محمود الريماوي *
عزا سودانيون ضعف الاهتمام العربي والدولي بمأساة فيضان النيل في بلدهم إلى أسبابٍ يتقدّمها تقصير محلي رسمي، وضع هذا الحدث بعيدا عن دائرة الضوء، على الرغم من إعلان حال الطوارئ، وذلك مقارنة بانفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب الماضي) الذي اجتذب اهتماما فائقا على مستويات عدة. وواقع الحال يدل على أن العالم العربي قلما يحفل بمجريات الحياة في السودان، ولو أن كارثة الفيضانات أخيرا قد أثارت اهتماما ملحوظا، ولو على مستوى التعاطف المعنوي والتضامن الوجداني، لكان ذلك أمرا استثنائياً وخارقا للعادة. إذ جرت العادة على النظر إلى هذا البلد العربي أنه يقع على هامش الاهتمامات، وأن الأنباء التي تتعلق به لا تثير الاهتمام، إذ قلما تتعلق بإنجازاتٍ في أيٍّ من ميادين الحياة. وهي نظرة متراكمة ذات جذور شبه عنصرية، تتعلق، في جانب منها، بلون بشرة السودانيين، وتصنيفهم على انتمائهم القارّي لا على هوية قومية عربية. وعلى مدى عقود طويلة، اقترن سودانيون في أفلام مصرية ومسرح خليجي بالعوز ورقّة الحال وضعف الطموح وامتهان أدنى المهن، حيث يتم وضعهم في خدمة الآخرين. وليس معلوماً ولا ملحوظاً إن كانت هذه الصورة النمطية السالبة و”المتصلبة” قد أثارت احتجاجاتٍ سودانية جدّية وصريحة، أو توضيحات وتعقيبات من أصحاب الشأن.
وفي التحقيق المهم الذي نشره موقع “الجزيرة نت”، قبل أيام، عن الحدث، بدا من تمّت دعوتهم للحديث غير مُفاجئين بالسلبية العربية والدولية تجاه الكارثة، وذلك جيدٌ من زاوية النظر الواقعي إلى الأمور، وقد لامس بعضهم، مثل الشاعر والسينمائي، أمجد النور، مسألة حيوية، وهي ضعف الرصد أو المواكبة الإعلامية التقنية من داخل السودان لمظاهر الكارثة، فيما حمل مشهد انفجار مرفأ بيروت بذاته قدرا هائلا من “الآكشن” كيفما صُور هذا الانفجار، ومن أية زاوية كانت، كما قال. بينما بدت الصور التي تم نقلها لمظاهر الفيضان رتيبة ومتشابهة وفاقدة للمؤثر البصري، والأنكى أنها ظهرت كأنها تكرار لأطوار سابقة من فيضانات النيل. وحتى كتابة هذه السطور، تمثلت الخسائر بوفاة 103 أشخاص وإصابة خمسين، حسب وزارة الداخلية السودانية، إضافة إلى 27 ألفا و341 منزلًا، انهارت كليا، فيما انهارت بشكل جزئي 42 ألفًا و210 منازل”، إضافة إلى “تضرّر 179 مرفقًا، و359 متجرًا ومخزنًا، ونفوق 5482 رأس ماشية”. وهذا من دون احتساب ظهور الأمراض والأوبئة وتلف المحاصيل وانهيارات الطرق التي يتسبب بها فيضان دام أسابيع.
وقبل هذه الكارثة التي اخترق فيها الفيضان سبع ولايات، كان السودان يجاهد للخروج من عنق الزجاجة. ويتعرّض، في الوقت ذاته، إلى ضغوط لحمله على التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ثمنا لرفع اسمه عن قائمة الدول الداعمة للإرهاب. وقد أحسن رئيس الحكومة، عبدالله حمدوك، صنعا حين أخبر وزير خارجية أميركا، مايك بومبيو، الذي بدا موفدا من تل أبيب لا من واشنطن، إن حكومته انتقالية، وليس من صلاحياتها اتخاذ قراراتٍ على هذا المستوى… وفي جوانب هذه المأساة، ما أفضى به وزير الري والموارد المائية، ياسر عباس، إن “حدّة الفيضان كُسرت هذا العام بتخزين المياه في سدّي الروصيرص ومروى”، موضحا أن هذا “كان له الأثر الكبير في تخفيف حدة الكارثة”.. غير أن الوزير لم يتحدث عن الحاجة أو النية إلى بناء سدود أخرى لتفادي تكرار الكارثة، بينما أشار إلى توقع إيجابي مفاده “ألا تحدث فيضانات في السودان بعد اكتمال تشييد سد النهضة الإثيوبي”، وذلك وفق وكالة الأنباء السودانية (سونا)، وهو ما يخالف الرؤية السودانية التي تحذّر من انعكاسات اكتمال بناء سد النهضة. وتبقى المفارقة أنه في الوقت الذي توقع فيه العالم تأثر منسوب النيل بالانخفاض في الأراضي السودانية في ضوء ما تم إنجازه من سد النهضة، إلا أن النتيجة كانت معاكسة، وهي حدوث فيضانات، وقد عزاها الوزير عباس إلى هطول الأمطار على الهضبة الأثيوبية (علما أن السودان نفسه شهد هطول أمطار غزيرة في النصف الأول من أغسطس/ آب، ما أدّى إلى حدوث فيضانات وانزلاقات أرضية، ووقوع أضرار في نحو خمسة آلاف منزل وبنى تحتية في 14 من إجمالي 18 ولاية في البلاد). وهكذا، يخسر السودان في جميع الأحوال، إما نتيجة عوامل طبيعية: الأمطار أو الجفاف، أو لنقص السدود لديه، أو لأن سد النهضة الإثيوبي لم يكتمل، أو حين يكتمل بناؤه..
وإذ يستحق السودان، مثل غيره من الدول، دعم هيئات دولية أقيمت لأغراض مد يد العون، مثل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) والصليب الأحمر الدولي وسواها من هيئات تتبع الأمم المتحدة، فإنه من الأهمية بمكان أن تتجند القوى السياسية والاجتماعية للخروج من سجالاتها “الأبدية” بشأن هوية النظام السياسي الصالح أو المطلوب، وأن تنصرف إلى مواجهة تحدّيات فعلية وملحة تفرضها الحياة، من أجل إصلاح أحوال بلدهم واستثمار موارده البشرية والطبيعية وتطويرها وجذب استثمارات نافعة ورؤوس أموال سودانية مهاجرة ضمن بيئة قانونية سليمة، ومطمئنة، وذلك بغير انتظار لدعم عربي أو إسلامي، فقد تفكك العالم العربي، ولم تعد تجمعه جامعة ولا ميثاق، ولا أهداف مشتركة، وباتت تسود علاقاته البينية المصالح والمنافع الحسية وأشكال الابتزاز، وفق منطق البزنس، لا منظور العلاقات بين الدول. ولم يعد العالم الإسلامي يسعف ضحيةً مسلماً، هذا إن لم يقم بالتحريض عليه، كما هو الحال مع مسلمي الإيغور في الصين ومسلمي الروهينغا في ميانمار والكشميريين، وغالبيتهم مسلمون.
وربما يجد السودانيون عزاءً في أن ما يتعرّضون له من صدود في المدار العربي جزء من انهيار المناعة الأخلاقية في العمل السياسي العربي، واضمحلال الأهداف القومية المشتركة، واتساع الفجوة بين الحاكمين والمحكومين، والسعي إلى تطوير الديكتاتورية كي تستوي شكلاً من أشكال العبودية، لا مجرد اجتراء أو انتهاك لحقوق أساسية للأفراد والجماعات. وأن الاعتماد على الذات والتعلم من تجارب الآخرين الناجحة يظل القاعدة الذهبية المجرّبة والمدخل الصحيح للخروج من الركود والمراوحة في المكان.
* كاتب، معلق سياسي، قاص وروائي أردني/ فلسطيني
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.