كه يلان محمد *
الأزمات والإنتكاسات المتتالية في واقعنا المثخن بالتخلف سببها الأساس هو غياب المشاريع الرامية لفك الدوغمائيات المتراكمة على مدار القرون لذلك فنحن نعيشُ في حالة الإنسداد التاريخي ومايزيد من صعوبة التحوّل على الصعيد الفكري والعقلاني هو تعويل الأنظمة السياسية على توظيف الخطابات المتكلّسة لسد الثغرة في شرعيتها فبالتالي لاتوفر هذه البيئة المثقلة بالكراهية مناخاً مواتياً لإزدهار التيار العقلاني الذي يؤسسُ لرؤية إنسانية منفتحة بعيداً عن التموضعات المذهبية والطائفية والعنصرية ،
لكن مع كل هذه الإحتقانات والخيبات المتتالية ثمة مساعٍ حثيثة لتشخيص مكامن الخلل والحفر في الظواهر المسببة للتخلف الحضاري ، ومايقومُ به الكاتب والباحث السوري هاشم صالح من خلال مؤلفاته القيمة ومشاركاته الفكرية المستمرة في المنتديات العالمية والعربية وقراءاته العميقة لأزمتنا المركبة يدعم مشروع التنوير العربي ويمدهُ بمفاهيم معرفية كاشفة لمظاهر الإنحطاط والجمود الفكري،وهو يضع حالة سباتنا العقلي أمام الفكر الأوروبي الذي يستمدُ حيويته من إنطلاقاته المتجددة وقدرته على تفكيك الإنغلاقات المعتمة والتراكمات المعطلة وبذلك لايدع مجالاً لتجاهل ماتفصلنا عنهم من المسافات والعقود المديدة على المستوى الفكري. صدر لـ “هاشم صالح” مؤخراً كتاب جديد بعنوان ” لماذا يشتعل العالم العربي؟” من إصدار دار المدى ، وكان لنا حوارُ حول محتويات كتابه هذا ، ومايتصفُ به من الخصوصيات قياساً على مانشر له سابقاً من كتب عديدة .
= هل يمكن أن تعطينا فكرة موجزة عن تركيبة هذا الكتاب الجديد: لماذا يشتعل العالم العربي؟
– نعم. بداية أود أن أشكر الأستاذ فخري كريم أحد قادة الرأي العام والتنوير الفكري في العالم العربي على نشره لهذا الكتاب في دار المدى للطباعة والنشر. أقول ذلك وبخاصة إنه كان ضخماً من حيث الحجم ومتعباً. فهذا أضخم كتاب وربما أهم كتاب يتاح لي نشره حتى الآن. وقد أسعدني جداً أن ينشر لي لأول مرة كتاب ما في العراق. وأسعدني كثيراً غلاف الكتاب. فقد وجدته ناجحاً ومناسباً للمضمون تماماً. هذا من حيث الشكل والإخراج. أما من حيث المضمون فالكتاب مؤلف من مواد منشورة سابقاً ومواد جديدة تنشر هنا لأول مرة. أذكر من بينها: الإشكالية الكبرى التي تؤرق العالم حالياً: اللاهوت التكفيري أو التكفير اللاهوتي في الإسلام. كنت قد ألقيت نواته المصغرة شفهياً في مؤتمر كبير عقد في مقر اليونيسكو بباريس عام 2019 ولكني وسعته كثيراً هنا، ولم ينشر بالعربية سابقاً في أي مكان، وهو يشكل الفصل الثاني في الكتاب. ولكن الفصل الثالث أيضاً جديد: هل من انبعاث عربي حقيقي من دون ثورة دينية؟ وكذلك الفصل الرابع: عناق الإسلام والمسيحية في أبو ظبي، والفصل الخامس: من أدونيس الى أركون أو العكس، والفصل السادس: حوار ساخن مع نيتشه وهيغل وكلمة الختام لأفلاطون، والفصل السابع: من نيس الى برشلونة: معركة التنوير العربي لما تكد تبتدئ. كل هذه الفصول الكبرى جديدة تنشر هنا لأول مرة. وهناك عناوين أخرى جديدة أيضاً من مثل: نقاش هادئ في مقهى باريسي، أو: لاهوت التكفير والتفجير يصل باريس، أو: نداء الى إخواني الأعزاء أهل السنّة والجماعة، أو: متى التقيت بأدونيس لأول مرة ؟ الخ. ولكن حتى المواد المنشورة سابقاً تعرضت في معظم الأحيان للتنقيحات والتحسينات والإضافات. وهذا ينطبق بشكل خاص على الفصل الأول: “من عصر فولتير الى عصر العفيف الأخضر”. فقد تم توسيعه وتعميقه كثيراً هنا. ولا ننسى المقابلة المطولة مع رضا غنيم فهي جديدة كلياً وتنشر هنا لأول مرة. بل وحتى المقابلة التي أجرتها الدكتورة ريتا فرج فقد تم توسيعها وتعميقها هنا. لماذا أقول كل هذا الكلام؟ لأن بعض الإخوة توهموا أن الكتاب كله عبارة عن تجميع عشوائي لمقالات سابقة متفرقة لا رابط بينها. هذا ليس صحيحاً ولا دقيقاً ولذا اقتضى التنويه.
= أنت تقول بأن المثقفين لم يستبقوا على الانفجار أو الاشتعال الحاصل في العالم العربي. فهل ينبغي أن نعيد النظر في وظيفة المثقف ودوره؟
– نعم السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي ولا أزال هو: لماذا لم يستبق المثقفون العرب على الانفجارات التراثية الهائلة التي حصلت مؤخراً وأحرقت الأخضر واليابس؟ لماذا تغاضوا عن خطورة الجماعات التكفيرية التي عاثت فساداً في الأرض وهدّدت التعايش الأخوي والسلمي بين مختلف مكونات المجتمع الواحد؟ وجوابي هو التالي: لأنهم مؤدلجون أكثر من اللزوم. الأدلجة السياسية والشعارات الديماغوجية أعمتهم عن رؤية الواقع كما هو. ومعلوم أن الايدولوجيا استلابية بطبيعتها: بمعنى أنها تستلب عقلك وتستولي عليه ولا تجعلك قادراً على رؤية الواقع كما هو بكل تركيباته وتعقيداته. هذه هي أدلجة القطيع أو الجماهير كما شرحها غوستاف لوبون في كتابه الشهير: سيكولوجية الجماهير. ومعلوم أيضا أن هناك فرقاً أساسيا بين الفكر الايديولوجي أو المؤدلج/ والفكر العلمي الواقعي المسؤول. وأنا هنا أتهم الأيديولوجيا القومية العربية المتطرّفة كما أتهم الأيديولوجيا الشيوعية الغبية أيضاً. كل هذه الأدلجات العمياء كنسها الواقع وجرفها مؤخراً لحسن الحظ. هذا لا يعني أن القومية العربية ليست مشروعة ولكن بشرط أن تكون ذات مضمون إنساني منفتح لا عنصري ضيق كاره للآخرين كالكرد في المشرق أو الأمازيغ في المغرب.
= ما هي خصوصية هذا الكتاب بالقياس الى ما سبقه؟
– كل ما لم أستطع قوله حتى الآن قلته هنا في هذا الكتاب. كل ما لم أتجرأ عليه في كتبي السابقة تجرأت عليه هنا. لم أحاول تحاشي المشكلة الأساسية التي تفجر العالم العربي حاليا، وانما واجهتها وجها لوجه وسميت الأشياء بأسمائها. وأقصد بها المشكلة الطائفية والمذهبية. على مدار الكتاب لم يكن لي من شغل شاغل غيرها. هل نجحت في معالجتها أم فشلت؟ هذه مسألة أخرى يجيب عليها الزمن والقراء العرب. ذلك أنه بعد كل ما حصل من دمار ومجازر باسم الدين أو بالأحرى باسم التفسير الظلامي المرعب للدين ما عاد السكوت ممكناً. بعد بن لادن والزرقاوي والبغدادي والقاعدة وداعش وعشرات غيرهم آن الأوان للدخول في صلب الموضوع! ما عاد ممكناً السكوت على هذه المشكلة المتفاقمة التي تنخر في أحشاء أحشائنا. وأقصد بها مشكلة الفتنة الكبرى التي حصلت قبل 1400 سنة أو أكثر قليلاً . ولذلك تجرأت لأول مرة على التحدث عنها بكل صراحة ووضوح، ودون أي لف أو دوران. وهي فتنة لم نستطع تجاوز آثارها أو عقابيلها حتى اللحظة. إنها شرخٌ في تاريخ طويل. الفكر العربي الحالي عاجز عن تشخيصها بشكل صحيح ناهيك عن حلها. وذلك لأنه إما أنه فكر تقليدي قروسطوي عتيق، وإما لأنه فكر سطحي مسيس ومؤدلج أكثر من اللزوم. من الواضح أنه يلزمنا فكر آخر لم ير النور بعد. هذا الفكر الآخر هو ما أحاول رسم خطوطه العريضة هنا من خلال طرحي لمشكلة اللاهوت التكفيري أو التكفير اللاهوتي في الإسلام. ثم من خلال تركيزي على قضية التنوير العربي باعتباره علاجاً شافياً لها. وكانت مشكلة التكفير ومضادها التنوير قد شغلتنا في مؤتمر كبير في اليونيسكو العام الماضي عن الإسلام في القرن الحادي والعشرين(26-27 شباط/2019). وفيه ألقيت باللغة العربية مداخلة عن هذا الموضوع الحساس جداً. وقد أثبتها هنا في صميم الكتاب ولكن بعد توسيعها وتعميقها الى أقصى حد ممكن كما ذكرت آنفا. كل ما أستطيع قوله هو أني قلبت المسألة على كافة جوانبها حتى أضنيتها وبذلت جهدي. ثم قارنت بين الفتنة الكبرى عندنا والفتنة الكبرى التي حصلت عندهم في المسيحية بين المذهبين الكبيرين الكاثوليكي والبروتستانتي. وهما يقابلان عندنا المذهبين الكبيرين السنّي والشيعي. فالمقارنة أساس المعرفة والنظر وبضدها تتبين الأشياء. ولا بأس من الاستفادة من تجربة الأمم المتقدمة في هذا المجال. فهم أيضاً شهدوا الحرائق المذهبية والحروب الأهلية وعانوا منها الأمرين. ولكنهم خرجوا منها في نهاية المطاف بواسطة فكر تنويري عظيم. وبالتالي فالاستفادة من تجربة الأمم المتحضرة ضرورية ومفيدة جداً. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي التالية: كيف حلّوا مشكلتهم ولم نستطع نحن لا أقول حلها وإنما طرحها وتشخيصها بشكل صحيح على الأقل؟ كيف استطاعوا تشكيل دولة مدنية حديثة تساوي بين الجميع في المواطنة والحقوق والواجبات ولم نستطع نحن؟ ثم بالأخص: كيف استطاعوا تجاوز الانقسامات المذهبية المدمرة وتشكيل وحدة وطنية راسخة ولم نستطع نحن؟ هنا يكمن التفاوت التاريخي بين العرب والغرب. هذا لا يعني أننا لسنا سائرين على طريق الاستنارة والتقدم والتطور. ولكن ينبغي العلم بأن ما حققوه خلال ثلاثة قرون لا نستطيع نحن تحقيقه خلال ثلاث سنوات! فلنعط الوقت للوقت إذن لكي تنضج الظروف ويصبح التغيير ممكناً. لا ينبغي أن “نحرق الطبخة” عن طريق الاستعجال المتهور. وذلك لأن معركة التنوير العربي القادم لن تكون أقل صعوبة وخطورة من معركة التنوير الأوروبي التي خاضها فلاسفتهم الكبار بدءاً من القرن السابع عشر. لا لن تكون معركة التنوير العربي نزهة مريحة في واد من الزهور، ولن تكون سهلة على الاطلاق. وإنما ستكون عبارة عن مخاض عسير، شاق، طويل، وذلك لأن الأصولية الاسلامية لا تقل شراسة وخطورة عن الأصولية المسيحية، فهي أيضاً راسخة في العقول والنفوس رسوخ الجبال. أخيراً أقول: الآن ابتدأت معركة المعارك، أم المعارك: قصدت معركة التنوير العربي، أي المعركة الحاسمة للذات ضد الذات!
= لماذا اختزلت الثورات الى البعد السياسي فقط؟
– نعم، كلامك صحيح. لقد حصل اختزال للانتفاضات أو للثورات الى البعد السياسي. وحصلت إدانة مشروعة للاستبداد السياسي والأنظمة البوليسية من قبل المثقفين ولكن لم تحصل إدانة واضحة للاستبداد الديني أي للجماعات التكفيرية التي لا تقل خطورة إن لم تزد أضعافاً مضاعفة. لهذا السبب فشل الربيع العربي وفقد مصداقيته. نلاحظ أنهم لا يدينون تنظيمات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة مثلاً. بل ولا يدينون حتى داعش! وإذا ما فعلوا ذلك فيفعلونه من رؤوس الشفاه وغصباً عنهم تقريباً. أقول ذلك وأنا أفكر بمثقفين معروفين يعيشون في باريس أو لندن أو بقية العواصم الأوروبية ويدعون أنهم مناضلون من أجل الحرية والكرامة، بل ومن أجل الديمقراطية وحقوق الانسان! ولكنهم لا يقولون كلمة واحدة عن الطائفية أو المذهبية التي انتعشت كثيراً في ظل ما يدعى بالربيع العربي. كل هؤلاء المثقفين أو الحركيين السياسيين يغضون الطرف عن الاستبداد الديني اللاهوتي. وهو في رأيي أخطر أنواع الاستبداد لأنه في نظر العامة يستمد مشروعيته من السماء. وهو الذي ثار ضده فلاسفة الأنوار الأوروبية لأنهم أدركوا جيداً أنه لا معنى للحرية والديمقراطية في ظل وجوده وهيمنته على الأرواح والعقول. فهو الذي يخلع المشروعية الالهية على الدولة اللاهوتية الثيوقراطية القروسطية القديمة. ويمنع تشكيل الدولة المدنية العلمانية الحديثة التي لا تعامل مواطنيها على أساس طائفي أو مذهبي كما تفعل الدولة الثيوقراطية الطائفية على المكشوف. وبالتالي فلا أفهم كيف يمكن لربيع عربي يقوده يوسف القرضاوي أو راشد الغنوشي أن يكون ربيعاً! ولا أفهم لماذا ينبطح المثقفون العرب أمامه وأمام جماعة الإخوان المسلمين. وفي ذات الوقت يدعون الحداثة والتحديث وقراءة هيغل وماركس! يخضعون للتنظيمات الإخونجية ويرفعون شعارات الحرية والديمقراطية! هل يمكن لتنظيمات تكفيرية تمزق نسيج المجتمع الواحد أن تكون ربيعاً عربياً؟ كل ذلك حاولت التصدي له في هذا الكتاب.
= هل نفهم من كلامك وتحليلاتك عموماً أن التفسير العقلاني للنصوص الدينية لن يحصل قبل أن تبدأ الحركة الإصلاحية داخل المؤسسة الدينية أو اللاهوتية؟
– لا، لا يمكن للمؤسسة اللاهوتية التقليدية كالأزهر وسواه أن تجري الإصلاح المنشود. هذا من رابع المستحيلات. مسبب المشكلة لا يمكن أن يحلها. يكفي أن نلقي نظرة على الصراع المستتر المندلع بين شيخ الأزهر من جهة والرئيس المصري المستنير عبد الفتاح السيسي من جهة أخرى لكي نتأكد من ذلك. ولا ننسى صدامه العنيف والفج مع رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت. نلاحظ أن شيخ الأزهر شخص لا يستطيع تكفير حتى داعش! فشخص كهذا كيف يمكن أن يقوم بالاصلاح الديني؟ لا ، لاخير يرجى من هذه المؤسسات الدينية العتيقة البالية التي عفى عليها الزمن. لماذا؟ لأنها محكومة كلياً بعقلية العصور الوسطى الانحطاطية الظلامية. قارن بين تعليم الدين الإسلامي في الأزهر وتعليم الدين المسيحي في المعهد الكاثوليكي بباريس أو كلية اللاهوت البروتستانتي في ستراسبورغ. فرق ما بين السماء والأرض. لا وجه للمقارنة. هنا، أي في الجهة المسيحية، يحترمون عقلك وهناك يلغونه. هنا يتحدثون عن الدين بناء على ضوء أحدث المناهج العلمية والتاريخية والفلسفية وبعد مرحلة الإصلاح الديني والتنوير الفلسفي ، وهناك أي في الحالة الاسلامية يتحدثون عن الدين وكأن عقارب الساعة لا تدور أو وكأن شيئاً لم يحصل في مجال معرفة الدين ودراسته وفهمه منذ ألف سنة وحتى اليوم. إنهم لا يزالون واقفين عند لحظة الشافعي والغزالي والأشعري وفتاوى ابن تيمية الخ.. أنا أستمتع جداً بقراءة كبار اللاهوتيين المسيحيين من أمثال هانز كونغ وسواه. وعندما اقرأ لهم أشعر وكأني أقرا لفلاسفة لا لرجال دين. انهم لا يفرضون عليك معتقداتهم الدينية فرضاً من فوق وبشكل فج أو إكراهٍ قسري كما يفعل شيوخ الإسلام الذين لا يزالون غاطسين كلياً في عقلية العصور الغابرة. ينبغي أن نعترف بالحقيقة المرّة: للأسف الشديد نحن متخلفون جدا ليس فقط في العلوم الفيزيائية والبيولوجية والتكنولوجية وإنما أيضاً وبشكل خاص في العلوم الدينية. ولكننا نتوهم العكس! لا يوجد فكر جديد حول الإسلام حتى الآن. الشيء الموجود الراسخ هو الفكر التقليدي الطائفي أو المذهبي القديم المجتر والمكرور على مدار القرون . هذا هو الفكر المُدرس حتى الآن في الأزهر أو كليات الشريعة والمعاهد الدينية التقليدية التي لا حصر لها ولا عد والتي تخرج الأصوليين بالمئات والآلاف سنوياً . هذا ناهيك عن مدارس الطالبان والظلاميات المطبقة. شيء مخيف. وما دام هذا التعليم الديني القديم راسخاً ومسيطراً فلا حل ولا خلاص. لم يحصل في العالم العربي تنوير قوي كما حصل في أوروبا. لم يظهر فلاسفة كبار يضاهون فلاسفة أوروبا من أمثال ديكارت وسبينوزا وفولتير وديدرو وجان جاك روسو وكانط وهيغل ونيتشه وبول ريكور وهانز كونغ في عصرنا الحاضر. هؤلاء هم الذين أخرجوا أوروبا من ظلمات العصور الوسطى الى أنوار العصور الحديثة. وعندئذ أصبحت الدولة المدنية والحرية والديمقراطية وفكرة المساواة في المواطنة شيئاً ممكناً. لا يوجد أي فكر عقلاني عن الدين في العالم العربي. لا يوجد إلا الفكر القديم الموروث. لا أحد يستطيع أن يأخذ مسافة معينة عن العقائد الدينية التي تشربها مع حليب الطفولة لكي يراها على حقيقتها كما هي بالضبط. لا أحد يتجرأ على انتقاد ما تلقاه من عقائد دوغمائية في طفولته من طائفته أو دينه أو مذهبه. هذا لا يعني أني أدعو الى مهاجمة الإسلام والعقائد الدينية! فالإسلام هو أحد الأديان الكبرى للبشرية. وهو يحتوي على كنوز من المعارف والتجارب والحكم ومكارم الأخلاق. ولكنه يحتوي أيضاً على الجانب الآخر المظلم والمقلق والذي أصبح يُرعب العالم: أي فتاوى التكفير والجهاد والحرب والضرب. يضاف الى ذلك أن التراث الإسلامي غير مدروس علمياً حتى الآن على عكس التراث المسيحي في أوروبا. المكتبة الفرنسية تحتوي على آلاف الكتب التي تدرس المسيحية من وجهة نظر تاريخية وعلمية وفلسفية. فما بالك بالمكتبة الانكليزية أو الألمانية؟ بالطبع هناك الكتب التبجيلية التقليدية التي تملأ الأديرة والكنائس. وهي مشروعة أيضاً. ولكن هناك الكتب التنويرية النقدية الرائعة للعقائد المسيحية. أما عندنا فلا توجد إلا الكتب التبجيلية التقليدية عن الإسلام. هنا يكمن النقص المريع في المكتبة العربية. الثورة الحقيقية سوف تحصل، أو قل الربيع العربي الحقيقي سوف يحصل، عندما تظهر كتب جديدة عن الإسلام تعادل كتب سبينوزا وفولتير وروسو وكانط وارنست رينان الخ عن المسيحية. عندما يظهر كتاب واحد له معنى عن الإسلام فسوف أصفق له وأنحني أمامه دون نقاش وسوف أقول بأن الربيع العربي قد انطلق حقاً. هذا هو المعيار الوحيد على حصول تغير حقيقي في العالم العربي، هذا هو المؤشر الأكبر على أن التاريخ ابتدأ يتحلحل، على أن حركة التاريخ انطلقت ليس فقط في العالم العربي وإنما أيضاً في العالم الكردي والتركي والإيراني والباكستاني أي في العالم الإسلامي ككل. أتمنى لو يظهر كتاب واحد عن الإسلام يعادل كتاب سبينوزا: مقال في اللاهوت السياسي. وهو يسلط الأضواء النقدية الساطعة على المعتقدات اليهودية والمسيحية. أتمنى أن يظهر كتاب واحد عن الإسلام يعادل كتابات جان جاك روسو أو فولتير عن المسيحية. أتمنى أن يظهر كتاب واحد يعادل كتاب كانط: الدين ضمن حدود العقل فقط. وكل هذه كتب ظهرت قبل مائتين أو ثلاثمائة سنة! فما بالك بكتب ارنست رينان التي أحدثت ضجة كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لأنه طبق المنهج التاريخي على المسيحية وحياة يسوع لأول مرة؟ وما بالك بالكتب التي ظهرت في القرن العشرين أو الحادي والعشرين عن تجديد فهم المسيحية على ضوء العصر والمكتشفات العلمية؟ تجديد الفكر الديني متواصل في الغرب على مدار الساعة. وجمود الفكر الديني متواصل في العالم العربي منذ ألف سنة وحتى الساعة.
هناك استثناء وحيد: وهو أن تجديد الفكر الإسلامي حاصل فعلاً ولكن ليس في العالم العربي ولا الإسلامي وانما في العالم الغربي الأوروبي – الأميركي. إنه حاصل يومياً في الجامعات الكبرى كالسوربون وشيكاغو وبرنستون الخ حيث تتوفر حرية التفكير عن الدين. نعم إن تجديد الإسلام حاصل ولكن ليس في اللغة العربية وإنما في اللغات الاستشراقية الكبرى كالفرنسية والانكليزية والألمانية. ومع ذلك فما نزال نشتم الغرب ونشتم الاستشراق الذي كان له فضل تطبيق المنهج التاريخي الحديث لأول مرة على تراثنا الإسلامي، وبالتالي بدلاً من أن نشكره فاذا بنا نشتمه ونلعنّه ونصب جام حقدنا عليه ، يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.. مؤخراً ظهر في باريس كتاب موسوعي وجماعي ضخم بثلاثة آلاف صفحة عن القرآن بعنوان: قرآن المؤرخين. وهو يحقق اكتشافات مذهلة عن الكتاب المؤسس للإسلام. فمن سمع به؟ ثم وهذا هو الأهم: من يتجرأ على ترجمته الى اللغة العربية؟ نعم تجديد الإسلام موجود وبشكل رائع ولكن على يد كبار المستشرقين الأكاديميين لا على يد المثقفين العرب الغارقين في الأدلجات السهلة والديماغوجيات.
= هناك معركة على التأويل والتفسير بين التيار العقلاني وخصمه التكفيري. أي دور يمكن أن تلعبه المؤسسات الجامعية على هذا المستوى؟
– سؤال وجيه وسوف أجيب عنه على النحو التالي: ينبغي تدشين كليات لعلم الأديان أو لتاريخ الأديان المقارنة في كل الجامعات العربية. عندئذ سوف تندلع معركة التأويل على مصراعيها بين التيار العقلاني وخصمه التكفيري. أما في الحالة الراهنة للأمور فلا يوجد في الساحة الا التأويل التكفيري الظلامي القديم للإسلام. إنه يسيطر سيطرة كاملة على العقول والأرواح ولا أحد يتجرأ على مواجهته. ومن هذه الناحية لا يوجد فرق بين الجامعات الحديثة وكليات الشريعة القديمة. لا أحد يتجرأ على أن يفتح فمه مجرد فتح عندما يتعلق الأمور بالشؤون الدينية. لا أحد يستطيع أن يقول كلاماً آخر عن الإسلام غير الكلام التقليدي الموروث والمكرور منذ مئات السنين. لا يستطيع أي مثقف عربي أن يناظر أي شيخ دين على الفضائيات أو شاشات التلفزيون. إنه مغلوب سلفاً. وذلك لأن الشيخ سوف ينهال عليه بجملة المواعظ واليقينيات المقدسة المعصومة التي لا يستطيع أحد أن يناقضها أو حتى يناقشها مجرد مناقشة. وعندئذ سوف يفحم الشيخ المثقف الحداثي ويخرسه حتى قبل أن يفتح فمه. وإذا ما فتحه فسوف يوافق على كلام الشيخ وينبطح أمامه ويقبل يده وإلا اتهموه بالزندقة والارتداد عن الاسلام. ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر الى الأبد.
ولذلك أقول: سوف تحصل زلازل فكرية في العالم العربي مستقبلاً. وأولها وأعظمها زلزال يخص القرآن ذاته حيث ستنكشف تاريخيته لأول مرة. وهذا الزلزال سوف يصعق العالم العربي والاسلامي كله في الصميم. لا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك الآن ولا أن أغامر بنفسي أكثر مما غامرت. بلى سأغامر وأتهور وأقول ما يلي: حتى الآن لم يظهر من القرآن الا جانب واحد هو الجانب الإلهي السماوي العالي المتعالي. ولكن في السنوات القادمة سوف يظهر الجانب الآخر المطموس كليا منذ ألف سنة أي منذ انتصار الحنابلة على المعتزلة وأقصد به: الجانب الأرضي البشري التاريخي. فالقرآن نص له علاقة بالبيئة والظروف التاريخية التي ظهر فيها: أي الجزيرة العربية والقرن السابع الميلادي. كل مفرداته وصياغاته التعبيرية وحيثياته وأسماء الأشخاص والأعلام والأماكن الواردة فيه تدل على ذلك. كما أن له علاقة وثيقة جدا بالكتب التي سبقته: أي التوراة والانجيل على وجه الخصوص. قصص بني إسرائيل وموسى ابن عمران وعيسى ابن مريم وهارون وزكريا ويوسف ويعقوب وداود والأسباط الخ تملأ القرآن كله تقريباً من أوله الى آخره. تاريخية القرآن سوف تنكشف تدريجيا كما ينقشع الضباب عن عمق الوادي. والحقيقة الهائلة المطموسة منذ ألف سنة سوف تُقدم للمسلم على دفعات أو جرعات متلاحقة والا صعقته أو قتلته في أرضه. ليس من السهل تحمل وطأة الحقيقة وبخاصة اذا كانت حقيقة عظمى ثم بشكل أخص إذا كانت مطموسة طيلة كل تلك الفترة الطويلة. نعم سوف ينزل القرآن الكريم يوماً ما من السماء الى الأرض. وسوف تنكشف علاقته المباشرة أو غير المباشرة بالحيثيات الأرضية. ولكن تحمل ذلك سوف يكون أصعب علينا من تجرع السم الزعاف. لذلك أقول بأن هذه الحقيقة الضخمة، هذه الحقيقة الهائلة، هذه الحقيقة المخفية، سوف تنكشف تدريجياً على دفعات وإلا صعقتنا في أرضنا. تأمل يا أخي الكريم بالأطروحة التالية: يمكن القول بمعنى من المعاني بأنه لم يظهر في اللغة العربية حتى الآن الا كتاب واحد هو القرآن. على مدار ألف وأربعمائة سنة لم يظهر إلا كتاب واحد. في السنوات القادمة قد يظهر كتاب ثان. بهذا المعنى أقول بأنه سيظهر وحي جديد في اللغة العربية لاحقاً. لا أقصد بذلك أن القرآن سوف يُلغى أو يفقد مفعوله أو يحل محله قرآن جديد. معاذ الله. القرآن سوف يبقى على مدار الأزمان. ولكن تفسيره سوف يختلف كلياً. لأول مرة سوف يظهر التفسير الحقيقي للقرآن. لأول مرة سوف يظهر الوجه الحقيقي للقرآن. وبظهوره سوف تنبثق شموسٌ وأضواء لا تكاد تُصدق. بظهوره سوف تنعتق أرواحٌ ونفوس. هذا هو الحدث – الزلزال المنتظر. بهذا المعنى أقول بأنه سيظهر وحي جديد في اللغة العربية لاحقاً. نقصد بالوحي هنا أن المعنى الحقيقي للقرآن سوف ينكشف (أو يُوحى به) لأول مرة. وهذا هو المعنى الأصلي لكلمة وحي في اللغة العربية: أي الظهور الصاعق أو الانكشاف والتجلي المتدرج. إذا ما حصل ذلك فسوف نتحرر عندئذ من تلك الهيبة العظمى الساحقة أو الرهبة اللاهوتية التي تسيطر علينا عندما نفتح القرآن وتمنعنا من رؤيته كما هو: أي كنص لغوي له علاقة بالزمان والمكان. سوف نتحرر بشكل خاص من رُهاب آيات القتال وكذلك الآيات التكفيرية العنيفة الواردة في النص الأعظم للإسلام. ولن نعود نكفر الآخرين بجرة قلم اعتماداً عليها كما هو حاصل الآن بل وعلى مدار القرون المتطاولة. عندئذ سنتمكن من التفريق بين الآيات الكونية التسامحية الأخلاقية العليا في القرآن/ والآيات التكفيرية الغاضبة الخاصة بظروف عصرها الصراعية فقط. القرآن قرآنان: قرآن تسامحي/ وقرآن تكفيري، قرآن منفتح/ وقرآن منغلق، قرآن تنويري/ وقرآن ظلامي. ولكن للأسف لم يأخذ الفقهاء منه الا البعد الثاني أي التكفير والانغلاق والحرب والضرب. بل واعتبروا آيات التسامح والانفتاح منسوخة من قبل آيات التكفير والقتال! كلما كانت الآية عنيفة، ساحقة ماحقة، أعجبتهم. أما آيات التسامح والصفح والغفران والاعتراف بالأديان الأخرى بل والتودّد لها أحيانا فلا تعجبهم لأنها “رخوة” في نظرهم. وبالتالي فلا تليق بالإسلام الذي ينبغي أن يتسم دائماً بالقوة والجبروت وإرعاب الآخرين وإجبارهم على اعتناقه تحت حد السيف وإلا فهم كفرة فجرة لا يستحقون إلا قطع الرؤوس.. وساد هذا المفهوم القروسطي المتشدد على مدار القرون وعم الأجيال العربية والاسلامية كلها. ولذلك نلاحظ أن الثقافة الدينية السائدة في العالم العربي حالياً بكل مدارسه وجامعاته وفضائياته وبالطبع جوامعه ومساجده هي ثقافة ظلامية مُرعبة تحولت الى مشكلة عالمية في وقتنا الراهن. وماذا يمكن أن نقول عن مدارس الطالبان في أفغانستان والباكستان! شيء مخيف وظلام ما بعده ظلام. هذا ماشرحته مطولاً على مدار الكتاب.
أضيف هنا ما يلي: اني ضد الرسوم الكاريكاتورية وبقية الاستفزازات التي تصدر عن اليمين المتطرّف في الغرب ضد النبي والقرآن والإسلام عموماً. ولكن ينبغي أن يعلم المسلمون ما يلي: ما دام تراثهم يحتوي على آيات وأحاديث وفتاوى تحل تكفير الآخرين وقتلهم شرعاً فسوف يجابه بالعداء والكره على مدار العالم بأسره. وبالتالي فالكرة في ملعبنا. لنحاول تنظيف تراثنا من هذه المقولات التكفيرية القديمة ولنقدم عن ديننا صورة تسامحية تنويرية وعندئذ لن يعود أحد يتحرش بنا. أساس المشكلة يكمن هنا. وبالتالي فكفانا صراخاً وزعيقاً: اسلاموفوبيا! اسلاموفوبيا! سوف تظل الاسلاموفوبيا سائدة ما دام هذا الدين يقدم عن نفسه صورة كريهة بل ومرعبة للآخرين. ينبغي العلم بأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يخيف العالم حالياً بشرقه وغربه من خلال الجماعات التكفيرية التي لا حصر لها ولا عد: النصرة، القاعدة، داعش، التكفير والهجرة، جيش الإسلام، جيش محمد الباكستاني، لواء التوحيد، حراس الدين، بوكو حرام، جماعة وحرض المؤمنين، وعموما كل التنظيمات المتفرعة عن الجماعة الأم: الأخوان المسلمين. كل الجوانب التنويرية المشرقة من تاريخ الإسلام غائبة أو مغيبة أو مطموسة حالياً من قبل هذه الجماعات الظلامية المتطرفة.
= من أين تستمد التفاؤل ونحن نفتقر الى من يشخص مرضنا الحضاري؟ بما أنه لا يوجد عندنا فلاسفة في حجم ديكارت وسبينوزا الخ؟
– يا أخي الكريم سوف أقول لك ما قاله الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. الانسان لا يستطيع أن يعيش بدون أفق، بدون مستقبل، بدون أمل. إذا كان الوضع الحالي مسدوداً فهذا لا يعني أنه سيظل مسدوداً الى أبد الدهر. سوف يظهر فلاسفة عرب أو مسلمون يقبلون بمناقشة العقائد الدينية كما حصل في أوروبا بدءاً من القرن السابع عشر. والواقع أنهم ظهروا في الماضي. فالمعري كان ناقداً عظيماً للعقائد الموروثة. رسالة الغفران يمكن اعتبارها بمعنى ما أكبر استهزاء بالعقائد الدينية الجماعية للمسلمين. ولكنه استهزاء عبقري، مكبوت أو مكتوم تحت ستار التقية. بهذا المعنى فالتنوير العربي الإسلامي ظهر قبل التنوير الأوروبي بعدة قرون ولكنه توقف فجأة للأسف الشديد. ولكن المعري كان يصرح أحيانا بشكوكه وتساؤلاته ولا يكتمها دائماً. وكان قادرا على أن يتخذ مسافة واضحة عن المعتقدات الدينية التي تلقاها وتشربها مع حليب الطفولة كما يقال. كان قادراً على أن يضع المعتقد المسيحي على قدم المساواة مع المعتقد الإسلامي وهو المسلم أبا عن جد! وإلا فكيف يمكن أن نفهم أبياته الشهيرة التالية:
في اللاذقيـة ضجــةٌ / ما بين أحمد والمسيح
هـذا بنـاقــوس يـدق / وذا بمئــذنــة يصيــح
كلٌ يؤيد ديـنه / يا ليت شعري ما الصحيح؟
هذه الأبيات تؤسس لتاريخ الأديان المقارنة بالمعنى الحديث للكلمة. انها تدل على أن المعري كان متحرراً من التقليد المتحنط والمتكلس والمتحجر. كان متحرراً من تلك اليقينيات التراثية العدوانية التي تقول بأن هذا الدين أفضل من كل ما عداه، وأنه وحده الصحيح وبقية الأديان ضلال في ضلال، أو مزورة أو محرفة الى آخره.
وأخيراً سأقول ما يلي: إذا لم يكن عندنا مثقفون في حجم ديكارت وسبينوزا وفولتير وديدرو الخ لكي يحرروننا من تراثية التراث ودوغمائيته وتحجره فإنه يكفي أن نترجم أعمال كبار المستشرقين الأكاديميين لكي نتحرر. إني أعرف أني سأثير عاصفة من الغضب بهذا الكلام. ولكن لايهم. هذه هي الحقيقة. تنوير التراث الإسلامي يحصل الآن في الغرب لا في الشرق. بل وحتى المثقفين العرب أو المسلمين فإنهم مضطرون للهجرة الى الغرب إذا ما أرادوا أن يفتحوا فمهم ويقولوا كلمة واحدة لها معنى عن الدين الإسلامي. أنظر حالة الباكستاني فضل الرحمن، أو الجزائري محمد أركون، أو التونسي عبد الوهاب المؤدب، أو الايراني داريوش شايغان، على سبيل المثال لا الحصر. وبالتالي فالتنوير موجود ولكنه غير معروف أو غير مترجم بشكل كاف الى العربية أو الكردية أو التركية أو الفارسية الخ.. كل النهضات الكبرى قامت على أكتاف الترجمات الكبرى. فلنترجم اذن، يا أخي الكريم، فلنترجم!
= مشروع التنوير يتطلب حاضنة ينطلق منها. هل ثمة مكان من المتوقع أن يتحول الى منصة للاستنارة في الوقت الراهن؟ نقول ذلك وبخاصة أن عددا من الحواضر أو العواصم العربية التاريخية تعاني من أزمات طاحنة؟
– يا أخي الكريم الحاضنة هي هذا الفضاء الواسع الذي يجمعنا الآن ونحن نتحاور عن بعد دون أن نعرف بعضنا بعضاً بشكل شخصي. إنه يجمعنا على الرغم من بعد الديار والمسافات. الحاضنة هي صفحات الويب أو الأنترنت. بعد ثورة المعلوماتية الحديثة لم نعد بحاجة الى مكان محدد لكي ننطلق منه. لم نعد بحاجة الى دمشق أو بغداد أو القاهرة أو بيروت الخ.. مكاننا أصبح أوسع بكثير أو بما لا يقاس. مكاننا أصبح العالم بأسره. التنوير العربي أو الإسلامي سوف يظهر هنا. نقول ذلك وبخاصة أن الانترنت يتيح لك مساحة من الحرية لا تتيحها لك جامعات العالم العربي قاطبة.
لتوضيح كلامي بشكل أفضل وعلى سبيل النكتة الرائعة سوف أقول ما يلي: عندما سمع فولتير بأن الأصوليين الظلاميين يضيقون على ديدرو ويهددونه بسبب الموسوعة الشهيرة التي اتهموها بالكفر والإلحاد اتصل به وقال له: أترك باريس فورا وتعال الى هنا، الى منطقة محررة من اللاهوت والكهنوت عند الملك المستبد المستنير فريدريك الثاني. فقد أعطانا مكاناً أو حيزاً كافياً لكي نفكر فيه بحرية وننتقد العقائد الدينية كما نشاء ونشتهي. وهو مستعد لحمايتنا إذا ما فكر الأخوان المسيحيون المتطرفون بالاعتداء علينا جسدياً. ولا يلزمنا إلا مطبعة لكي ننشر كتبنا و نطلق صواريخنا ضد الظلامية والظلاميين. ولا زائد لمستزيد!
* كاتب وناقد كردي
المصدر: المدى
التعليقات مغلقة.