، ويعملوا على البحث جدياً في تجاوز التعارضات باتّجاه اللب ّوالجوهر، وإبداء الاستعداد للمراجعة والحوار، على أرضٍ مناسبة وبحرّية مقبولة. في ذلك أيضاً لا بد للائتلاف أن يتواضع قليلاً، ويدرك أن ما يعتقد أنه اعتراف دولي يعطيه حقوقاً إضافية على الآخرين ليس حقيقياً، على الأقل في الوقت الراهن، بل يكاد يغدو مهزلة وراء الجدران السورية والإقليمية والدولية.. ألا يدعوهم حجم الاعتراف بقسد ومسد مثلاً إلى التفكّر، وفيهما من عوامل الانتقاص من الشرعية ما فيهما، ولكن مع سياسات جدية واستراتيجيّة «شغّالة»؟
في المسألة التنظيمية، هل يستطيع الائتلاف- وأعضاؤه الفرحون بما لديهم- الاعتراف بقصور تمثيله للسوريين، والإقرار بالخلل الكبير في ذلك من خلال رجحان وجود ودور القوى التي تفرّعت من الجماعات الإسلامية، ولا يعرف إلا الله مدى وطريقة تنسيق عملها بوحدته وصراعاته، مع غيابٍ كامل تقريباً لقوى المدنية والديمقراطية السياسية.. ولم يعد كافياً للتمويه وجود كتلة مهمة براغماتية وذات حنكة مشهودة، أصبحت قدراتها الاحترافية نافلة وضارة، بعد طول إضرابها عن التبلور سياسياً، والخروج من عقلية المقاولات في السياسة.
وفي الناحية العسكرية، هل يستطيع الائتلاف، الإقرار ببعده عن التحكم بأي مسار عسكري أو للعسكر له طبيعته السياسية والاستراتيجية، وأن ذلك كان كذلك منذ البداية وأصبح الآن واضحاً فاضحاً؟ وهل يستطيع رفع الغطاء عن كل ذلك الحمل الذي ينوء تحته وتحت آثامه وجرائره وارتباطاته، وتوزعه ما بين إمارات حرب وإمارات عقيدة وخلافة، أو على الأقل إلى حقل ارتزاق لمن احترف ولم يعد قادراً على تغيير نمط حياته؟ وبعد التقدير الواجب من قبلنا للخطوات الأخيرة التي لا بدّ أن يكون لها بعض الأثر الإيجابي، الذي يُخشى أن يضيع في الضجيج المفتعل والبلاغة المفتعلة.. لكن ذلك سيكون حتماً تحت الحدّ الأدنى المطلوب، الذي لا يستطيع بلوغه إلا عقل ثوري يتخفّف من باطنيته الثقيلة الوطء، ويثبت ذلك بما يكفي.
من الناحية السياسية، وبعد وقوع الائتلاف تحت ثقل مسار أستانة الثلاثي- وثلثاه علينا لا لنا- مكرهاً أو بطلاً لا فرق، هل يستطيع الانتقال إلى استراتيجية شفافة وفعّالة، وذات أهداف في ما يخص هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، والخروج من العباءات، ومواقف القطارات والمطارات عبثاً؟ ولماذا تهرّب طويلاً، ولم يعد لانتقاد نفسه حتى الآن، من رفع الغطاء عن التطرّف والإرهاب بين ظهرانينا؟
ولنقفز قليلاً عن الكلام الذي سيقول عنه أهل الاحتراف الصافي، إنه مجرّد بلاغة لا تتلمّس الواقع، ولا بأس ببعض السذاجة والتجريب في السؤال:
هل يستطيع الائتلاف أن يخرج على أهله والعالم، بمواقف يتبرأ فيها ويستنكر تجنيد آلاف السوريين كمرتزقة في ليبيا، وربما في غيرها فيما بعد؟ وهل يستطيع استنكار فعل الفاعل ذاك بلغة سياسية واضحة، كتلك التي تحدث بها يوماً قريباً رئيس الائتلاف الحالي، مع السعودية بعد انعقاد مؤتمر المستقلين في الرياض؟ فمسألة ارتزاق السوريين المترافقة مع إطلاق تسمية الثوار عليهم طامّة كبرى، وهم يخوضون معارك غيرهم على أرض غيرهم.. مع كلّ المحبة لليبيين وليبيا!
ومثالٌ آخر بسيط: لماذا عجز الائتلاف عن التقرّب إلى شعبه بأن يطالب بالصوت العالي بحرية وكرامة رمز وطني تعتقله السلطات التركية كالعميد أحمد رحال؟
وهمسة قبل الختام: من يرغب حقاً برمي حجرٍ، يختاره صغيراً كطلباتنا أعلاه لتحسين أجواء الثقة، وليس كبيراً بحجم «تجديد الخطاب الوطني» كما يفعل حالياً، لأن الائتلاف سينوء تحت ثقل كلماته الكبيرة، أو يرفعه سريعاً إلى الرفوف المغبرة. ولن نقول أكثر، بل نقول مع ذلك الأعرابي: «يداك أوكتا وفُوكَ نفخ».. ونتأنى قليلاً مع صاحبه الآخر، من أجل الصحبة والمصلحة الوطنية: «لأمرٍ ما جدع قصير أنفه» وجاء بحديث الإصلاح.. فالمطلوب شيء آخر معروف جيداً: الوطنية في الفكر، والإخلاص والشفافية في السياسة، والتواضع في العمل وتقدير الذات… وننتظر شيئاً مختلفاً وجذرياً، من دون أن نتخلى عن بحثنا في أماكن حقيقية أخرى!
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.