جمال الشوفي *
ليست الحادثة الأولى التي تتعرّض فيها أنثى سورية، زوجة أو أخت أو ابنة أو حتى أم، لحالة عنف متكرر، سواء كانت ضرباً أو قتلاً، أو إهانة جسدية أو نفسية، وليست المرة الأولى التي تقرّر فيها سيدة سورية، وأم لأطفال ثلاثة، ونازحة تعاني شظف الهجرة وصعاب خيمة النزوح، متعلمة ومدرسة وذات كيان مستقل في ذاتها، ومع هذا هي أسيرة لعنف وقهر مزدوج، أن تقرّر الانتحار بتناول السم بعد تعرّضها المتكرر للعنف من قبل زوجها وابن عمها بالأساس.
فقد أفادت تقارير وشهادات متعددة، نقلاً عن مواقع إخبارية وصفحات تواصل اجتماعية، أنّ السيدة ميساء درباس، ذات ال33 عاماً، والتي تعمل مدرسة وتقيم في مخيم أطمة شمالي إدلب، والمهجرة من ريف إدلب الجنوبي، قد أقدمت على الانتحار بعد تعرّضها للضرب المتكرر وحرمانها من أبنائها من قبل زوجها. هذا بينما طالبت ذات التقارير والناشطين بتوجيه تهمة الشروع بالقتل لزوجها ومحاكمته على أنّه السبب الرئيس في الجريمة، وتابعت ذات التقارير بمطالبة المرأة السورية بعدم الصمت عن حقها ورفضها للعنف الذي يمارسه المجتمع الذكوري بحقها.
ربما يكون تطبيق القانون بحق الزوج سيشكل رادعاً للحيلولة دون تكرار جريمة عنف الرجل ضد المرأة، لكنه، أي تطبيق القانون ليس سوى حلقة وحيدة من حلقات التعامل مع هذه القضايا ذات الازدواج القهري المركب.
فالقهر الناتج عن فعل الضرب والإهانة الجسدية والنفسية هنا بوصفه، حسب ممدوح عدوان، حالة نفسيّة ذات تكريس مجتمعي في القاع الذهني للمجتمع، يتساوى فيها المعتدي والمعتدى عليه، فحيث يتحوّل المعتدى عليه إلى أنقاض إنسان مذعور، أنقاض تتألم وبوعي، تحسّ نفسها وهي تتقوّض إلى أسفل، وبإرادتها الخائفة تمنع نفسها من أن ترد، ويتحوّل فيها المعتدي إلى أنقاض إنسان من نوعٍ آخر وكأنّه إنسان يتهدّم إلى الأعلى، وهذا الانهدام للأعلى يمثّل تلك الذات المشوّهة ذكورياً بعقلية التملّك ونزعة التفوق العليا التي تتيح لنفسها الاستقواء على من هو أضعف منها جسدياً، كما في الحالات المجتمعية عامة، وخاصة في حالة الاختلاف الجنسي، حيث رجل المجتمع الذكوري ذو عضلات القوة والمرأة لها الصبر والتفاني دون أن ترد.
وهذا ما لم تعالجه مجتمعاتنا الغارقة في ذهنيّة التأخر والفوات التاريخي عقلياً، والمتّسمة بأبعاد سياسية وفكرية غير معيارية وغير علمية، لا بل غارقة في النزعات الذاتوية السلطوية في الأداء والانفعال، تعتمد قياسات النزعة الذكورية في التسلّط والهيمنة ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها وإرضاء نزوات ذاتها المشوّهة بحكم عدم قدرتها على علاج واقعها بطريقة عقلية ومعيارية بقدر إثبات تفوّقها الواهم وإن كان ضرباً. وفي سياق الجريمة تفتقر هذه الذهنية للرادع القانوني، وتنفلت كلية من أيّة معايير تتعلق بحق الوجود أولاً، وبالتالي الحياة، وحق الاختلاف ثانياً، وبالتالي الحرية والاحترام، وحقّ المجتمع ثالثاً وبالتالي مدنيّته وعلاقة أفراده ببعض دستورياً وقانونياً.
القهر في قضايا العنف هذه ليست ذات وجه وحيد، بل يتعدّاه لمستويين متداخلين ومتراكبين معاً:
– إنكار الذات:
فوجهة القهر هنا، والتي نتيجتها البادية أولاً في تتالي الصبر والمكابرة، وإيثار الصمت عن الإبلاغ القانوني أو الاحتماء بالأسرة، ومرجعية هذا عدم القدرة عن الخروج عن الأعراف المجتمعية التي تكبل المرأة من كل الجهات، دينياً ومجتمعياً ونفسياً، أمام مركزية أفكار وموروث غارق في مركزية السلطة المركب، أو ما أسماها هشام شرابي، البنية البطريكية (الأبوية) للمجتمع العربي، والتي تقوم على ألوهية الرجل وقداسته كمصدر لكل السلطات، سواء كان أباً أو زوجاً أو بدرجة معينة ابناً، وإنكار ذوات الخاضعين له سلطة، والتي تتيح له التحكّم والسيطرة وامتلاك حياتهم ومصائرها لدرجة القيام بالقتل تحت عنوان جريمة شرف مثلاً، أو شبهة شرف لمجرد سمعة قد تمسّ مفهوم الشرف أحياناً. فطالما عايشنا مثل هذه الجرائم في تاريخنا القريب والتي تكون نتيجتها بالقانون تبرئة القاتل جنائياً، وبالعرف المجتمعي تبرئته شرفاً فقد غسل عاره.
– انتقاص الذات سياسياً وحقوقياً:
فالمستوى الثاني القهري هنا هو عملية النزوح والتهجير التي تعرّضت لها الأسرة بأكملها، فلا يكفي هذه المدرسة أنّها تقع وطأة عبء مجتمع ذكوري في قيمه وطرقه القهرية، بل تكرّس القهر لديها بشكل مضاعف كنتيجة لانتقاص ذواتهم حقوقياً وسياسياً، فكما نردّد في مقولاتنا الشعبية “فوق الموت عصّة قبر”، وموضوع التهجير هذا بذاته يضاعف مستويات القهر المجتمعي لدى عموم السوريين ويزيد من سخونة وحرارة أنفسهم لدرجة تسجيل حالات انتحار متعددة من الشباب السوري، سواء في بلاد الهجرة أو في المخيمات، كنتيجة طبيعية لعدم قدرة الشباب المتمرد على تحمل وطأة حالات الغربة النفسية بمستوياتها، أضف لعدم القدرة على التأقلم، فكيف وإن كانت امرأة مهجرة، شهد لها معارفها بأنّها ذات شخصية محترمة ومحبة من قبل من حولها، فإن كانت تتساوى مع محيطها في مستوى القهر السياسي العام الناتج عن التهجير، فكيف ستداري قهرها بتكرر عمليات الضرب وظهوره على وجهها مرات ومرات.
العنف الأسروي والمتمثّل بممارسات عنف الرجل تجاه زوجته أو أطفاله، قد لا يكون شرقي المنبت وحسب، فثمة تقارير وإحصائيات عدة تشير إلى أنّه موجود حتى في المجتمعات المتقدمة، لكن بفارق ليس وجود القوانين الرادعة والمحاكمة فقط، بل بطبيعة تلك المجتمعات التي جعلت في سياق تطورها موضوع الفرد مرتكزها الدستوري والتعاقدي بالأساس، وذلك بغض النظر عن جنسه، موضوع العدالة في ذاتها، حوّل المرأة في تلك المجتمعات لفرد قادر على الشكوى وطلب مساعدة القانون والالتجاء إليه، دون أدنى شعور بالعيب المجتمعي في شرقنا المبيت على الجريمة، وليس فقط، بل هو حق من حقوقها الفردية كما حق المجتمع في إقامة العدالة على النموذج المختلف والمخلّ فيها.
قضية ميساء درباس ومثلها آلاف قضايا التحرّش الجنسي وجرائم الشرف، اغتصاب المعتقلات في السجون، وإن كانت قضايا قانونية بالنتيجة، لكنها بالجذر تغوص في مستنقع مجتمع لم ينجز بعد مفهوم الفرد المواطن المتساوي قيمة، بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه، فكيف له أن يعترف به كذات إنسانيّة مستقلة؟ ما يحيلنا لسؤال سياسي عام: هل سيحمل الحلّ السوري السياسي المقترح في التغيير السياسي من دولة ذات سلطة مستبدّة هجرت ثلثي السوريين وتركتهم لقهرهم المتراكم، حلاً سحرياً لثقافة وعقلية هذا المجتمع الغارق في الاستبداد الذكوري والسلطوي المجتمعي، أم أنّه سيمثّل مجرد بوابة فقط لعمل، بعدها شاق ومتعب ومضني سيمتدّ لعقود وأجيال علمياً وتربية وتأهيل نفسي وعمل ثقافي وتنويري للوصول لتجسيد مفهوم بسيط، نعيشه ونكرره قولاً ولكن قلما نعمل به “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”؟.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: ذا ليفانت
التعليقات مغلقة.