ماهر مسعود *
في كتابه “ألف بساط “A Thousand Plateaus، وهو الجزء الثاني من العمل الضخم لدولوز مع غوتاري “الرأسمالية والشيزوفرينيا”، أبدع دولوز -وهو الذي يعرّف الفلسفة بأنها “فن إبداع المفاهيم”- مفهومًا جديدًا في الفكر الإنساني، هو مفهوم “الجذمور “Rhizome، ويُعدّ هذا المفهوم -باعتقادنا- تجاوزًا مهمًا وأصيلًا لمعظم مفاهيم الفكر والثقافة والفلسفة التي سادت عقودًا في الغرب، وما زالت سائدةً ومهيمنة لدينا في الفكر والفلسفة السياسية، كمفاهيم الديالكتيك والتاريخانية والمادية والمثالية والوضعية والتقدم والهوية والجوهر.. إلخ.
ولكي نفهم معنى “الجذمور”، لا بُدّ من تبيين معنى ضده أولًا، أي مفهوم الشجرة، فالشجرة تُحيل إلى الثبات: جذور تحفر في الأرض، ورأس مُوجّه إلى السماء. العلاقات الشجرية هي علاقات هرمية أحادية، الأعلى فيها أهم من الأدنى، والجذر مؤسس للرأس. وعلى سبيل المثال، كثيرًا ما نجد في بيوتنا لوحات لما يسمى “شجرة العائلة” التي تدل على تعاقب تاريخي، وتراتب أخلاقي، يكون فيها الأب أو الجد هو الأصل، بينما تُستَهلك فيها الأم (المرأة) كمجرّد عبور للفروع التي تستمر مع الأولاد الذكور عبر الأجيال، وتُستهلك فيها الثنائية البدئية (أب، أم)، مثل كل ثنائية، إلى واحدية تحيل إلى شجرة السلالة الذكرية الناصبة جذورها في التاريخ، تبعًا لهيراركية تستخدم الماضي لتسيطر على الحاضر.
على عكس الشجرة التي تقوم على الثنائيات لتغذي الواحدية والهرمية، يقوم الجذمور على التعدد ليغذي الاختلاف. الجذمور هو تشعبات متقاطعة ومتداخلة على السطح، لا جواهر فيها ولا أعماق ولا تراتبية أخلاقية أو قيمية، والجذمور هو تحطيم للهيراركية وفتح للممكنات اللانهائية القائمة في كلّ شخص، والعلاقات الجذمورية هي علاقات لا أهمية فيها للترتيب، أعلى/ أدنى، بل للتركيب فيها اقتدار وفعل وتحرير طاقات، وهي علاقات ذهاب وإياب في كل الاتجاهات، وهي علاقات شبكية، كل نقطة فيها تدفع نحو اتجاه جديد مختلف، وبالتالي لا تتكئ على بداية مقدّسة ونهاية خلاصية.
انطلاقًا من التقديم السابق، لا نرى الثورة السورية، بمعناها الشجري -أي كجوهر كلّي واحد ثابت مندمج ذي هوية أصيلة متشابهة- بدايةً مقدسة تنتظر نهاية جميلة، أو “شجرةً” نسقيها بالدم وننتظر تفاحها الأحمر، أو مقاومة شاملة لا تنتج عادة إلا نموذج السلطة التي خرجت لتجاوزها، بل نرى الثورة السورية ثورات متعددة ومختلفة ومتقاطعة ومتعارضة وغير متشابهة، ثورات جزئية تحطّم وتهدم وتبني وتعيد تشكيل كل فرد وعائلة وبيت ومكوّن وفئة، وكل علاقة بين الأفراد الرجال والنساء، وبين المكونات المجتمعية والدينية والسياسية، وضمن كل واحدة منها، مثل الموالاة والمعارضة، والنظام والشعب. الثورة إذًا جذمورية بلا مركز، ورايزوم ينتج ألف تشعّب، وكل تشعّب ينتج ويتلاقى مع تشعبات جديدة لينتج ظواهر جديدة وانفتاحات مختلفة.
خير من يعبّر عن الثورة -بالمعنى المطروح أعلاه- هو الثورة النسوية السورية، المُباطنة والمتقاطعة والمكمّلة والمتشابكة والمتناقضة أحيانًا مع الثورة السورية، وهي دافع هذا المقال وعنوانه، والثورة النسوية هي واحدة من ألف ثورة وثورة يعيشها السوريون، لكن هذا لا يعني أنها جزء من كلٍّ أكبر منه، كما قد يفهم العقل الهيراركي، بل يعني أنها كلّ موازٍ للثورة ويتقاطع معها جذموريًا، ويتجاوزها نحو انفتاحات جديدة.
هي ثورة تفرض نفسها بقوة حضورها، وبقوة النساء اللواتي يحملن صخرتها فوق أكتافهن، ويدفعن أثمانًا شخصيةً وعامة نتيجة أثقالها منذ البداية، النساء اللاتي يرفضن الصمت بحجة العار والفضيحة الناتجة عن الكلام، ويرفضن دور الضحية المركّب الذي أُعطي لهن من مجتمعنا وتاريخنا وثورتنا ولجوئنا، والأهم هو دور الضحية الذي أُعطي لهنّ من الرجل ليُعلي نفسه فوقهن، قيميًا ووجوديًا، وليقدم نفسه كحامٍ ومخلّص ومنقذ، ولينتهي بالسيطرة على حياتهن، ثم بمطالبتهن بالإذعان، مثل كل الحُماة والمخلّصين عبر التاريخ. وهنّ نساء يرفضن الصورة المجتمعية عنهنّ، والسرديات الذكرية حولهن بالكامل، ليخلقن سردياتهن الخاصة والمستقلة التي تقلب الأدوار وتكشف المخبوء خلف القوة الظاهرة للرجل، وتُبرز الهشاشة خلف الصلابة المعلنة، والدونية خلف التعالي الظاهر، وبكلام آخر: تُبرز الصورة التي طالما أخفاها وحاول كبحها الرجل في تاريخنا، بدافع الخجل من صورته كرجل ضعيف مرَّة، وبدافع المصلحة في السيادة والسيطرة مرَّات.
لنكن واضحين هنا، أو لنكن غير رومانسيين على الأقل، العلاقة بين المرأة والرجل هي علاقة صراعية، مليئة بالرغبات المتناقضة والنزاعات المعقدة، فلا يمكن أن تحصل المرأة على حقوق أكثر وسلطة أكبر، من دون أن يحدّ ذلك من سلطة الرجل، ومن دون أن يفتت ذلك من احتكاره للسلطة. ولكن إذا كان واضحًا أنه من غير الممكن إلغاء ذلك الصراع -وليس المطلوب إلغاءه- فالأجدر جعله صراعًا عادلًا ونديًّا على الأقل، فلا يمكن أن تأتي مدججًا بالأسلحة والسلطة والحقوق التي تملكها وراثيًا، وتصارع خصمًا لا يملك أيًا من تلك الأسلحة أو الحقوق، ثم تسمّي نفسك قويًا وحاميًا ومخلّصًا، لأنه عند التحديق بميكانزمات تلك القوة، ستجدها مماثلة تمامًا لقوة النظام السوري ضد الشعب الأعزل، وهذه يمكن تسميتها همجية أو إبادة أو مجزرة، وهي ليست قوة، فالقوة الحقيقية لا تأتي من قتال غير عادل بهذا الشكل، ولا من انتصار شخص مسلح على آخر أعزل، وعندما ترى النذالة الكامنة في استدعاء النظام لقوته على الشعب وأمامه، على الرغم من ضعفه أمام أنداده، قد ترى النذالة الكامنة أحيانًا في استدعاء رجل لقوته أمام المرأة، على الرغم من ضعفه نديًا، وهذا أيضًا يحتّم علينا السؤال عمّن هو القوي فعلًا في تلك المعادلة.
ليست الثورة النسوية واحدة ولا متماثلة، فلا كل النساء نسويات، ولا كل النسويات متشابهات، والتوجه الأساسي للثورة النسوية هو توجه ضد صورة المرأة ذاتها، وضد تاريخها وأفكارها عن نفسها ودورها في الحياة، قبل توجهها لمعاداة الرجل، ولكن باعتبار الرجل هو الصانع الأساسي لتلك الصورة، إن كان عبر الأديان التوحيدية الثلاث، أو عبر الأيديولوجيات القمعية والدكتاتوريات السلطوية، قد تبدو الثورة كأنها ضد الرجل ذاته، لا ضد سلطته، ولنلاحظ هنا أن النموذج المعتمد للنسوية المتطرفة أو المعتدلة هو نموذج خلقته الثقافة الذكرية ذاتها، فقد مرت أوقات كان فيها لبس الجينز، مثلًا، يُعدّ تطرفًا نسويًا أو استرجالًا أنثويًا، كما أن الخيال الجمعي عن المرأة المتحررة ما زال هو المرأة العاهرة، ولذلك فإن أهم ما تفعله الثورة النسوية هو خلق صورتها الخاصة للاعتدال والتطرف، وخلق نموذجها الخاص للأنوثة في مواجهة المقياس الذكري السائد. وعلى الرغم من ذلك، ليس علينا افتراض حسن النية دائمًا، فقد تكون النسوية معادية للرجل فعلًا، لكن ذلك الجانب من الصورة لا يجب أن يعمينا عن الصورة كلها، فالراديكالية كانت دائمًا جزءًا من جميع الثورات، ووجود تنظيم (داعش)، مثلًا، في الثورة السورية لم يجعل من الثورة كلها جهادية (على الرغم من تطرف المثال والمقارنة ذاتها هنا)، بل على العكس، فقد ساهمت الخلافة الداعشية في تحطيم الصورة الرومانسية في الخيال الإسلامي عن الخلافة، وبيّنت حدودها التاريخية غير القابلة للحياة.
ليس تغيير القيم أمرًا سهلًا أو مريحًا بالضرورة، ويعرف السوريون من تجربتهم صعوبة وأثمان التغيير، إذ لا ثورة بلا ضحايا، ولا تغيير بلا أثمان، وربما أكثر من خَبر ذلك بالتجربة هنّ النساء أنفسهن، خلال الثورة عامة وخلال ثورتهن بشكل خاص. ولذلك نجد من الطبيعي والمتوقع أن يفضّل كثير من النساء الاتكال على الاستقلال، والوجود تحت الجناح، بدلًا من أن يصبحن هنّ الجناح، والبقاء تحت ظل السلطة الذكرية الحامية، على طريقة (ظل راجل ولا ظل حيطة)، بدلًا من مجابهة القسوة والصعوبة والاغتراب الناتج عن حياة الفردية والاستقلال ومتاعبها. لكن هذا لا ينطبق على المرأة وحدها، فقد يكون الوضع الراهن والمؤسس تاريخيًا على البنية البطريركية هو الأنسب لوضعية الرجل، والأوفى لميزان قوته، ولكن، هل هذا فعلًا ما يريده الرجل “القوي”؟ أيريد الحصول على امتيازات موروثة بالولادة، والدفاعَ عن استمرارها بدلًا من الصراع لخلق معنى جديد للذات وأفق جديد للحياة؟ وما الذي يجعل أيًا منّا مختلفًا هنا عن الدكتاتور الذي ملك السلطة والامتيازات بالوراثة، ثم تحول إلى قاتل جماعي عندما جاء من يهدد تلك الامتيازات؟ ذلك السؤال، بتقديرنا، دفع كثيرًا من النساء النسويات وغير النسويات إلى كسر الصورة النمطية عنهنّ، وإلى تعرية القوى الكامنة خلف تلك الصورة، وتعرية أصحاب المصلحة باستمرارها، ليخلقن معاني جديدة وانفتاحات مختلفة، معاني جسدية وشعورية وفكرية عن الحياة والتجربة والعالم المتنوع، وذلك على الرغم من معرفتهن بالأثمان العالية لخلق الجديد، فليس أفضل للمرأة من تعرّف المعنى الرمزي والواقعي، وصعوبة خلق الحياة، وأثمان الخلق، ومن تعرّف أهميته وجماله في الوقت ذاته.
لا شيء سيوقف الثورة النسوية السورية السارية كالماء في ثنايا الواقع، وأحيانًا كالموج، لأنها ثورة تحاكي الواقع والعصر وتلائم شروطه، ولأنها ثورة متعددة جذموريًا، وقائمة على بثّ الاختلاف بدلًا من التمسك بالهوية، ثورة فردية بنتائج جماعية، وثورة بلا رأس أو قاعدة أو بنية هرمية، متشعبة في الداخل والخارج، ومنتشرة في الفضاء الواقعي والافتراضي. هي ثورة تخترق الطبقات الغنية والفقيرة والمتوسطة، والأديان والأقليات والأكثرية وكل التصنيفات الكلاسيكية، وتجمع التجارب الفردية للنساء، وتمزّق السرديات الجمعية القائمة، فهي، في المحصلة، ثورة ضمن الثورة وعليها في وقت واحد.
* كاتب وباحث أكاديمي سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.