لطفي العبيدي *
منذ البداية، استخدمت إسرائيل عملية السلام كأداة لصرف انتباه العالم، بينما كانت تعمل على تكريس أمر واقع على الأرض، في صورة مستوطنات غير شرعية. والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي والسياسات ذات الصلة بحصار غزة، وتجويع الشعب الفلسطيني وتشريده، جعلت من المستحيل إقامة تعايش سلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبالتالي بين تل أبيب وجيرانها العرب، وإن كانوا يراهنون على بعض الحكام وسلاسة انقيادهم، فإن تطويع الشعوب المؤمنة بقضية مقدسة بحجم فلسطين التاريخية، غاية من الصعب الوصول إليها، وتجارب اتفاقيات التطبيع السابقة مع مصر والأردن، خير دليل على استحالة تطبيقها ماديا على الأرض، أو تمريرها في الذاكرة الجمعية لهذه الشعوب.
ويبدو أن جهود الولايات المتحدة، لإحلال سلام يخدم إسرائيل، ومُضيها في التفاوض مع تل أبيب، وبعض القادة الإقليميين حول شروط الاستسلام الفلسطيني، بدل التفاوض مع الفلسطينيين، بشأن تقرير مصيرهم مثل باقي شعوب الأرض، هي التي خلقت العوامل الأخلاقية السيئة، التي أدت بإسرائيل إلى وضع نفسها في موقف مستحيل في نهاية المطاف، وإن تغافل صناع قرارها عن الواقع وحاولوا إقناع أنفسهم بمعطيات سيريالية، أبعد ما تكون عن الواقعية السياسية والتاريخية.
وبالنظر إلى دور الوسيط الذي تلعبه أمريكا منذ عقود، في كل مراحل ما سُمي بعملية السلام أو «الكوميديا التراجيدية» كما وصفها السفير الأمريكي الأسبق لدى السعودية تشاس فريمان، وما تدعيه من جهود لإحلال سلام، يخدم إسرائيل التي لم تكن تؤمن به، فإن أدوارها المشبوهة قد ماتت وتعفنت جثتها.. وهناك من لا يدعها ترقد بسلام، ويعتقد أن فرض أجندة استراتيجية جديدة، وترتيب تحالفات مزيفة، وعقد اتفاقيات وهمية، ومعالجتها إعلاميا بشكل مكثف من شأنه أن يجعل كيانا استيطانيا وُجد بالقوة في الشرق الأوسط «دولة من الشرق الأوسط» تكتسب دعائم وجودها بالفعل من باب التطبيع، والتعامل الدبلوماسي، ويُنسى التاريخ الدموي وعمليات التهجير، ونكبة الشعب الذي أفتكت أرضه كأن لم يكن، ويتم تدشين حلقة من التزكيات المجانية، كاستراتيجية لضمان بقاء إسرائيل، التي زادت سياساتها الإجرامية والعنصرية بدعم أمريكي من عزلتها، ومن سخط المجتمع الدولي عليها.
والتقارب المعلن مع بعض الأنظمة الخليجية، التي لها جدول زمني خاص، قد يتغير الآن، وبات من المرجح أن تتهافت تباعا، إثر البالون التجريبي الإماراتي نحو علاقات أفضل مع تل أبيب، كما كان متوقعا منذ سنوات. وبالطبع، هذا مخيب للآمال، ومرير للغاية بالنسبة للفلسطينيين، الذين أصبحوا أخيرا على دراية واضحة بأن عملية السلام الأمريكية، التي راهن بعضهم عليها وأعطاها من الفرص الكثير، ليست سوى عملية إدارة أزمة، تفتقد النزاهة والحياد، وبلا أفق إنساني، وتعني في جوهرها منع التوصل إلى تسوية سياسية عادلة، أو الدفع باتجاه حل دبلوماسي للاحتلال الإسرائيلي.. ومراكمة من هذا النوع، تفسر رغبة واشنطن في بقاء الوضع كما هو بسلوك أحادي الجانب.
من الواضح أن سياسة أمريكا في الشرق الأوسط مبنية بالكامل تقريبا على المصالح بدل القيم، فهي تعلم أن ما تقدمه لإسرائيل من أسلحة يُوجه لإبادة الشعب الفلسطيني، وقمع نضاله من أجل الحرية. وهي تتماهى مع مثل هذا التصرف، وتدعي أن لا تعسف في استخدام الأسلحة الأمريكية من قبل كيان الاحتلال، موازاة مع دعمها للانقلابات العسكرية في المنطقة، وسكوتها عن خروقات حقوق الإنسان، وتنكيل أنظمة الاستبداد بالأصوات المعارضة، وإنهاء حياتهم داخل السجون. ومع ذلك يروق للأمريكيين إعطاء أسس أخلاقية لسياساتهم، سواء بالنسبة لإسرائيل، أو فيما يتعلق بملفات أخرى. ومازالوا يدعون أن الديمقراطية هي الغاية والرسالة التي يحملونها. تماما كما حدث مع العراق، حيث استبدلوا ديكتاتورية لائكية باستبداد عقائدي، وساهموا في إبعاد الأكراد أكثر من أي وقت مضى عن هياكل الدولة العراقية. وباسم الدمقرطة السريعة أشعلوا حربا دينية إثر أحداث سبتمبر 2001، تمخضت عنها الفوضى والنزاعات الطائفية وتفجير الدول من الداخل، ونمو الجهاد المتطرف بين سوريا والعراق، ليمتد إلى كامل المنطقة. وأصروا على نسف عناصر الإصلاح في إيران، وإعطاء جرعة منشطة لأكثر العناصر الدينية رجعية. وعندما تأتي الانتخابات الديمقراطية بحكومات لا تتفق معها أمريكا أو حلفائها، فإنها تسعى جاهدة إلى الإطاحة بها، والاستعاضة عنها بحكام طغاة أكثر ودا وتزلفا للأمريكي، ولا يبدون ارتيابا أو امتعاضا من الإسرائيلي.
وما يحدث هذه الأيام من استعراض للتقارب، والغبطة التي لاحت على وجوه عرابي الاتفاق الإماراتي الاسرائيلي، إثر هبوط طائرة العال في مطار أبوظبي مقبلة من مطار بن غوريون، لن تغير شيئا في مسار الفشل الذريع لأمريكا في الشرق الأوسط. وستنتهي إلى طريق مسدود، بمثل ما انتهت إليه سياساتها المتعلقة بإسرائيل وفلسطين، وبمشروع نشر الديمقراطية، وتعاملها مع دول الربيع العربي، والانقلاب الذي حصل في مصر، ومفهومها للاستقرار في الخليج وإيران وبلاد الشام والهلال الخصيب، ومقولة الإرهاب الإسلاموي. وفي النهاية كل شيء يجري في المنطقة له علاقة بالنفط، وبحماية إسرائيل وضمان تفوقها العسكري باعتبارها «قاعدة أمامية للقوة الأمريكية» بالإضافة إلى حرص الولايات المتحدة على مكانتها العالمية، وتأكيد تطلعاتها لكسب الهيمنة، من خلال ظهورها في الساحة الدولية بمظهر القوة الإمبراطورية الأكثر صلابة، وهي مجبرة على أن تثبت باستمرار أنها مصرة على المحافظة على سلطانها، في مرحلة التحولات الجيوسياسية الكبرى وتعدد الأقطاب. وإن كان طموحها هذا يبقى مجرد تطلع سياسي ينهل من مجدٍ مضى زمنَ القطب الواحد. وفي ظل الضغوط الإضافية التي سلطها انتشار فيروس كورونا، والكساد الاقتصادي، وتفاقم الأزمات الداخلية، وانقسام المجتمع الأمريكي بفعل العنصرية والعنف السياسي لمرحلة ترامب الشعبوية، فإن التفاؤل النظري في بعض المستويات الرسمية الأمريكية يبقى مجرد عناد ينافي العقل، وهي براهين على انهيار محتوم سيحدث لا محالة.
* كاتب تونسي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.