صقر أبو فخر*
رحل عن عالمنا في الفاتح من الشهر الجاري (أيلول/ سبتمبر) في بيروت البروفيسور أنطوان زحلان، أحد أبرز العقول الفلسطينية الذي عمل طويلًا على الحدّ من هجرة العقول العربية إلى دول الغرب. ولعله، هو نفسُه، قد نجا من إغراء الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من الويلات التي مرّ بها لبنان منذ العام 1975، فعاش سني حياته المديدة مكافحًا في سبيل تحقيق الأفكار التي نشرها أو عرضها على أصحاب القرار العرب. واللافت أن قليلين من الجيل الفلسطيني الذين ظهروا بعد النكبة في 1948 قد درسوا علومًا بحتة، وأكاد لا أتذكّر غير أنطوان زحلان الذي درس الفيزياء، والبروفيسور زياد بيضون الذي درس الجيولوجيا. وقد تغير هذا الميل في ما بعد، لأن معظم أبناء الجيل الجديد درسوا علومًا تتيح لهم العمل في دول الخليج، كالاقتصاد والمحاسبة وإدارة الأعمال، علاوة على التاريخ والأدب، وكذلك الطب والهندسة والمختبرات الطبية. وقد برز في الاقتصاد برهان الدجاني ويوسف صايغ وعصام عاشور وسمير صيقلي، وفي المحاسبة جورج عويضة وفؤاد سابا وطلال أبو غزالة، وفي عالم المصارف يوسف بيدس ورفعت النمر وعبد السلام أبو عيسى وآل شومان، فيما برع في ميدان المقاولات حسيب صبّاغ وسعيد خوري وزهير العلمي. أما الحقول الأكثر ألفة للفلسطينيين فكان التاريخ أوّلَها، حيث اشتُهر فيه وليد الخالدي ونقولا زيادة وأنيس صايغ وزين نور الدين زين، إضافة إلى الصحافة، حيث برز غسان كنفاني ونبيل خوري وشفيق الحوت وسمير قصير وإلياس صنبر وكثيرون غيرهم.
كان أنطوان من النخبة الفلسطينية القليلة التي لم تنطوِ على عالمها الأكاديمي، أو تنغلق على تخصّصها العلمي، فامتاز من غيره من الإنتلجنسيا الفلسطينية بأنه امتلك رؤية قومية كانت تحرّض، بالفكر والعمل، على ربط العلم بالمجتمع، من خلال توطين العلم في قضايا السياسة، وزرع طرائق التفكير العلمي في رؤوس أصحاب القرار. وفي هذا المجال، شدّد أنطوان زحلان على العلاقة التفاعلية بين العلوم ونطاقها الاجتماعي والنهضة الموعودة، وكان له شأن في تأسيس حقولٍ معرفيةٍ جديدة، كالدراسات المستقبلية واستشراف مآلات ما يطمح العرب إليه. ولم تبقَ أفكار أنطوان زحلان مجرّد أفكار ترفرف فوق الواقع، أو ترنو من بين صفحات الكتب والمجلات، بل أراد لها، منذ البدايات، أن تتجسّد في مؤسساتٍ علميةٍ حيوية، يكون لها تأثير جدّي في تفكير صانع القرار السياسي. وعلى سبيل المثال، تمكّن أنطون زحلان، ومعه وليد الخالدي وبرهان الدجاني، من إقناع الملك حسين بضرورة تأسيس جمعية علمية عربية تعنى بدراسة الفجوة المعرفية الفاغرة بين العرب وإسرائيل التي فضحتها هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967. وعندما وافق الملك على الفكرة اشترط أن يكون الثلاثة فرسان المشروع الجديد، فاستقال أنطوان زحلان من الجامعة الأميركية في بيروت في 1969، وتفرّغ للعمل في الجمعية التي صار اسمها “الجمعية العلمية الملكية”. غير أن حوادث سبتمبر/ أيلول 1970، والنتائج الكارثية التي خلّفتها، ألجأت الثلاثة إلى الانسحاب من مجلس أمناء الجمعية، وعاد زحلان إلى الجامعة الأميركية في بيروت.
ثابر الخالدي وزحلان والدجاني، تحت إلحاح العلم وحميّة العلم، على إقناع حسيب صبّاغ بتبني المشروع وتمويله، فظهرت “مؤسسة المشاريع والإنماء العربي” التي تولى زحلان فيها موقع المدير العام. وقد أنجزت المؤسسة مسحاً شاملاً للطاقة البشرية العليا في العراق. بيد أن تلك المؤسسة توقفت عن العمل في 1976 غداة انفجار الحرب الأهلية اللبنانية. وهكذا صحّ منه العزم لكن الدهر أبى، فكانت السياسة تعيق العلم، وتجهض السعي إلى إحلال العلم والتفكير العلمي في محل التفكير السلطوي والتسلطي.
ولد أنطوان زحلان في حيفا عام 1928، واضطر إلى اللجوء مع عائلته إلى لبنان غداة نكبة 1948، وسكن الجميع في بلدة عاليه الجبلية، أي أنه كان شابًا في العشرين حين وقعت النكبة. وقد حاز الماجستير في الفيزياء من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1951، ثم الدكتوراه من جامعة سيراكيوز في سنة 1965، وتدرّج في مواقعه العلمية، حتى تولى رئاسة دائرة الفيزياء في الجامعة الأميركية في سنة 1969، وكان قد تزوج روز ماري سعيد، شقيقة إدوارد سعيد، فصار بذلك عديلاً للأستاذ الجامعي والوزير السابق في لبنان، سمير المقدسي.
سعى زحلان إلى تحويل الأفكار إلى مؤسّسات؛ ففضلًا عن الجمعية العلمية الملكية في الأردن، ترأس الجمعية الفيزيائية العربية في 1975. وكان قد نظّم أول مؤتمر للعقول العربية المهاجرة في مصيف بلودان في سورية سنة 1970. وله في ميدان التأليف: العلم والتعليم العالي في إسرائيل (1970)، العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي (1979)، العلم والتكنولوجيا في الصراع العربي – الإسرائيلي (1981)، البعد التكنولوجي للوحدة العربية (1985)، العرب والعلم والثقافة (1988). وأسس أنطوان زحلان بنك الأدمغة العربية في المهجر التابع لجامعة الدول العربية، وعمل خبيرًا في نقل التكنولوجيا لدى اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة، ونال جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية.
كانت حكمة زحلان دائمًا أن المرء إما أن يكون جذرًا أو ثمرة، غير أن الثمرة إذا وُضعت في الماء، أي في المجتمع، تتخمج أحيانًا، لكن الجذر يُنتج فروعًا وأوراقاً وأغصانًا وثمارًا. وأنطوان زحلان أراد دائمًا أن يكون جذراً، لكن حال الأمة العربية التي لا تنفكّ متدهورة منذ أكثر من خمسين سنة، خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة، جعلت أنطوان زحلان مثل بطريرك في مكة أو مثل مؤذّن في مالطا، فجميع الأفكار التي دعا إليها، والمؤسسات التي أنشأها، باتت خارج التداول، ذلك لأن الخطر على الأمة العربية ما عاد يتمثّل في هجرة الأدمغة العربية إلى أوروبا وأميركا فحسب، بل في تزاحم العرب زرافاتٍ ووحدانًا على الهجرة إلى كل مكان فوق هذه البسيطة، بعدما صارت الحياة الكريمة عزيزة في معظم ديارنا الموبوءة بالتسلط والقهر والفقر، وبعدما صار لسان حال الشبان العرب يردّد الأبيات التالية خلافاً لما كان يدعو إليه زحلان:
ترحّل عن بلاد فيها ضيمٌ/ وخلِّ الدارَ تنعى مَن بناها
فإنك واجدٌ أرضًا بأرضٍ/ ونفسُك لم تجدْ نفسًا سواها
* كاتب وباحث سياسي فلسطيني
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.