إمام عبد الفتاح إمام *
مريـرة وممتعـة في آن واحـد، بدأت منـذ فتـرة مبكـرة؛ كيف وصلتُ إلى هيغـل؟
تخرجت من قسم الفلسفة عام 1957- أنهيت التمهيدي عام 1958 وسجلت عام 1959 بدأت من عبارة لـ’’برتراند رسل‘‘ يقول فيها أنه رغم الشروح الكثيرة ابتداءً من أرسطو حتى كانط وهيغـل على مصطلح “المقولة” فإنني لم أفهم معناها علي وجه الدقة.
وما يقال على مصطلح المقولة يقال عن مصطلح ”الجـدل” البالغ الأهمية فمنذ ظهر مع بدايات الفلسفة الأولى- فهو مصطلح استخدم فيها قبل سقراط وما بعده- وفي الفلسفة اليونانية ثم العصر الوسيط ثم العصر الحديث، وبفضل الوجودية. والماركسية في الفلسفة المعاصرة كانت له أهم خاصة فأصبح هناك جدل الطبيعة وجدل المجتمع، وجدل للذات، وجدل للعلم، وجدل للعواطف، وجدل للأفكار …
ومع ذلك فإذا تساءلنا ما الجدل؟ كانت الإجابة مستحيلة بدون دراسة للتاريخ الطويل الذي مرت به كلمة الجدل من أفلاطون حتى يومنا الراهن فيما يقول سيدني هوك. فأعددت خطة لدراسة هذا الموضوع في بحث لدرجة الماجستير كان عنوانه “منطق الجدل” سرت معه من بدايته الأولى عند اليونان حتى وقتنا الراهن. ووافق عليها مجلس القسم ورفضها مجلس الكلية، وطلب مني اختصارها. ولما كان هيغـل بما له من عمق واتساع وشمول ونفاذ يصلح نقطة التقاء يصب عندها تيار الجدل القديم وينبع منها تيار الجدل المعاصر. فقد جعلت من الجدل الهيغلي موضوع بحثي للماجستير الذي كان عنوانه: “المنهج الجدلي عند هيغل …”
وهكذا بدأتُ أدرس هيغل، بدأت أجمع مؤلفاته من ثلاثة مصادر المكتبات: مكتبة جامعة القاهرة وعين شمس، الزملاء من الخارج. وشراء ما أجده- وأدرس اللغة الألمانية.. كان أول كتاب عثرت عليه ” ظاهريات الروح”- من الإنجليز أمريكان، وشرعت أقرأ في نصوص هيغل لمدة عامين دون أن أفهم شيئا- فلجأت إلى التفسيرات والشروح لكني لم أتقدم خطوة واحدة . ولم تكن صعوبة الفهم راجعة إلى وعورة المصطلحات وهي وعرة فعلاً ولا صعوبة الفلسفة الهيغلية وهي صعبة فعلاً، ولا إلى اللغات وكنت أقر بها فحسب. وإنما كانت تعود إلى عامل لم أتبينه بوضوح إلا بعد فترة طويلة وهو أنني أقدمت على قراءة هذا الفيلسوف بعقلية أرسطية . بمعني أنني كنت أفهم جميع المصطلحات الفلسفية التي استخدمها هيغل علي نحو ما فهمها المعلم الأول- ومعاجمنا الفلسفية مدينة للفلسفة اليونانية ولأرسطو خصوصاً بالشيء الكثير .
ولم أكن أدرك وقتها أن هيغل كأي فيلسوف عظيم نحت لنفسه مصطلحات جديدة من ناحية ومؤرخ في معاني المصطلحات القديمة لتناسب أغراض الفلسفة من ناحية أخري ولنتوقف عند بعض الأمثلة :
1- المنطق LOGIC لقد تعلمنا أن المنطق علم يبحث في قوانين الفكر التي ترمي إلى تمييز الصواب من الخطأ وأنه معيار العلم وفن التفكير، لكن ما الذي يعنيه القول بأن المنطق دراسة للعقل الموضوعي وأنه يتحد مع الميتافيزيقا التي هي علم الأشياء مدركة بالفكر . وعلى هيئة أفكار قادرة على التعبير عن الحقيقة الجوهرية للأشياء…؟
2- ثم أقسام المنطق مثل القضايا والأحكام: نحن نعرف أن الحكم قرار ذهني أو هو علاقة بين حدين ومن أخص خصائص الحكم المنطقي احتماله للصدق والكذب، فكيف تعبر الأحكام عن الواقع، وكيف يمكن أن تختلف أحكام مثل هذه “الوردة حمراء” و ”هذه الصورة جميلة “؟
3- وقل مثل ذلك عن القياس الذي هو “أساس كل شيء” كما يقول هيغل لأن العقل هو أساس كل شيء والقياس هو صورته المناسبة إذ يمكن أن تقول أن كل شيء عبارة عن قياس.. إقرأ لهيغل: القياس، كغيره من المقولات، تعريف للمنطق . أذن يُعرف المطلق بأنه قياس، فالله ليس هو الكلي المجرد.. التاريخ، وإنما هو الكلي الذي يخرج من ذاته إلى الجزئي في صورة الطبيعة ثم يعود لنفسه من جديد في صورة الفردية العينية التي هي الروح.
4- كذلك مصطلح “المقولة”: ما يحمل على غيره من الأشياء، وأحد الأجناس العشرين التي تكون مقولات الوجود، وهي الجوهر وأعراضه الفلسفية” لكن كيف يستقيم مثل هذا التعريف مع قول هيغل.. المقولة تعريف للمطلق ؟ وأيضا الهيكل العظمي للعالم قلب الأشياء ومركزها لكنها من ناحية أخرى تمثل درجات مختلفة من المعرفة أي إنها أبستمولوجية ؟
5- مصطلح التجريد والعينية، التجريد عملية ذهنية يسير فيها الذهن من الجزئيات والأفراد إلى الكليات والأصناف . كما يقول المعجم الفلسفي . والتجريد يقال في مقابل الحقائق المحسوسة، والمجرد يقابل العيني أو المحسوس concert والعيني هو المشخص في مقابل المجرد أو الخارجي في مقابل الذهني، ما بالأذهان في مقابل ما بالأعيان..”. ومصطلحات التجريد والمجرد والعيني في غاية البساطة وشائعة جداً في كتب الفلسفة. لكنها تبعد أشد البعد عما يفهمه هيغل منها، ولو أنك قرأت النصوص الهيغلية وفي ذهنك هذه المعاني فإنك لن تفهم شيئاً وسوف تقف حائراً عند مقال لهيغل عنوانه من هو المفكر التجريدي ينتهي فيه إلى أن رجل الشارع هو هذا المفكر التجريدي لأنه في تفكيره يقوم بأشد ألوان التجريد.
غير أن الأمر في صعوبة ووعورة الفلسفة الهيغلية لا يقتصر علي استخدام المصطلحات القديمة بمعان جديدة بل يتعداه إلى نحت مصطلحات جديدة يستخدمها هو بطريقته الخاصة أو ربما استمدها من الأدب أو من ثقافة عصره مثل مصطلح begriff الذي يترجم في الإنجليزية والفرنسية أحيانا بكلمة concept وأحيانا بكلمة notion وقد ترجمته العربية بكلمة الفكرة الشاملة التي هي عينية باستمرار.
ومن هذه المصطلحات أيضا aufheben الذي يترجم في العربية في اللغات الأجنبية بكلمات كثيرة cancel , sublet وقد ترجمته إلى العربية بكلمة “الرفع “. وغير ذلك من المصطلحات قد ذكرت بعضا منها أيضاً في مقدمة ترجمتي ” لمعجم مصطلحات هيغل” . لكن: كيف أدركت هذه الحقائق التي ذكرتها ؟ أن المعاني الأرسطية للمصطلحات القديمة لا تصلح ؟ وكيف وضعت قدمي علي طريق الفلسفة الهيغلية ؟ عندما عثرت على كتاب ’’مايرز‘‘: H.A.Myaers : Spinoza- Hegel.Paradox ؛ هو الذي أنقذني من الأخطاء التي كنت أسير فيها عندما قال أن هيغل يتفق مع اسبينوزا في أربع عشرة قضية منها:
1- التجريد هو الخطر الرئيسي على التفكير
2- الأفكار المجردة هي التي عزلت من سياقها المناسب
3- العينية في التفكير جوهرية للحقيقة
4- الفرق بين الظاهر والحقيقة هو الفرق بين الشيء المغزول، ونفس هذا الشيء حين يفهم خلال سياقه المناسب ….الخ
5- إلى جانب قضية هي كل تعين سلب …. Determinatio est negatio
وهي فكرة بالغة الأهمية يعترف هيغل صراحة أن اسبينوزا كان أول من صاغها، فتعيُن الشيء يعني وضع جد له، وفصله عن الأشياء الأخرى فإذا قلنا إنه “أحمر“ كان معني ذلك أننا نسلب عنه الألوان الأخرى وإذا تعين الشيء بالتثليث انتفي عنه التربيع. وقولنا عنه أنه خير معناه فصله عن أرادة الشر وهكذا فالإثبات يتضمن النفي .
6- تعلمت من هيغل أن طريق الفلسفة مرصوف بالأفكار، فهي لا تتعامل قط مع الأشياء الحسية علي نحو مباشر. وهذا هو السبب في غموض الفلسفة وصعوبتها، لأنها تحتاج إلى الارتفاع من المحسوس إلى اللا محسوس مما يتطلب مجهودا كبيرا من الإنسان حيث يولد الطفل ملتصقا بالأشياء المادية ويحتاج إلى فترة طويلة ليكون قادرا علي التجريد وبعض الناس لا يقدرون عليها أبدا…. ).. مع أن الحضارة تجريد!
” أن الناس يشكون من غموض الفلسفة دون أن يحاولوا بذل الجهد في فهم مصطلحاتها الخاصة متعللين بحجة واهية، هي أنهم يملكون عقولا قادرة علي فهمها، مع أنهم يسلمون بأنك تتعلم صناعة الأحذية، فلابد لك أن تتدرب علي هذه المهنة علي الرغم تملك في يديك القدرات الخاصة، وفي قدميك المقاس الخاص..”.. وما يقال على الفرد يقال علي الأمة.. – قارن “موسوعة علوم الفلسفة” ص 54-55 مكتبة مدبولي 1996
7- تعلمت منه أن الفلسفة فكرتان أو فكر لاحق. وهو يقصد أن هناك فكرا أول هو الذي ينشأ في حياة الناس اليومية في جميع المجالات. والفلسفة تجعل هذا الفكر الأول موضوعا للدراسة، فتكون فكرا في فكر أو فكرا ثانيا. وكذلك فلسفة العلم مثلا الفيلسوف لا يزاحم العالم في معمله، لكنه دراسة في دراسة، العالم ماذا يفعل ؟
ومن هنا، فان الفلسفة تأتي متأخرة بعد أن تكون الحياة قد دبت بين الناس بالفعل، وقامت ألوان مختلفة من النظم تتوجها الفلسفة في النهاية. وهذا معني عبارة هيغل الشهيرة في فلسفة الحق: ” أن بومة منيرفا.. minerva لا تبدأ في الطيران إلا بعد أنه يرخي الليل سدوله…” – ” أصول فلسفة الحق ص 120 مكتبة مدبولي عام 1996 ”
8- تعلمت أن كل فلسفة هي بالضرورة فلسفة مثالية idealism لأن المبدأ الذي تركز عليه هو في نهاية تحليله ” فكرة ” بل حتي فلاسفة أيونيا عندما تحدثوا عن الماء، والهواء، أو النار والتراب.. فإنهم كانوا يقصدون فكرة المادة وفكرة الهواء وفكرة النار ………الخ. يقول: ” أننا مع المادة نصل في الحال إلى تجريد لا يمكن، من حيث هو كذلك – إدراكه إدراكا حسيا، بل يمكن أن يقال أنه ليس هناك مادة، مادامت حين توجد لابد أن تكون شيئا عينيا محددا باستمرار ” موسوعة العلوم الفلسفية ” ص 144″
9- تعلمت منه أن التفكير سلب لأنه يغير شكل الأشياء الفردية التي نلتقي في حياتنا اليومية التقاء مباشرا كهذه الشجرة وتلك المنضدة، وهذا المعقد.. الخ طالما أنه يحيلها إلى فكرة أعني إلى كلي universal وهكذا نجد أنه لابد من سلب الصور التي تظهر عليها الأشياء أمام الوعي لأول مرة فهي تبدو جزئية، وفردية وعابرة، ومتغيرة، ولكنا لكي نعرفها لابد أن نحيلها إلى أفكار والفكرة بطبيعتها : كلية، ودائمة، وجوهرية. وهذا التحول في شكل الظواهر عملية أسياسية للمعرفة يقوم بها الفكر ” الطريقة الوحيدة لبلوغ الجوهر الدائم هم تحويل شكل الظاهرة الموجودة أمامنا عن طريق الفكر ” ( موسوعة العلوم الفلسفية ص 97)
10- تعلمت منه أن الفلسفة كل متصل، أن كل مذهب منها يكشف عن جانب من جوانب الحقيقة. سألني طالب شاب ” الفلسفة تحيرني:
– ما يقوله أفلاطون صحيح، لكن أيضا ما يقوله أرسطو
– إذا قرأت الماركسية اقتنعت بها، وأصبح الاقتصاد هو الذي يقوم. عندما أقرأ الوجودية التي هي صرخة لإنقاذ الفرد أشعر أنها علي حق في كل ما قالته..
– في حين أنني لا أرتاب في صحة البرجماتية التي تحيل الأفكار إلى عمل نافع وسلوك مفيد.
– المذاهب المادية مهمة وأساسية، وكذلك المذاهب المثالية التي تهتم بالروح …الخ
أين الخلل.. في رأسي أم في هذه المذاهب الفلسفية
” المذاهب الفلسفية المختلفة التي يعرضها علينا تاريخ الفلسفة لا يصعب اتفاقها في هوية واحدة. ولكن إذا شئنا أن نقول إنها فلسفة واحدة في مراحل في النضج أو أن أن نقول أن المبدأ الذي يقوم عليه كل مذهب ليس إلا فرعا من كل واحد هو الفكر …” “موسوعة العلوم الفلسفية ص 71).
11- تعلمت منه أن تاريخ الفلسفة لا يرضى تضاربا بين المذاهب الفلسفية المختلفة: أولا هو ميدان قتال يموج بأشلاء القتلى والضحايا: كل مذهب يقتل أخاه ويقوم بدفنه ويتخذ شعاره قول السيد المسيح ” ( اتبعني الموتى يدفنون موتاهم.( متي 8:21) وحين تظهر فلسفة جديدة يواجهونها بكلمات بطرس الرسول لزوجة حنانيا: ” وهو ذا أرجل الذين دفنوا أرجلك علي الباب وسيحملونك خارجا “ (أعمال الرسل:5:9)
أن نقد فلسفة ما أو تقييد مذهب لا يعني سوى أن المبدأ الذي يرتكز عليه قد أصبح عاملا مساعدا، أو عنصرا قائماً في الفلسفة التي تليها. وهكذا تسير المذاهب الفلسفية يعقب بعضها في تطور جدلي تندثر قشرتها الخارجية، ويبقي مبدؤها ليصبح عنصرا مكونا في مذهب أعلي “” علم المنطق المجلد الثاني ص 214 ( الترجمة ).
12- تعلمت منه أن الفلسفة الحقة لا ترفض الحس ولكنها لا تكتفي به أو تقف عنده لأنها لابد أن تكون في النهاية عقلية.
يقول هيغل: ” هناك عبارة قديمة تنسب خطأ إلى أرسطو تقول ” لا شيء في العقل لم يكن موجودا من قبل في الحس.. ولا ترفض الفلسفة النظرية الأخذ بهذا المبدأ إلا عن سوء فهم فحسب، وذلك لان هذه العبارة في جانبها الآخر ليست أقل تأكيدا للقول بأنه: ” ولا شيء في الحواس دون أن يمر بالعقل..” موسوعة 63
13- تعلمت منه أن الإنسان وعي ذاتي، وأن الحيوان وعي ذو بعد واحد فقط، لا يستطيع أن ينعكس علي نفسه، ومن ثم لا يستطيع أن يفكر: يقول هيغل: “على حين أننا نجد الحيوان لا يستطيع أن يقول أنا “، ونجد أن الإنسان هو وحده الذي يستطيع أن يقول ذلك، وما ذاك إلا أن من طبيعته أنه يفكر ….” موسوعة ص 103
14- تعملت منه الشيء الكثير عن خصائص شخصية الإنسان الشرقي من جميع جوانبها : الاجتماعية، والدينية والسياسية والفنية …”
أ – مجتمع ذكوري ” يسيطر الرجل سيطرة كاملة وتتواري المرأة حتى لتصبح متاعا لا قيمة له ؟ خيط من الحضارة الصينية لكنه مازال قائما في مجتمعنا حتى اليوم !
ب – الانغماس في الحس حتى الأذنين دون محاولة الارتفاع إلى الفكر المجرد..
جـ- الفضائل الأخلاقية – وكذلك التدين – تصدر عن إلزام خارجي هو الخوف بأنواعه من الأب أو الأسرة أو المجتمع أو الديني أو القانوني.. الخ ).
د- الرجل الشرقي يحني رأسه في مذلة ومهانة أمام السيد، أمام المنتصر، لكنه متوحش قاس إزاء المغلوب والضعيف، ومن هو أدني منه..
هـ- المجتمع الشرقي لم يعرف من الحرية إلا حرية الحاكم، فهو وحدة الفعال لما يريد، والكل عبيد يأتمرون بأمره ثم يعود ليصف حرية هذا الحاكم بأنها زائفة لأن الحرية الحقة هي الخضوع للكلي ” أي الجانب العقلي ” أما الحاكم الذي تسيره أهواؤه ونزواته، أي الجانب الجزئي، فهو عبد بدوره !
* كاتب وأكاديمي ومترجم مصري
المصدر: مجلة حكمة
التعليقات مغلقة.