عبد الباسط سيدا *
نقرأ، من حين إلى آخر، أبحاثاً ومقالات حول إخفاق الدولة الوطنية في منطقتنا، سواء في المشرق أم في المغرب. وهو الأمر الذي تبني عليه بعض القوى الإسلاموية، لتدعو إلى الدولة الأوسع، أي الخلافة الإسلامية التي ستكون قادرةً، وفق المطالبين بها، على حل المشكلات، ومواجهة التحدّيات والتهديدات؛ وذلك بعد فشل المشروع القومي العربي، بصيغتيه الناصرية والبعثية، وتداعياته التي نجدها اليوم واقعاً على الأرض، خصوصا في العراق وسورية ومصر ولبنان وليبيا واليمن؛ بل يمكن القول إن غالبية الأنظمة العربية، لا سيما الجمهورية – العسكرية منها، تعاني من تحدّيات وجودية، لم تعد مخاطرها خافيةً على أي متابع موضوعي يقرأ الأحداث التفصيلية ضمن سياقها العام، فالكيانات السياسية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، أو تلك التي شهدت الانقلابات العسكرية، لم تتحوّل في واقع الحال إلى دول وطنية، تمتلك مشاريع تستوعب جميع مواطنيها، ولها مؤسّسات محايدة، تراعي مبدأ فصل السلطات، وتحترم قواعد المساءلة والمحاسبة، ولا تكون فيها أي جهة، مهما كانت، فوق القانون. وإنما كانت السلطة الأساسية في الدول المعنية للجيش، وأجهزة المخابرات، وقد استلهمت في معظمها النموذج السوفييتي الستاليني، فتبنّت بدعة الحزب الحاكم أو القائد؛ وسنت القوانين، بل ثبتت في الدستور مواد تشرعن ما يستعصي على أي شرعنة، ففي سورية والعراق كان “البعث” الحزب القائد الحاكم، وكان على كل محتاجٍ إلى وظيفة أو عمل أن يكون عضواً في الحزب المعني، أو مقرّباً من الأجهزة الأمنية التي كانت تستخدم حاجات الناس للتحكّم بهم، وتحويلهم إلى جيش من المخبرين، أو الصامتين السلبيين، ممن يلزمون عقلية “مستورة والحمد لله، من البيت للشغل ومن الشغل للبيت”، أو “من الحيط للحيط ونسأله السترة”. وفي مصر كان الاتحاد الاشتراكي (1962)، وقبله الاتحاد القومي (1957)، في عهد جمال عبد الناصر، هو المتحكّم المسيطر، بل اشترط عبد الناصر نفسه حل كل الأحزاب السياسية في سورية، قبل أن يوافق على مشروع الوحدة بقيادته عام 1958.
وكانت الأيديولوجيا القومية المتمحورة حول القضية الفلسطينية الأداة التجييشية التي اعتمدتها الأنظمة العسكرية المعنية، من أجل إضفاء الشرعية على تسلطها وتحكّمها برقاب الناس وموارد البلاد، فالجيش كان يلتهم القسم الأكبر من الميزانيات، كما أن ضباط الجيش، خصوصا المقرّبين ممن هم ضمن الدائرة الضيقة المحيطة بصاحب (أو أصحاب) القرار، كانوا يتمتعون بامتيازات استثنائية، سواء عبر الإدارة، أم من خلال أجهزة الحزب والمخابرات.
يوصلنا تدقيق أولي في أدوار الأنظمة العسكرية وسلوكياتها، وهي الأنظمة التي هيمنت على جميع الجمهوريات العربية، إلى حقيقة الدور الوظيفي الذي أُسند إلى هذه الأنظمة من الدول الكبرى، سواء التي كانت في المنطقة وتستعمرها (فرنسا وبريطانيا على وجه التخصيص)، أم التي أخذت دورها القيادي بعد الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي)، فهذه الكيانات التي رسمت القوى الدولية حدودها، وشكّلتها بناء على استراتيجيات بعيدة المدى، لم يكن من الوارد بأي شكل أن يُسمح لحفنةٍ من الضباط بالسيطرة عليها، مهما بلغت درجة تنظيمهم، ومستوى الاستعداد المغامراتي لديهم، ما لم يكن هناك قبول من جانب ولي، أو أولياء، الأمر. ولعل هذا ما يفسّر واقع تعدّدية الانقلابات في بلدان مثل سورية والعراق واليمن والسودان وغيرها، فما كان يجري ضمن مؤسسة الجيش في سورية، على سبيل المثال، قبل انقلاب “البعث” وبعده، إنما كان يعكس، في واقع الحال، تعارض الرغبات الدولية مع النزعات التسلطية لدى مجموعات الضباط المتصارعة.
وقد ساهمت أيديولوجية حزب البعث نفسه في استخدام الجيش على الدوام ليكون أداة الانقلابات، فهو بموجب التعريف الذي يقدّم به نفسه: حزب انقلابي. والانقلاب في بلدان حديثة العهد لا تمتلك أحزاباً قوية مخضرمة، ولا توجد فيها تناحرات طبقية مستعصية، تكون عادة من خلال الجهة التي تمتلك السلاح والتنظيم، والقدرة على التحرك، والتأثير بفعل تخطيط مجموعة من المغامرين القادرين على التواصل مع الجهات الخارجية، والتوافق معها على خطة التحرك، وتغطية كل العملية بشعارات كبرى، طويلة الأمد. شعارات تطرح أهدافاً عاطفية كبرى، تظل سارية المفعول، ريثما يتم الانقضاض على الداخل الوطني، والتحكّم به، عبر تفتيت إمكانات النهوض فيه.
وهذا ما فعله حافظ الأسد في سورية، بعدما تمكّن من إزاحة منافسيه وخصومه في القيادة العسكرية، وحوّل حزب البعث نفسه إلى مجرّد واجهة وأداة وظيفية؛ إذ استخدمه لتعزيز دور الأجهزة الأمنية في جميع المحافظات، ومن خلال الجمعيات الفلاحية والنقابات، والمدارس والجامعات، والهيئات الحكومية بكل اختصاصاتها. كما تمكّن الأسد من تدجين الأحزاب المعارضة، خصوصا الحزب الشيوعي، والأحزاب الأخرى التي كانت تعتبر نفسها امتدادا للتجربة الناصرية. ومارس كل الأساليب لتشجيع بذور الخلاف بينها، وشجّع انقساماتها؛ حتى تحوّلت تلك الأحزاب عبر الجبهة “الوطنية التقدمية” (1972)، إلى مجرّد هيئة شكلية لتمرير ما يرتأيه حافظ الأسد، والمصادقة عليه. وقد عزّز الأسد دوره من خلال معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي (1980)، التي لم تنفع السوريين بشيء، لا في التحرير ولا في التنمية، وإنما كانت تدخل ضمن إطار لعبة التوازنات الإقليمية والدولية التي اعتمدها الأسد لتكريس نظامه. حتى أن الأمين العام للحزب الشيوعي السوري، خالد بكداش، نفسه، كان يصرّح، من حين إلى آخر، “إننا إذا انطلقنا من السياسة الداخلية للنظام سنكون في المعارضة، ولكننا ننظر إلى سياسة سورية الخارجية، فهي مع الاتحاد السوفييتي، وهي سياسة تقدّمية، معادية للإمبريالية والصهيونية. لذلك فنحن معها”. ولكن بكداش وغيره من قيادات حزبه لم يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق في ما كان يجري في لبنان في منتصف سبعينيات القرن المنصرم، مع دخول قوات حليفه الأسد إلى البلد بموافقة أميركية – إسرائيلية.
ولم تقتصر جهود حافظ الأسد على ما تقدّم لتعزيز سلطته في الداخل السوري، لتتحوّل الدولة السورية برمتها إلى دولة أمنية، على حد تعبير الراحل طيب تيزيني؛ بل ألزم السوريين بدستوره الشهير (1973)، الذي نصّ صراحةً على أن حزب البعث هو الذي يقود الدولة والمجتمع. وبذلك تمكّن من إبعاد الأحزاب المنافسة، على ضعفها وهشاشتها، عن أي نشاط بين الطلبة والجيش، وتحوّلت الدولة السورية إلى مجرد جهاز إداري يتحكّم به رأس النظام حتى بعد وفاته، وهذا ما تجلى بأبشع الصور، حينما تم تعديل دستور الأسد الأب في دقائق معدوداتٍ، ليأتي على مقاس الأسد الابن، وذلك بموجب الترتيبات التي كان قد أعدّها الأول، وبتزكيةٍ من الدول صاحبة الشأن في هذه القضايا بطبيعة الحال. ولم تكن الأوضاع في بقية الدول العربية الجمهورية – العسكرية أفضل حالاً مما كانت عليه في سورية، سواء في مصر أم السودان، أو في اليمن وليبيا واليمن وتونس والجزائر.
الدولة الوطنية المنسجمة مع واقع مجتمعاتنا، المتميّزة بتعدّديتها وتنوعها الديني والمذهبي والإثني والفكري، لم تشهدها منطقتنا أصلاً. وما نعنيه بهذه الدولة هي التي تقوم على أساس الفصل بين الدين والسياسة، وإخضاع المؤسسة العسكرية بصورة نهائية وبضوابط دستورية ـ وإجراءات عملية، للمؤسسة السياسية المنتخبة بإرادة المواطنين الأحرار. دولة تقوم على الفصل الواضح بين السلطات، وتحمي بشرعية الدستور نظام تعدّدية الأحزاب، وذلك بعد القطع التام مع هرطقة “الحزب القائد”، وأيديولوجيته التضليلية. دولة لا تجعل من إعلام الدولة العام امتدادا لسلطة الحاكم، ووسيلة لتسويغ سياساته ورغباته وتسويقها. دولة يكون فيها القانون سارياً على الجميع، من خلال آلية واضحة متماسكة شفّافة للمساءلة والمحاسبة. وذلك كله يستوجب التوافق الوطني على مشروعٍ يطمئن الجميع على أساس احترام الخصوصيات، والإقرار بالحقوق، وتوفير الشروط الواقعية العملية لتشاركٍ عادلٍ في الإدارة والموارد، والعمل على تأمين القدرات الفعلية لتنمية متوازنة مستدامة في جميع المناطق، وعلى جميع المستويات؛ ومن دون أي تمييز أو اسثناء لأي مكونٍ، بل لأي فرد.
لا معنى لأي حديث عن الدولة الوطنية بمعزل عن وجود مواطنين أحرار، فما عرفته منطقتنا من دول حتى الآن لم يتجاوز حدود نسخ مكرّرة من أنظمة عسكرية، اتخذت الواجهة الحزبية المفصلة على مقاساتها غطاءً سياسياً. ولم تكتف بذلك فحسب، بل استخدمت كل الولاءات ما قبل الوطنية في سبيل تعزيز سلطتها، وتوفير الشروط التي مكّنتها من الإجهاز على الوطن وناسه الذين تعاملهم دائما بوصفهم رعايا، لا مواطنين أحرارا.
* كاتب وباحث وأكاديمي سور ي
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.