عبدالوهاب بدرخان *
طوال الأزمة السورية، وبالأخص منذ 2015 الى اليوم أكّد ديبلوماسيون غربيون مطّلعون تكراراً أن موسكو لا تتخلّى عن بشار الأسد إلا لقاء صفقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الملفات غير السورية، وأهمها رفع أي عقوبات مفروضة على روسيا على خلفية أزمة أوكرانيا وغيرها. لكن جلّ ما نالته من واشنطن الاعتراف بدورها في سوريا، أي أنها تعطيها من رصيدها، كما أن هذا الاعتراف انطوى على منحى توريطي ظهرت مؤشراته في مستويين: الأول، كلفة الوجود الروسي الذي أقرض النظام السوري نحو ثمانية مليارات دولار أسلحةً ومساعدات، عدا تكاليف قاعدة حميميم والعمليات العسكرية. والآخر، تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية وبروز خطر الانهيار المالي للنظام نفسه.
بعد صدور “قانون قيصر” والتلويح بعقوبات على شركات روسية وغير روسية (بينها مؤسسات عربية) تتعامل مع نظام الأسد، احتجّت موسكو بأن الإجراءات المرتقبة تناقض الاعتراف بدورها بل تتعمّد تقييده. ثم أن التشدّد في منع الإدارة الكردية (شمال شرقي سوريا) من بيع النفط أو تهريبه الى دمشق لا يتوافق مع تفاهم روسي – أميركي سابق على “تخفيف” الحصار على مناطق سيطرة النظام. وأشارت تحرّشات روسية بدوريات أميركية أخيراً الى أن موسكو تبحث عن تفاهم جديد تبدي فيه واشنطن بعض المرونة حيال اقتراحات عرضتها عليها.
ثلاثة أحداث عكست تغييراً ما في التعامل الأميركي الراهن مع الأزمة السورية: 1) ترحيب واشنطن بـ “إيجابية” الاجتماع الأخير للجنة الدستورية في جنيف. 2) عدم ممانعة أميركية لتوقيع مذكرة تفاهم في موسكو بين إلهام أحمد الرئيسة التنفيذية للإدارة الذاتية (تحت الهيمنة الكردية في شمال شرقي سوريا) وقدري جميل رئيس “حزب الإرادة الشعبية” رئيس “منصة موسكو” للمعارضة القريبة من النظام. و3) المسارعة بإرسال وفد روسي رفيع المستوى الى دمشق محمّلاً أولوية توسيع “التعاون” الاقتصادي بين روسيا ونظام الأسد… لكن “الإيجابية” في جنيف خلت من أي مضمون جوهري أو تقدّم في الحل السياسي. أما “مذكرة التفاهم” فتوحي باختراق روسي مع الاكراد، سواء بإبداء “قوات سوريا الديموقراطية” استعداداً للاندماج بالجيش السوري، أو بمباشرة الحديث عن فيديرالية أو لامركزية موسّعة في سوريا. وأما “التعاون” الاقتصادي فيشبه استحواذاً وتملّكاً روسيين لمناطق وقطاعات في سوريا… لقاء عملية “انقاذ” جديدة للأسد ونظامه.
لم يصدر تأكيد أو نفي أميركي لوجود “تفاهم” مستجد مع موسكو، لكن الصفة العاجلة للتحرك الروسي طرحت فرضيتين: إمّا أن الروس توصّلوا إلى اقناع الاميركيين بإرجاء العقوبات لتمكينهم من العمل، أو أنهم حصلوا على استثناء من العقوبات لأي مشاريع يقيمونها بمعزل عن النظام. في الحالين، تبلور في موسكو قرار بالاستثمار في سوريا. ويقول مصدر واسع الاطلاع أن الاتفاقات، التي تحدّث نائب رئيس الحكومة الروسية يوري بوريسوف عن امكان توقيعها في كانون الأول (ديسمبر) المقبل، تنص على نقل مساحات شاسعة على الساحل السوري الى مؤسسة روسية لتتولّى استثمارها والتصرّف بها، وقد تشمل تطويراً لميناء اللاذقية الذي كانت إيران انتزعت من الأسد موافقةً على ادارته لكن موسكو منعت ذلك. وأوضح مصدر آخر أن “الاستثناء الأميركي” سيسري أيضاً على شركات من جنسيات أخرى، شرط أن تعود مداخيل المشاريع الى المؤسسة الروسية وليس الى النظام.
لا تضمن المبادرة الروسية النفاذ من العقوبات الأميركية فحسب، بل أيضاً منح الشركات الراغبة (تردّد أنها عربية وتركية وأوروبية)، عقوداً لاستخراج واستثمار النفط والغاز في المياه الإقليمية لسوريا. من جانب آخر، يُفترض أن يسمح التفاهم مع الاكراد بحلحلة أزمتي الوقود والكهرباء في مناطق النظام، ولذلك تبدي موسكو استعداداً للإنفاق على تصليح أربعين منشأة نفطية ومحطتي كهرباء رئيسيتين من جهة، ولتوفير ضمانات ائتمانية للنظام لمساعدته في أزمته المالية والاقتصادية من جهة أخرى. إذاً، ثمّة معادلة في صدد التكريس، قوامها أن روسيا تعتبر أن الحرب انتهت وعلى الأسد أن يكتفي بخريطة سيطرته الحالية في انتظار التسوية النهائية، وفي المقابل على الأسد أن يملّك أصولاً لروسيا ليضمن بقاءه ونظامه وعدم الضغط عليه لتقديم تنازلات في الحل السياسي.
لذلك استوجب الأمر حضور سيرغي لافروف بعدما صار شائعاً أنه والخارجية لا يطيقان نظام دمشق بل يحتقرانه. لكن لافروف يمثّل سياسة الكرملين التي تقلّبت حاجتها الى الأسد وحاجته اليها على مرّ الأعوام، ولافروف هو أيضاً أحد صانعَي القرار 2254 (مع جون كيري) وقد راعى شخصياً أهداف الكرملين في صوغ البنود الأكثر حساسية وتعقيداً، تحديداً ما يتعلّق منها بـ “الانتقال السياسي” الذي داوم فلاديمير بوتين على إحباطه واستبعاده، وها هي التطوّرات تثبت له “صواب” رفضه أي تغيير في موقع رئيس النظام، إذ يمكن انتزاع أي شيء من الأسد طالما أنه تحت رحمة الحماية الروسية، وليس مهمّاً أن يكون منتخباً زيفاً أو متهالكاً شرعيةً، لأن أي حكومة انتقالية أو منتخبة وذات شرعية حقيقية لا يمكن أن تمنح روسيا الامتيازات التي يوفّرها لها الأسد.
حين تحدّث لافروف عن أولويات “جديدة” في سوريا كان يعني أن الحرب انتهت رغم استمرار المواجهة مع الإرهاب، وأن الوقت حان لإعادة الإعمار. هذا خبر سيء بالنسبة الى الأسد، إذ يشي بأن موسكو قررت تفعيل الحل السياسي، وهو ما داوم على محاربته.
لكن لافروف الحاضر لتزكية الاتفاقات الاقتصادية جاءه بالخبر الجيّد: الحل السياسي هو ما تصنعه موسكو ولا تعوّل فيه على عمل بلا “أجَل زمني” للجنة الدستورية. فهم الأسد بالتالي أن لا قيود على ترشحّه لولاية رابعة في انتخابات منتصف 2021، كما أن لافروف أحاطه علماً بأن موسكو تحاول نسج صيغة تحمل في ظاهرها شيئاً من “تغيير سياسي” وتريده أن يلعب اللعبة معها بـ “تنازلات” ظاهرية أيضاً، كأن يشكّل حكومة فيها “معارضون” وأن يفرج عن أعداد من المعتقلين، أو أن يصدر عفواً عن “معارضين” لتشجيعهم على العودة وحتى على الترشّح للرئاسة… هذا هو نوع الحل الذي رسمته موسكو منذ رحلة لافروف الأولى الى دمشق، وما انفكّت تلوكه وتعيد انتاجه، مع علمها أن الاميركيين والأوروبيين لن يعترفوا به.
* كاتب صحفي ومحلل سياسي لبناني
المصدر: النهار العربي
التعليقات مغلقة.