غسان ناصر*
المعارض الكردي السوري صلاح بدر الدين، هو ضيف (مركز حرمون للدراسات المعاصرة)، في هذه المساحة الحوارية التي وقفنا فيها معه على آخر المستجدات في المشهد السياسي الكردي السوري الراهن، وعلى رؤيته تجاه هذه المستجدات، وما سبقها من أحداث وطنية وإقليمية ودولية رسمت تاريخ المنطقة الحديث والمعاصر، ورسمت جغرافيتها في ظل احتلالات عسكرية متعدّدة. إضافة إلى مناقشة عدد من القضايا السياسية والفكرية التي تشغل الرأي العامّ السوري والكردي.
وُلد بدر الدين في 11 آذار/ مارس 1945، في قرية “نعمتلي” قضاء مدينة القامشلي شمال سورية. انتسب مبكرًا إلى (الحزب الديموقراطي الكردستاني – سورية)، وساهم مع الجناح اليساري القومي عام 1965 في تدشين النهج القومي الديمقراطي في الحركة الكردية. وانتسب إلى كلية الحقوق بجامعة دمشق، واعتُقل قبيل التخرج.
عاش ضيفنا الجزء الأكبر من حياته، منذ صيف 1966، في العمل السري، والاختفاء بالداخل، والهجرة القسرية إلى لبنان وكردستان العراق وتونس وألمانيا الديمقراطية والاتّحادية فيما بعد، وسُجن عامًا واحدًا في سجن القلعة بدمشق، وتم تحويله إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق بعد تجريده من الحقوق المدنية.
منذ “كونفرانس” عام 1968، أصبح السكرتير الأول لـ “البارتي الديمقراطي الكردي اليساري” في سورية، ثمّ أمينًا عامًا لـ (حزب الاتّحاد الشعبي الكردي) بعد تبديل الاسم في المؤتمر الخامس عام 1980.
التقى صلاح بدر الدين الراحلَ الملا مصطفى البارزاني، قائد ثورة أيلول/ سبتمبر، للمرة الأولى في حزيران/ يونيو 1967 في منطقة “بالك” في كردستان العراق.
أسّس في لبنان (رابطة كاوا للثقافة الكردية)، بصفتها مؤسسة ثقافية، في أعوام 1975 – 1978. وهو يترأس الرابطة في كردستان العراق منذ عام 1999.
أسهم مبكرًا في بناء العلاقات الودية مع حركة التحرر العربية، وخصوصًا الحركة الوطنية اللبنانية، وقوى منظمة التحرير الفلسطينية، وقلده الرئيس الراحل ياسر عرفات أعلى وسام فلسطيني (درع الثورة الفلسطينية)، شارك في إقامة عدد من جمعيات الصداقة بين الكرد والعرب، وهو رئيس (جمعية الصداقة الكردية – العربية).
انسحب طوعًا من رئاسة حزبه، ومن كل العمل الحزبي، منذ عام 2003، ليمارس قناعاته الثقافية والسياسية بصورة مستقلّة.
صدر له عدد من المؤلفات، نذكر منها: «الكرد والحركة التحررية الكردية»، بيروت – برلين 1982، (صدر باللغات الكردية والعربية والألمانية)، و«الأكراد شعبًا وقضية»، بيروت 1986، و«القضية الكردية والنظام العالمي الجديد»، بيروت 1992، و«الحركة القومية الكردية في سورية.. رؤية نقدية من الداخل»، أربيل 2003 (صدر باللغات الكردية والعربية والإنكليزية)، و«الكرد بين إرهاب الدولة القومية والإسلام السياسي»، أربيل 2005، و«الصراع في سوريا.. (النظام – الكرد – المعارضة)»، أربيل 2010، و«الحركة الوطنية الكردية السورية»، -مذكرات- (الجزء الأول)، 2000، و«الحركة الوطنية الكردية السورية»، -مذكرات- (الجزء الثاني) 2010، و«الحركة الوطنية الكردية السورية»، -مذكرات- (الجزء الثالث) 2017، و«الحركة الوطنية الكردية السورية»، -مذكرات- (الجزء الرابع) 2020، التي تروي لنا وللأجيال القادمة تفاصيل كثيرة مما عاشته الحركة الوطنية الكردية، متضمنة مستجدات الساحة الكردية في ظل الثورة السورية، والتدخلات الدولية، والعنصر الجهادي الذي دخل على معادلة الصراع في سورية. إضافة إلى تطورات المسألة الكردية في إطار المسار الوطني العامّ في سورية بين عامي 2018 و2020، وتشخيص مكامن الخلل في العلاقات الكردية – السورية، وعلاقات كرد سورية بإقليم كردستان العراق، التي كانت منطلق حوارنا هذا.
هنا نص الحوار:
= صدر حديثًا الجزء الرابع والأخير من مذكراتكم السياسية الموسومة بـ «الحركة الوطنية الكردية السورية»، كيف تقدمها لنا؟
– هذا الجزء يغطي عامين، بين 2018 و 2020، من التطورات والأحداث في سورية عمومًا، وفي الحالة الكردية السورية خصوصًا، إن المنهج الذي اتبعته في كتابة مذكراتي لا يقتصر على تسجيل ما حصل ويحصل فحسب، بل يقترن بتقييم نقدي لكل حدث بحسب وجهة نظري، وكما هو معلوم، فإنّ بلادنا منذ أعوام حبلى بالمفاجآت، وليس من السهولة ضبط إيقاع التطورات، لأنها ليست بفعل شعبي بحسب قوانين الصراع المعروفة، وليست بإرادة الناس والمواطنين في الأجواء السليمة، إنما هي من صنع الأجنبي الغريب، من محتلّين وميليشيات، لذلك لا تكون مهمة المتابع سهلة، فهي محفوفة بمخاطر سوء التقدير أحيانًا.
غالبًا، وأنت تتابع وقع السياسات اليومية، وسلوك أصحاب الحل والربط المتحكمين بمصائرنا في إدارة (الأزمة) السورية، وهي في الحقيقة قضية كبرى بالغة التعقيد، وليست مجرد إشكالية عابرة تجد لها الحل بقرار دولي، أقول: في خضّم مراقبة الأوضاع اليومية، أتذكر أحداثًا وقعت قبل عقود، أو يتراءى أمام ناظري مشاهد فرعية حديثة، لها صلة مباشرة بالموضوع الأساسي لمذكراتي «الحركة الوطنية الكردية السورية»، لذلك سرعان ما أسجّل بقدر ما تسعفني الذاكرة التي لا تسير طبعًا بخط مستقيم، ولا تتجاوب دائمًا بحسب الطلب، بل تعاندني مستغلة تجاوزي عتبة السبعين.
لدينا في الحركة الوطنية الكردية السورية معضلة خاصّة تفاقمت في الأعوام الأخيرة، وهي مسألة الحفاظ على الشخصية الكردية السورية، وعلى الاستقلالية وعدم التبعية لمحاور قومية مجاورة تتمتع بالقوة والنفوذ، مثل (حزب العمال الكردستاني) المعروف بـ (PKK) الذي سيطرت قواته المسلّحة على مقدرات مناطقنا بموجب اتّفاقية أُبرمت بين موفد رأس النظام بشار الأسد (اللواء آصف شوكت) من جهة، وقائد قوات (PKK) مراد قرايلان من جهة ثانية، أواخر عام 2011 وبداية عام 2012 في مدينة السليمانية، بوساطة من الرئيس العراقي آنذاك جلال الطالباني، وإشراف قاسم سليماني، على قاعدة مواجهة تركيا من سورية، والحيلولة دون انخراط الكرد السوريين بالثورة السورية.
لذلك فإنّ الجزء الرابع يتضمن بحوثًا ومواد تتعلق بهذه المعضلة، وشرحًا مفصلًا لما هو واقع، وطرح مقترحات من أجل حلها والعودة إلى علاقات طبيعية بين مختلف الأطراف والتيارات السياسية الكردية في كل الأجزاء، على أساس الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في شؤون الآخر.
وقد أسهبت بهذا الجزء من المذكرات في واقع العلاقة مع الأشقاء في إقليم كردستان العراق، بحكم وجودي هناك منذ 26 عامًا، وقربي من مصدر القرار، وإشرافي في مراحل كثيرة على سير العلاقة بين حزبنا -سابقًا- (الاتّحاد الشعبي)، والأشقاء في الإقليم، منذ عهد الزعيم الراحل مصطفى بارزاني، وتحديدًا منذ عام 1965 حتى الآن، وكنت واضحًا وصريحًا في سردي وتقييمي، وأبديت ملاحظاتي ومقترحاتي بهدف تعزيز تلك العلاقة.
نحن في الحركة الكردية السورية، بشكل عام، أقرب من حيث الفكر والمواقف السياسية إلى (الحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق) فهو حزب معتدل ومنفتح على مختلف التيارات، ويؤمن بالحوار، ولنا تاريخ نضالي مشترك منذ عقود، وقدّمنا الدعم والإسناد لثورة أيلول بقيادة البارزاني عام 1961، كما قدم الأشقاء الدعم لكرد سورية بعد انتزاعهم الفيدرالية، وهناك الآن نحو 300 ألف لاجئ كردي سوري في إقليم كردستان العراق.
أميركا تبحث عن خدم ومقاتلين تحت الطلب:
= صدر الجزء الأول من المذكرات عام 1984، بينما صدر الجزء الثاني عام 2010، أي بفارق زمني نحو 16 عامًا. ما سبب هذه المسافة الزمنية الطويلة بين صدور الجزئين؟
– التأخير حصل لأسباب أغلبيتها خاصّة تتعلق بخروجنا من بيروت بعد وصول الاحتلال الإسرائيلي إلى قلب بيروت، وبانتقالي إلى تونس، وبعد فترة كتن انتقالي مع العائلة إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حيث قررت الإقامة هناك انسجامًا مع فكري اليساري وامتناعًا عن اللجوء إلى الدول الغربية على الرغم من كل المغريات والامتيازات، وقد انشغلت بالعائلة التي شعرتُ أنني أهملتها سنوات بسبب نضالي، ثمّ انتقلت اضطراريًا إلى ألمانيا الغربية بعد توحيدها، وبعد أعوام انتقلت إلى كردستان العراق واستقريت هناك، طبعًا، كل ذلك أرهقني، وقد توزعت مكتباتي الخاصّة بين دول عدة، وفقدت كثيرًا من أوراقي ووثائقي الثمينة، ثمّ أعدت تنظيم واستعادة ما قدرت عليه.
= ما تقييمكم لما توصل إليه الطرفان الكرديان في المرحلة الأولية من مفاوضات وحدة الصف الكردي؟ وهل من جديد في مسار هذه المفاوضات؟
– الطرفان المشار إليهما هما الإطاران اللذان يضمان جميع الأحزاب الكردية السورية تقريبًا، ويبلغ عددها، بحسب التقديرات، نحو ثلاثين حزبًا، وكل هذه الأحزاب تتوزع على محورين رئيسيين في الحركة القومية الكردية بالجوار. وكما هو معلوم، الحركة الكردية السورية لا تقتصر على الأحزاب الموجودة في هذه المرحلة فحسب، بل إنّ الأحزاب، بحكم ترهل بعضها، وعدم استقلالية البعض الآخر، وتاريخ بعضها الذي يشوبه الشك وعدم الثقة، بسبب التبعية لأجهزة السلطة قديمًا وحديثًا، وبسبب انحراف بعضها عن الخط الوطني بمعاداة ثورة الشعب السوري، خسرت جلّ أعضائها ومناصريها، وهناك في ساحتنا الكردية أغلبية وطنية ساحقة مستقلّة عن الأحزاب، مثل حراك شبابي ومناضلين من النساء والرجال، وبعض مشاريع عمل تشكل منظمات مجتمع مدني، وهي الكتلة التاريخية التي نراهن عليها في مهام إعادة بناء الحركة الكردية، وفي استعادة شرعيتها، وفي إعادة الكرد إلى دورهم الوطني جنبًا إلى جنب مع الحركة الديمقراطية السورية.
أنظر إلى أيّ مشروع اتّفاق أو وحدة، وإلى الأهداف والبرنامج السياسي الذي يطرحه حاملو ذلك المشروع، ومن الملاحظ أنّ ما أُعلن حول مفاوضات الطرفين عبارة عن إعلانات فضفاضة، وكل ما يرمي إليه الطرفان لا يتعدى منطقة جغرافية معينة، أي إنّ موضوع الاتّفاق -إن تمّ- لا يشمل قضايانا الوطنية، إنما يتركز في حيّز جغرافي يتبع لنفوذ دولة محتلّة، وقد يخدم مصالحها حيث تقدّم التمويل وتقوم برعاية المبادرة التي صدرت عن قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المرتبط بالتحالف الدولي – الأميركي، وهي بإشراف أحد ضباطه.
كرديًا، ليس هذا (الاتّفاق) ما يهدف إليه الكرد السوريون، بل إنّ الأغلبية الساحقة من وطنييه المستقلّين يسعون لإعادة بناء الحركة الكردية السورية، ولاستعادة شرعيتها، من خلال عقد المؤتمر الكردي الجامع بأغلبية مستقلّة وبمعزل عن الأحزاب ومحاورها، وهذا ما طرحه حراك (بزاف) منذ أعوام، وقدّم مشروعه المتكامل ووثائقه، وهو يعمل لتحقيقه، في حين أنّ قيادات الأحزاب (وليس أنصارها) هي من تعرقل مساعي (بزاف) حتى الآن، والأميركان يغضون الطرف أيضًا لأنهم، ببساطة، يبحثون عن خدم ومقاتلين تحت الطلب ليس إلّا.
= في تشخيصكم لأزمة الحركة الكردية السورية، التي تتفاقم وتتعمق وتتجه إلى مزيد من الانقسامات، وإلى إلغاء الدور الكردي محليًا ووطنيًا وكردستانيًا، وإلى وضعهم على هامش مرحلة الاستحقاقات القادمة.. ترون أنّ الحل في كردستان العراق، حيث للقيادة هناك الدور المفصلي في مصير الحركة. هل لك أن تشرح لنا أكثر؟
– نعم، كما ذكرت أعلاه، هناك علاقة خاصّة بين الحركة الكردية السورية ونظيرتها الكردية العراقية منذ عقود، وهناك احترام خاصّ من جانبنا لرمزية الزعيم الراحل مصطفى بارزاني، وشارك الكرد السوريون في الدفاع عن الإقليم عبر تطوع كثيرين في قوات (البيشمركة) منذ ثورة أيلول/ سبتمبر عام 1961. إضافة إلى ذلك هناك سوابق تاريخية في مدّ يد العون من جانب الأشقاء لإصلاح ذات البين بين التيارات السياسية الكردية السورية، كما حصل عام 1970 عندما حاول الزعيم بارزاني توحيد جناحي الحركة الكردية السورية، اليسار واليمين.
منذ اندلاع الثورة السورية تكررت المساعي، حيث أشرف الرئيس مسعود بارزاني على مؤتمر (المجلس الوطني الكردي) في أربيل عاصمة الإقليم، كما حاول التوسط بين هذا المجلس وحزب (PYD)، وأشرف على عقد اتّفاقيات عدة بينهما، في أربيل ودهوك، ولكن لم تُنفّذ. قد يكون لنا رأي آخر وملاحظات، ولكن الأشقاء في الإقليم حاولوا عن طيبة قلب من دون نتائج، وقد أبلغناهم شفهيًا ومراسلة مرات ومرات، وتكلمت شخصيًا أكثر من مرة مع الأخ الرئيس مسعود بارزاني عن أنّ السبيل الوحيد هو أن يدعموا فكرة عقد المؤتمر الكردي السوري الجامع في أربيل، نظرًا لتوفر الأمن والأمان وسهولة الانتقال إلى هناك، ولكن، مع كل أسف، حتى الآن لم يفصحوا عن موافقتهم الرسمية من طلبنا.
(PKK) ليس جزءًا أصيلًا من الحركة الكردية السورية:
= ما آخر المستجدات في علاقات أكراد سورية بإقليم كردستان العراق، في ظل ازدياد المطالبات النخبوية الكردية السورية حتى الشعبية، بمزيد من استقلالية الحركة الكردية السورية؟ وهل أنتم مع تقسيم وحدة الجغرافيا الوطنية السورية التي مزقتها الحروب؟
كما ذكرت، ليس لنا مشكلة مع الإخوة في كردستان العراق بشأن الاستقلالية، فهم لم يرسلوا قوات عسكرية لإدارة مناطقنا ولتطويع الناس بقوة السلاح والعنف كما فعلت جماعات (PKK)، ولم ينادوا يومًا بأن نتبع لهم سياسيًا، هناك تعاطف عامّ قومي، وهناك مشاعر ودية تجاه الزعيم الراحل مصطفى بارزاني وتجاه عدّه رمزًا قوميًا يحظى بالاحترام، وهناك احترام لورثته ولحزبه. وفي الجانب السياسي كل وطني كردي سوري لا يرى في نهج الأشقاء في الإقليم، وخصوصًا الحزب الذي يقوده الأخ “مسعود”، إلّا تعبيرًا عن روح الوطنية الصادقة والاعتدال والتعامل الديمقراطي، واحترام الآخر المختلف، والتمسك بالمبادئ والمسلمات، نعم، قد نجد مجموعات أو حزب أو فئة من كرد سورية يبالغون في مشاعرهم ويزاودون في موالاتهم، وماهي إلّا موجات وقتية تبحث عن مصالح خاصّة، وتضر في سلوكها أشقاءنا أيضًا. وعلى الرغم من هذه الحقيقة هناك دائمًا، من خلال سير الحياة السياسية، أخطاء تقع من كل الأطراف، ونحن قد نختلف مع الأشقاء في تفاصيل وضع الكرد السوريين، وفي السبيل الأفضل لوحدة حركتنا، لذلك نبدي لهم بكل صراحة ملاحظاتنا وقناعاتنا في مختلف المراحل، وخصوصًا الآن بشأن عقد المؤتمر الكردي السوري المنشود.
= يبحث الجزء الثالث من مذكراتكم، الذي صدر عام 2018، في أحداث مرحلة اندلاع الثورة السورية، وظهور سلطة الجماعات الحزبية التابعة لحزب العمال الكردستاني (PKK)، التي لكم تجاهها موقف ناقد، هل يمكن توضيحه لنا؟ وما هي رسالتكم لقادته بقصد تصحيح المسار؟
– من الواضح، بحسب المعطيات والقرائن، أن نظام الأسد، منذ بدايات اندلاع ثورات الربيع، كان يتوجس حصول أمر ما، وقد بدأ باتّخاذ الاحتياطات المطلوبة. ولأن ثورات الربيع شاملة لكل بلدان المنطقة، وحدوثها متوقع بكل بلد، وطابعها شعبي يتخطى الحدود الإقليمية، ويؤثر في السياسة الدولية وفي مصالح الكبار والصغار، ولأنّ نظام بلادنا جزء من محور الممانعة اللفظية الديماغوجية، فقد استنجد بأصدقائه الإيرانيين أولًا، وبالميليشيات المذهبية المسلّحة وخصوصًا (حزب الله) اللبناني، وتواصل مع رئيس العراق الأسبق المرحوم الطالباني الذي توسّط بينه وبين مركز (PKK) في قنديل، وهذا ما ذكرته أعلاه، لذلك ظهرت جماعات هذا الحزب المسلّحة في شوارع القامشلي وكوباني (عين العرب) وعفرين، وتمّت عملية التسليم والاستلام، كل ذلك كان بقرار إقليمي وصمت دولي، هذه الجماعات ليست جزءًا أصيلًا من الحركة الكردية السورية، بل حملت معها ثقافة مدمّرة مناقضة لكل تقاليد حركتنا، منذ انبثاقها تنظيميًا قبل أكثر من نصف قرن، وما إن حلّت هذه الجماعات حتى أفرغت المناطق، وهاجر المواطنون، وبخاصّة من القوى المنتجة والشابة، وحلّ الانقسام والصراع، وتمّت عمليات اغتيال لناشطين مخالفين لها، واعتقال البعض الآخرـ وازدادت الخلافات والفتن في الشارع الكردي، وحلّ الجفاء والتباعد بين الكرد وشركائهم السوريين، وخصوصًا من المعارضين للنظام، كما أثيرت الفتن العنصرية بين الكرد والعرب في المناطق المختلطة.
نحن نوصل صوتنا للجميع، ومن ضمنهم (PYD) و(قسد) وكل الأحزاب، بضرورة التوقف عن مواصلة تلك السياسات المدمّرة، والاستماع لصوت العقل، والعودة إلى الحوار، والكف عن السلاح والتسلّح بعد القضاء على تنظيم (داعش) الإرهابي، والتصالح مع الذات ومع الآخر المختلف، وعودة مقاتلي (PKK) إلى مواقعهم قبل عام 2011 ومغادرة سورية، واستجابة حزب (PYD) بصفته طرفًا سياسيًا لنداء عقد المؤتمر الكردي السوري، ومشاركته بعد إجراء المراجعة النقدية لكل ما قام به خلال الأعوام التسعة الماضية، والرضوخ لإرادة الأغلبية الوطنية المستقلّة، وهكذا الحال للأحزاب والجماعات الأخرى.
= في خضم المراجعات الفكرية والسياسية التي لا بدّ منها بين مدة وأخرى، اسمح لي أن أسألكم، ماذا عملت الأحزاب الكردية السورية من أجل قضية أكراد سورية؟ وما هي ملاحظاتكم على أدائها في عام 2020؟
– حتى عام 1965 كان هناك حزبا اليسار واليمين، وابتداء من ذلك التاريخ بمقدوري توضيح ماذا عملنا، فبعد “كونفرانس” في الخامس من آب/ أغسطس 1965، وانتخاب (القيادة المرحلية)، وضعنا في مقدمة خطة العمل نسج العلاقات والتواصل مع القوى والأحزاب والمنظمات العربية على الصعد السورية أساسًا، ومع المحيط العربي كخطوة تالية، لشعورنا بوجود ثغرة، بل فراغ سحيق، ومن منطلق التعريف بشعبنا وقضيتنا وحركتنا، والبحث عن مشتركات وطنية لمواجهة حكومات ونظم الاستبداد والدكتاتورية، وطرحنا على الجميع مشروعنا في (الجبهة الوطنية الديمقراطية السورية) -وهي منشورة في مذكراتي- ونظرتنا في السبيل إلى حل القضية الكردية في سورية، وقد تركزت العلاقات بداية نحو (الحزب الشيوعي) قبل الانقسام، ومن ثمّ كانت مع فصائله المنقسمة على بعضها (أجنحة خالد بكداش – رياض الترك – مراد يوسف – يوسف فيصل.. إلخ)، ثمّ انتقلنا إلى التواصل مع (حركة القوميين العرب) ومع تجسيدها التنظيمي في سورية تحت مسمى (الحزب الاشتراكي)، وتاليًا مع (الاتّحاد الاشتراكي – د. جمال الأتاسي)، ومع جناح عبد الغني قنوت لاحقًا، ومع بعض الجماعات الناصرية.
وفي الداخل السوري كانت لنا لقاءات مع (حركة التحرر الوطني الفلسطيني – فتح) الوليدة، ثمّ (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)، وبعد مدة تطورت العلاقات مع (رابطة العمل الشيوعي) في سورية إلى مستويات متقدمة.
كنا نتوجه إلى بيروت بين الحين والآخر، بداية الستينات، ونزور مكاتب الأحزاب والقوى السياسية، وبعد الإقامة بين عامي 1972 و 1983 وتعزيز وضع منظمة حزبنا – سابقًا – هناك، توزعت علاقاتنا وتطورت وتعززت مع (الحزب الشيوعي اللبناني) و(منظمة العمل الشيوعي) و(الحزب الاشتراكي التقدمي) بزعامة الشهيد كمال جنبلاط، ثمّ شاركنا بتأسيس (الحركة الوطنية اللبنانية)، وتواصلنا مع جميع أعضائها من مختلف التيارات السياسية، وبطبيعة الحال كان من مهامنا شرح الوضع الكردي في سورية والقضية الكردية السورية، وكذلك تسليط الضوء على الحركة الكردية في المنطقة عمومًا، وقد كسبنا أصدقاء ومتضامنين مع شعبنا وقضيتنا، تُرجمت بالبيانات والبلاغات الثنائية المشتركة والمعلنة في وسائل الإعلام، وأذكر أننا التقينا بـ (منظمة حزب البعث) في لبنان – جناح صلاح جديد، وأصدرنا بيانًا مشتركًا أصروا أن يتضمن “دعم حق تقرير مصير الكرد السوريين”، هذا بالإضافة إلى مساهماتنا في نشر المقالات في المجلات والصحف التي كانت مزدهرة آنذاك.
على الصعيد الفلسطيني، وبوجود مقر (منظمة التحرير الفلسطينية) وجميع فصائلها في لبنان، نسجنا علاقات صداقة مع الجميع، وكان التجاوب واضحًا، من (حركة فتح) وقادتها، ومن الجبهتان (الشعبية) و(الديمقراطية)، وكذلك (الشيوعيون الفلسطينيون) وفصائل أخرى. وكان الأصدقاء الفلسطينيون يتفهمون قضايانا بسهولة، وعن قناعة نابعة من تشابه الوضعين، علاقاتنا كانت رسمية مع المنظمة بصفة حزب كردي سوري، وكانت وسائلهم الإعلامية متاحة لنا، مثل مجلتي “الحرية” و”الهدف”، وكنا نكتب فيها ما نشاء. حينذاك كانت تستقر في بيروت عشرات من ممثلي حركات التحرر العربية والتركية والإيرانية والأميركية اللاتينية والإفريقية حتى قوى ثورية يابانية وألمانية معارضة، وتواصلنا معها، كما التقينا مع ممثلي حكومة اليمن الجنوبي، و(جبهة التحرير) من البحرين، و(مجاهدي خلق) من إيران، و(الحزب الشيوعي العراقي)، و(الحركة الثورية) من تركيا، و(حزب العمال التركي)، و(الجبهة الشعبية الإريترية)، وكنا نشرح للجميع قضيتنا الكردية السورية، ومجمل أوضاع الحركة الكردستانية.
إلى جانب العلاقات السياسية كانت (رابطة كاوا للثقافة الكردية) تصدر عشرات من الكتب المترجمة، حول القضية الكردية، وكذلك كتبي التي تدور حول كرد سورية وقضيتهم، وكنا نوزعها على الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الإعلامية، إضافة إلى إرسالها عبر طرق التهريب إلى سورية، وكنا نزود سفارات الدول الاشتراكية والصديقة بكل ما يصدر من كتب وبيانات.
كذلك قمنا بتشكيل جمعيات الصداقة بين الكرد والعرب، كوسيلة للتعارف وتبادل القضايا والرؤى الزيارات، وكانت باكورتها (جمعية الصداقة الفلسطينية – الكردية) في رام الله عام 1999 برعاية الرئيس الراحل ياسر عرفات، و(جمعية الصداقة الكردية العربية) في أربيل عام 2000 برعاية الرئيس مسعود بارزاني وقد تشرفت برئاستها، عقدنا في أربيل (منتدى الحوار الثقافي الكردي العربي)، عام 2004، بحضور نخب كردية وعربية لمناقشة عدد من القضايا المشتركة.
كنا الطرف الأول الذي اخترق الحواجز منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، وتواصلنا مع الشركاء السوريين والأصدقاء العرب والأمميين، وطرحنا قضيتنا بمنتهى الشفافية: نحن شعب من السكان الأصليين نستحق حق تقرير المصير من حيث المبدأ في إطار سورية الموحدة، وكانت إحدى شعارات صحيفتنا المركزية (اتّحاد الشعب) الاعترافَ المبدئي بحق تقرير المصير، وأنه لا يمكن فصل قضيتنا الخاصّة عن القضية الديمقراطية في البلاد، ومن الواقعي إيجاد صيغة للحل تتناسب مع خصوصيات قضيتنا، ومع الحالة السورية العامّة، أما من أتى بعدنا وبعد توالد الأحزاب فمنهم من استعار بعضًا من موقفنا وليس كله، ومنهم من دخل بمناقصات، مثل حزب اليمين الذي قدم ذرائع لبعض الشوفينيين السوريين العرب، في رفض وجود شعب كردي، وخلق انطباعًا لدى الأوساط الحاكمة ومن في فلكها أننا (متطرفون).
نعم، نجحنا بكل المقاييس في طرح قضيتنا بمنتهى الوضوح في الإطار السوري خصوصًا، ولأول مرة في التاريخ السياسي لحركتنا كان النجاح حليفنا على الصعد الإقليمية والأممية، كل ذلك دفع نظام الأسد (الأب) إلى الاستنجاد بأجهزته الأمنية للانقضاض على حزبنا، ليس لأنه أشعل ثورة مسلّحة أو شارك بانقلاب عسكري أو أعلن استقلال الكرد، بل لأنه بكل بساطة (قاد مسيرة الطرح والتفصيل والتوضيح والتحاور) وأرسل الأسد شخصيًا الضابطَ الأمني محمد منصورة الذي كانت مهمته واضحة، ونجح فيها بشق (الاتّحاد الشعبي)، واستمالة بعض ضعاف النفوس في قيادته في منطقة الجزيرة.
= كنتم ممن رفضوا التوقيع على بيان “شخصيات وتشكيلات سورية في المنطقة الشرقية” بخصوص تفاهمات الأحزاب الكردية على مستقبل الجزيرة السورية (7 حزيران/ يونيو الماضي)، ما هي الأسباب؟ ومن قبل ما هو رأيكم بهذه التفاهمات؟
– سبق أن ذكرت رؤيتي بشأن (الاتّفاقية أو التفاهمات) بين طرفي الاستقطاب الحزبي بالساحة الكردية، وكان المأخذ الأساسي عليها أنها كانت تدور حول أمور مناطقية فرعية، وليس حول القضية الوطنية العامّة، بعبارة أوضح، كانت حول جغرافية مقتصرة على النفوذ الأميركي، وجاء بيان “الشخصيات والتشكيلات في المنطقة الشرقية” مماثلًا لما سبق، أي كما يقول المثل الشعبي “إجا يكحلها فعماها”، يعني ذلك عقلية مناطقية متطرفة مقابل العقلية نفسها، وبهذه الطريقة لن تجد قضايانا حلولًا وطنية سليمة.
على كل الاحتلالات ومرتزقتهم الرحيل:
= ما هي قراءتكم للأحداث التي تجري في قرى ومدن شمال شرقي سورية حاليًا، في ظل الوجود العسكري الأميركي – التركي – الروسي؟ وما هو مصير وجود هذه القوات مستقبلًا؟
– ما يجري يذكرنا بمسلسل الفنان دريد لحام «حارة كل من إيدو إلو»، في الحقيقة ليست هناك أحداث هامة، هناك حوادث تصادم، مثلًا، بين الدوريات المحتلّة في أماكن وتقاطع طرق معينة، وانتشار عسكري هنا وهناك، والكل متفق على اقتسام مناطق النفوذ، وحدودها مرسومة من مصادر ومراكز قرار الجميع، إنهم يعربدون أمام مواطنينا بآلياتهم الحديثة وبألبستهم الزاهية، وبأسلحتهم التي يجربونها في بلادنا على شبابنا، هل سمعتم يومًا أنّ هؤلاء بنوا مستشفى، أو شيّدوا مدرسة أو جامعة، أو عبّدوا طرقًا، أو وفّروا مياه الشرب للعطشى، أو قدّموا وسائل وقاية من وباء “كورونا” الذي جاءنا منهم؟ على جميع هذه التشكيلات العسكرية المحتلّة أن تغادر بلادنا، وليرحل معها مرتزقتها من أيّ طيف كان وإلى أيّ تيار سياسي انتمى.
= ما مكامن الخلل في العلاقات بين أكراد سورية من جهة وبين قوى الثورة والمعارضة السورية من جهة ثانية؟ وماذا عن العلاقة مع نظام الأسد في المرحلة الراهنة؟
– أقولها بحسرة، أصبحنا نشكك حتى بعبارة (قوى الثورة والمعارضة) في الوقت الراهن، لقد نحروا الثورة الوطنية منذ زمن بعيد، بدأت الانتفاضة الثورية في ربيع 2011 من جانب الحراك الوطني وتنسيقيات الشباب، وكانت سلمية احتجاجية بمنتهى الشجاعة والإقدام والنزاهة والصدق، وبعد التحاق تشكيلات من جيش النظام بالانتفاضة وانشقاقها عن نظام الأسد اكتملت شروط انتقال الانتفاضة إلى مرحلة الثورة المقاومة المدافعة عن النفس أمام جرائم النظام، ولكن سرعان ما تسلّلت إلى مفاصلها جماعات الإسلام السياسي المدعومة من بعض الأنظمة العربية الرسمية، وكان ذلك بمنزلة ردّة سوداء في تاريخ الثورة التي تحوّلت إلى حاملة لأجندة الأنظمة والأطراف الداعمة، وهي جميعها كانت ومازالت ضد أن يحقّق أيّ شعب، وبخاصّة الشعب السوري، الانتصار على نظم الاستبداد، وضد أن يطبّق مبادئ الثورة في الحرية والتغيير الديمقراطي.
إنّ سيطرة الإسلام السياسي على مقاليد الثورة والمعارضة منذ انبثاق (المجلس الوطني) كان فعلًا مناقضًا لحقيقة المجتمع السوري متعدّد الأقوام والأديان والمذاهب، وكان بمنزلة دعم غير مباشر للنظام، وانتهاك لخصوصية السوريين ونخبهم العلمانية، كما كان بمنتهى الفشل والإخفاق في الممارسة العملية واختيار ممثلين عن المكوّنات، ممّن لا يمتون بأيّ صلة مع الوسط الشعبي، واختاروا أو وظفوا (كرديًا) لا علاقة له بالحركة الوطنية الكردية، ولا تاريخ نضالي له، ميزته الوحيدة فقط هي البصم على كل شيء من دون اعتراض. هنا تمّ تشجيع النزعات الانتهازية والفاسدة إلى أن حصلت موجة جديدة من الوافدين من قلب النظام، مثل (مسؤولين وإداريين ورجال أمن، وحزبيين)، فاكتمل مسلسل الفساد والإفساد الذي أودى بالثورة والمعارضة.
إنّ انضمام (المجلس الكردي) إلى (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) لم يكن تعبيرًا عن مشاركة الكرد بالثورة، فقبل ظهور هذا المجلس شارك الكرد بالانتفاضة عبر تنسيقيات الشباب، وكان الوطنيون الكرد المستقلّون يساهمون بفعاليات لمصلحة الثورة قبل المجلسين (السوري والكردي)، -وقد شاركت شخصيًا كمستقلّ مع نحو ثلاثين من الكرد في (مؤتمر أنتاليا)، على سبيل المثال- وجاء تشكيل (المجلس الكردي) بإرادة خارجية ورضا نظام الأسد، وفي مؤتمره التأسيسي بالقامشلي قرر البقاء على الحياد، وكان ذلك طلب النظام والجهة المشرفة جلال الطالباني الذي نسق مع اللواء محمد ناصيف، وقدم دعمًا ماديًا للصرف على المؤتمر عبر حزب اليمين (ورئيسه المرحوم حميد درويش) المعروف بصلاته الوثيقة مع النظام، وكان المفترض أن يشارك بالمؤتمر حزب (PYD) -كما كان مقررًا- ولكن في اللحظة الأخيرة حصل ترتيب آخر حال دون مشاركته. في مسألة العلاقة الكردية العربية وحل القضية الكردية السورية هناك ثلاثة شروط يجب أن تتوفر، أولها إجماع وطني كردي، وثانيها توافق كردي عربي، وثالثها نظام ديمقراطي. والشروط الثلاثة غير متوفرة الآن، وعلينا كردًا وعربًا العمل والسعي الجاد لأداء مهامنا في تحقيق تلك الشروط.
= برأيكم، كيف يمكن الوصول إلى حل سياسي انسجامًا مع القرارات الدولية، بدءًا من بيان جنيف والقرارين 2118 و2254، والحل العسكري ما يزال هو الخيار الأول للنظام المدعوم من القوات الروسية والإيرانية والميليشيات الشيعية الإرهابية؟
– الحل السياسي إذا تمّ أو فُرض فلن يكون تحقيقًا لأهداف الثورة، ولا تلبية لمطامح السوريين، لأنّ موازين القوى مختلة لمصلحة النظام عسكريًا وسياسيًا ودوليًا وإقليميًا، وبخاصّة أنّ الثورة أُجهضت كما ذكرنا، ولم تعد هناك معارضة موحدة ولا مشروع برنامج واضح. توزعت المعارضة بين داعميها من النظام العربي والإقليمي الرسمي. والأخطر من هذا وذاك أنّ مقولة (أصدقاء الشعب السوري) كانت وهمًا، فكل هؤلاء (الأصدقاء) لم يكونوا يومًا مع تحقيق أهداف الثورة، ولكن قبل ذلك يجب عدم تجاهل وهن وضعف العامل الذاتي الذي جئنا على ذكره مرارًا، وهو الأساس في المعادلة. أعود وأكرر، يجب على الوطنيين السوريين من كل المكوّنات والأطياف، الذين آمنوا بمبادئ الثورة المغدورة، أن يعودوا إلى نقطة البداية بالعمل الجاد من أجل إعادة بناء الحركة الوطنية السورية، وتحقيق المؤتمر السوري لإقرار المشروع الوطني، وانتخاب مجلس قيادي لمواجهة تحديات السلم والمقاومة، بالاستفادة من التجربة السابقة، ومن دروس الإخفاقات بعد مراجعة بالعمق في المؤتمر المنشود.
تجميل الوجه القبيح لنظام الأسد:
= يرى البعض أنّ مشاركة المعارضة الوطنية السورية في “اللجنة الدستورية” ليست إلّا تعطيلًا لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بسورية، وخروجًا عنها، لأنّ مجلس الأمن حدّد في بيان جنيف خطوات الحل في البلاد. ما تعليقكم؟
– أعتقد أنّ مسار “اللجنة الدستورية”امتداد للقرارات الدولية بهذا الخصوص، لأنّ قرارات جنيف وفينّنا والقرارات الدولية الأخرى لم تتبنَ يومًا إسقاط نظام الاستبداد، بل كانت الاعتراف بشرعيته الدولية، والحد الأقصى كان وما زال إجراء إصلاحات ترقيعية، وتجميل الوجه القبيح لنظام الأسد بالمساحيق، وما هذه اللجنة إلّا إحدى أدوات التجميل ليس إلّا.
= بعد كل هذا المخاض، هل يمكن إيجاد أرضية مشتركة بين كل قوى وأطياف الثورة والمعارضة والأحزاب السياسية السورية بمختلف تياراتها القومية والإسلامية واليسارية؟
– نعم يمكن، ومن أجل ألّا يُلغَى أيّ طرف أو تيار، على تيار الإسلام السياسي أولًا، ومن سار بركبه من مجموعات وأفراد (قوميين ويساريين)، إجراء مراجعة في العمق، وممارسة النقد الذاتي للأخطاء والخطايا التي أودت بالثورة والمعارضة، ثمّ يتقبل الجميع انعقاد المؤتمر السوري ويرضخ لقراراته، حينذاك يمكن تحقيق المصالحة والمشاركة، هناك الأغلبية من الوطنيين المستقلّين الذين لم يتحملوا مسؤوليات الإخفاق، ولم يشاركوا بالفساد ومن غير العدل وضعهم بسلة واحدة مع من اتُّهم بالفساد والإفساد والاختلاس، وساهم بالثورة المضادة.
= ما هو موقفكم تجاه “قانون قيصر”، وتقديركم للآثار الجانبية لتطبيقه على السوريين في الداخل، وبخاصّة في مناطق الإدارة الذاتية؟
– “قانون قيصر”، كما أفهم، صدر بهمّة الوطنيين السوريين، وبدعم مؤسسات تشريعية أميركية، من أجل المزيد من الحصار على نظام الاستبداد الأسدي، وهو أمر جيد في هذه المرحلة لو تمّ تطبيق كل بنوده. بطبيعة الحال لن يُطبق في مناطق موالية للنظام مثل مناطق (الإدارة الذاتية)، التي ترتبط مع النظام بعقود واتّفاقات لمده بنفط “رميلان” في الجزيرة، وكذلك بالحبوب، قبل سريان تنفيذ “قانون قيصر”، وستبقى تلك العقود نافذة لأنها لم تبطل حتى الآن.
= أخيرًا، ما شكل الدولة الذي تراه مناسبًا وصالحًا لسورية المستقبل، بعد عقودٍ من الاستئثار والتهميش التي تسبّبت في تغييب الهوية الوطنية السورية؟
– أرى شكل الدولة القادمة نظامًا ديمقراطيًا تعدديًا تشاركيًا لا مركزي علمانيًا، كما نادت به الثورة، يُبنى على قاعدة التوافق الوطني بين مكوّنات سورية القومية خصوصًا، والدينية والمذهبية أيضًا، وعلى حلّ كل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك القضية الكردية، بالاعتراف بوجود الكرد بوصفهم شعبًا من السكان الأصليين، يستحق أن يقرر مصيره السياسي والإداري في إطار الدولة السورية الموحدة، بحسب صيغة مناسبة، وبضمانة الدستور الجديد.
* صحافي سوري – فلسطيني
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.