الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في تلك الليلة الظلماء!

علي الكردي*

     كنا ثلة صغيرة من الأصدقاء. شباب وشابات. عابرون للطوائف والمذاهب والديانات. حالمون بتغيير أنفسنا، واكتشاف ذواتنا. اتفقنا على تشكيل حلقة للتثقيف الذاتي. رحنا نقرأ كتباً متنوعة في مجال الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأدب. نتحاور حولها بشكل دوري، ونشعر بالفرح لحيوية التفاعل واللقاءات. لم يخطر في ذهني، أو ذهن أحد من أصدقائي، أن ما نقوم به هو في نظر الديكتاتور السوري، ونظامه الأمني” جريمة ” يُعاقب عليها.

   في يوم ربيعي مشمس. كنت قد استيقظت للتّو من نومي. جاءت إحدى الصديقات. كانت مضطربة، ومكفهرة الوجه. رفضت دخول البيت، وقالت بارتباك: اعتقل الأمن فلان وفلان وفلانة…مجموعتنا كلها مهددة بالاعتقال.

  أضافت: خذ حذرك، وغادرت على عجل.

  هزّ الخبر كياني. لم أفهم لماذا، وكيف؟!

   لم يكن لدّي أية خبرة في التعامل مع حالة كهذه. سارعت إلى تنظيف بيتي من الكتب، وصور الأصدقاء، ومحاضر الاجتماعات التي ندوّن فيها بعض الأفكار، لكني – على مجرى عادتي – في التردّد، لم أحسم أمري تجاه الخطوة التالية:

  هل عليّ التخفي، والتواري عن الأنظار، أم أن الحملة لن تطالني؟!

  مضت ساعات ذاك النهار بطيئةً.. ثقيلة. تقاذفتني خلالها هواجس وأفكار شديدة الوطأة. في المساء، كنت على موعد مع شقيقتي لحضور حفل في الجامعة. لا أعرف لماذا وافقت على الذهاب معها، رغم الحالة التي أنا عليها. ربما كان سلوكي ذاك، هو شكل من أشكال الهروب إلى الأمام، كي أقنع نفسي أني بمأمن عمّا يجري حولي.

  قضيت ساعات الحفل متوتراً. أعوم في لجّة ضباب كثيف، يحجب عني الرؤية، وسلامة التفكير. كنت مفصولاً عن الواقع. خارج الزمان والمكان. أتقوقع داخل شرنقتي التي كادت تخنقني!

   عدت إلى البيت مع شقيقتي في حوالي الساعة الثانية عشرة ليلاً، متجاهلاً الرنين الداخلي، الذي كان ينبعث من أعماقي منبّهاً بإلحاح إلى خطورة العودة للبيت.

   شاهدت قبل أن نصل البيت ببضعة أمتار، سيارة ” لانجروفر ” مركونة إلى جانب الطريق. أبوابها مشرعة، وأضواءها مشتعلة. كانت تلك السيارات خاصة برجال الأمن، وأن تقف بهذه الطريقة المريبة، بالقرب من بيتي، فهذا يعني أن عناصر الأمن باتوا بانتظاري. لم أطلب من سائق التكسي التوقف أمام البيت تماماً، بل بعد أن تجاوزه بقليل.

   ناقشت الأمر مع شقيقتي همساً:

    ماذا سنفعل؟!

  كان من الصعب عليّ أن أتركها تدخل وحدها، وليس وارداً أن تذهب معي للمبيت خارج البيت، مراعاةّ لمشاعر أسرتي المحافظة، خاصةً وأن ما من وسيلة للاتصال بهم. كذلك رغم كل المؤشرات، لم أكن على يقين كامل بعد، أن المخابرات هم بانتظاري، لذا قررنا دخول البيت!

    كان بيتي يقع في دهليز حارة مغلقة، يتفرع عن شارع ضيق في دمشق القديمة. ما أن دلفنا الدهليز حتى فوجئنا بعناصر مسلّحة من الأمن ينتشرون في المدخل، وأضواء بيتنا المطلّة على الدهليز مشتعلة، رغم أن الوقت بات متأخراً. أيقنت في تلك اللحظة أنني علقت في شباكهم. الغريب في الأمر أن المسلحين لم يعترضوا طريقنا، لأنهم – كما يبدو- كانوا على ثقة: إذا كنت الشخص المعني، فثمة من في الداخل بانتظاري.

   مررنا بهدوء من بينهم، دون أن نبدي أية حركة تثير ارتيابهم، لكن “الأدرينالين” اشتعل في جسدينا بتلك اللحظة، ولا أدري كيف بثواني حسمت ترددّي: أمسكت بيد شقيقتي، التي فهمت على الفور الإشارة، وبدلاً من الانعطاف يميناً باتجاه الدهليز الذي يفضي إلى بيتنا، انعطفنا يساراً باتجاه دهليز مقابل له. نقرت بضع نقرات على بيت جيراننا، كي لا ألفت انتباه عناصر الأمن. مرّت دقيقة، أو دقيقتان – ربما- كأنهما دهراً كاملاً، قبل أن يفتح الجار، الذي استيقظ من نومه بابه. اندهش الرجل حينما رآنا، مستغرباً أن نقرع بابه في هذا الوقت المتأخر. همست في أذنه همساً، شارحاً على ارتباك المأزق الذي نحن فيه، ثم طلبت منه السماح لنا المبيت في بيته. فجأةً جحظت عيناه اللتان طار النوم منهما، وأول رد فعل عفوي له، كان أن رفع ذراعه، وأسند يده إلى حافة الباب، بحيث أصبحت ذراعه حاجزاً أمام وجهي تماماً. كأن حركة جسده تلك تقول: لا.. لا أريد التورط معكم.

في الوقت ذاته لم يفه الرجل بأية كلمة، بل غرق في صمت عميق.. وراح يفكر بتبعات قراره، حيث كان من الصعب عليه أن يرفض، ومن الصعب أن يقبل.

   تكثفت وتصارعت في داخله – بالتأكيد – في تلك اللحظات كل القيم والهواجس، والخوف المتراكم. من جهة لا تسمح له الشهامة، والعلاقة الإنسانية التي تربطنا كأصدقاء، وجيران بخذلاننا، ومن جهة أخرى خاف من التورط مع الأمن في حال انكشف أمرنا، وهو العارف، بما سيجرّه ذلك عليه من تبعات.. ومساءلة. بعد لحظات كانت شديدة الوطأة علينا جميعاً. أنزل الرجل ذراعه بتباطؤ، وقال: تفضلوا.

  أخذني إلى غرفة علوّية، فيما انضمت شقيقتي إلى زوجته ووالدته، اللتان استيقظتا على وقع أصواتنا. فوجئت حين دخول الغرفة بازدحامها بأشخاص نيام، من أشقاء الجار، وأقاربه. لم أجد تفسيراً للأمر، وكان الموقف برمته مربكاً، لا يسمح بالشرح، أو السؤال.

   أحضر لي الرجل فراشاً، اندسست فيه على عجل، لعلي أطرد أصوات الجحيم التي كانت تعصف برأسي، وتخفف من حالة التوتر الشديد الذي ينتابني. لكن من أين لي الاسترخاء في تلك الحالة، وعشرات الأسئلة، والاحتمالات، والأفكار السوداء، وشياطين الأرض تنهش روحي؟!

   رحت أتخيل شكل المحقق. يحدّق بوجهي بابتسامة ساخرة، ثم يومئ إلى عناصره، فتبدأ حفلة التعذيب. أجدني أصرخ، وأستغيث.. فلا أسمع سوى قهقه شامتة، تستمتع بإذلالي. يا إلهي هل سأصمد في حال وقعت بين أيديهم. كيف لي أن أحافظ على كرامتي، أم سوف أنهار وأعترف بالمعلومات التي بحوزتي؟!  كانت الصور تختلط في مخيلتي مع طيف أمي، ووجهها الذي يعتصره الألم، ومع ملامح والدي العجوز… شعرت بالسخط على كل شيء. على نفسي، وعلى رجال الأمن، وعلى هذا العالم الظالم. لم أستطع تخيل انتهاك حرمة بيتنا، وإذلال أسرتي بسببي، رغم أني لم أفعل شيئاً يستحق كل هذا ….

   في الأثناء، كان يقفز وجه شقيقتي، القلق، المتعب، مع هذا الصخب الذي يضجّ برأسي، ويحتل شاشة ذاكرتي. أتخيلها حائرة، ومحرجة أمام جيراننا، ثم يضغط على روحي السؤال: ما الذي سأفعله للخروج من المأزق. هل غادر عناصر الأمن البيت، أم ما زالوا يحتلونه بانتظاري؟!

   لم تكفّ تلك الهواجس، والشكوك عن الهطول الغزير، فوق رأسي المتعب، وكلما طردت بعضها، تدفقت أخرى بإلحاح، دون رحمة حتى كاد رأسي ينفجر. مرّت ساعتان – ربما – وأنا على تلك الحال. نهضت بعدها أبحث عن رشفة ماء، كي أبللّ حلقي الجاف، وأخفّف من تسارع دقات قلبي، التي لم تتوقف عن الخفقان. فوجئت أن الجار وأسرته، هم أيضاً لم يناموا بعد. طلبت منه، على استحياء، كوب ماء، وعدت إلى مكاني في الغرفة العلوّية.

    شعرت أنه تأخر، أو هكذا خُيلّ لي، فساورني الارتياب. ربما راجع الرجل نفسه وقررّ أن يسلمني.

    لا.. لا مستحيل قلت لنفسي مؤنباً.

  في الأثناء، مزّق صوت ارتجاج أنابيب المياه، سكون الليل والصمت، فسرت قشعريرة باردة في جسدي، ورحت أرتجف. جاء الجار أخيراً، حاملاً كأساً وإبريق ماء، ومعه شقيقتي التي لم تكن أقلّ مني قلقاً.

   تنحت بي جانباً وسألتني هامسة: ماذا سنفعل؟!

  أضافت: أنت لا تعلم أن الجماعة في مأتم. أخبروني أن حادث سير مؤلم في المساء. أودى بحياة طفلتهم الصغيرة، ذات السنوات السبع. هي في برّاد المشفى الآن، وغداً جنازتها.  كدت أذوب خجلاً. كان أسهل عليّ لو انشقت الأرض وبلعتني. بدلاً من أن نثقل على هذه الأسرة الحزينة في هذا الظرف، ثم طوحت بيدها: لكن من أين لنا أن نعلم بمصابهم!

   تلفتُّ نحو الجار على ارتباك. عانقته معزياً، ومتأسفاً على تحمّله عبئنا، وهم في هذا المصاب الأليم. لكن الكلمات اختنقت في صدري، ولم يبق سوى الصمت.

   يفصل بيتنا عن بيت الجار سطح كنيس يهودي، يطلٌ على غرفة بيتنا العلوّية من الخلف. أصبح كلّ همّي تخليص شقيقتي من حالة الإحراج، وفي الوقت ذاته طمأنة أهلي، والتواصل معهم بطريقة ما.

 سألت شقيقتي: هل بإمكانك التسلّق إلى سطح الكنيس، والزحف حتى لا تظهر ظلالك لعناصر الأمن، الذين يحاصرون البيت، ثم تتسللي إلى بيت جارتنا الأرملة الملاصق لبيتنا؟!

 هزّت رأسها بالموافقة.

 نبهتها: إياك أن تنزلي إلى غرفتنا، قد يكونون هناك.

   أبدت شقيقتي، رغم الخوف والقلق تماسكاً، وشجاعةً غير عادية. كانت تلك الحركة مغامرة محفوفة بالمخاطر. إذ ربما ينكشف أمرنا. لكن رغم التوتر الشديد مضت الدقائق العشر الأولى بسلام.

   لم أدرك كيف مضت الساعات المتبقية، وكم من الأشياء قد ماتت في داخلي، وكم من الأشياء استيقظت. مع خيوط الفجر الأولى، وقبل أن يستيقظ النيام، جاءت والدة جارنا العجوز، حاملةً معها كيساً يحتوي قميصاً، وألبسة داخلية. ناولتني مئة ليرة سورية قائلةً: هذه من والدتك. اطمئن، لا تخف عليهم. أخذوا والدك إلى فرع الأمن للتحقيق، وأعادوه. المهم أن تخرج من هنا، وتفلت من بين أيديهم.

 أضافت: تعال معي. هناك باب خلفي، يؤدي إلى الجانب الآخر من الحارة. سأمشي أمامك. أراقب الحركة، حتى تبتعد.

   لن أنسى في حياتي شهامة تلك المرأة الشجاعة، التي عاملتني بلهفة وحنان أم. حينما شعرت بالأمان ودعتها ومضيت في طريقي. لوحت بيدها قائلة: الله يسهّل أمرك، ويعمي عيونهم عنك.

  مشيت حائراً على غير هدى، لكني أدركت أن صفحة من حياتي قد انطوت، وصفحة جديدة قد انفتحت، لا أعرف إلى أي مرفأ ستقودني، وكيف سيتحدّد مصيري على ضوئها، لكني أدرك اليوم أن آثارها لا تطالني فحسب، بل تطال شعباً، وبلاداً بأكملها.

* صحافي وكاتب فلسطيني/ سوري

المصدر: جيرون

التعليقات مغلقة.