الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“القبيسيات: من السرية إلى العلنية” حركة دعوية أم سياسية؟

عزت الشيخ سعيد

بوفاة “منيرة القبيسي” راج الحديث عن جماعة القبيسيات، بين مترحم عليها ولاعنٌ لها، بين مؤيد ومعارض، ولكلِ طرف حججه ومبرراته؛ فمن هي هذه الـ’منيرة’ التي قسمت المجتمع السوري الذي لا يفتقر أصلا إلى مزيد من الانقسامات والاصطفافات.

“منيرة القبيسي”:

ربما يصح أن نقول حالها كحال الشخصيات الإشكالية، والتي تعمل في الظل بعيداً عن الأضواء، تتضارب الأقوال فيما يخص حياتها الشخصية وأصولها وحتى تاريخ ميلادها، فمن قائل أنها من أسرة فلسطينية استوطنت دمشق، إلى قائل بأصولها الدمشقية؛ واختلفوا بتاريخ ميلادها أهو عام 1930 أم عام 1933، واختلفوا إن هي تزوجت أم لا، ولكن غلب عليها لقب ‘الآنسة’.

ما يهمنا أنهت ولدت في دمشق في بداية ثلاثينيات القرن المنصرم، لأب يعمل في التجارة بين سورية والأردن وفلسطين، في أسرة تتألف من ستة أخوة ذكور وأربعة بنات؛ حصلت على بكالوريوس في العلوم الطبيعية من جامعة دمشق، وعملت في التدريس في مدارس دمشق.

أثناء دراستها الجامعية ترددت على كلية الشريعة، واحتكت بالدكتور الشيخ مصطفى السباعي المؤسس والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، والدكتور الشيخ محمد المبارك، وكذلك بالشيخ عصام العطار الذي كان خطيباً وإماماً لمسجد جامعة دمشق.

بعد تخرجها واظبت الحضور على دروس الشيخ أحمد كفتارو، الذي كان في الخمسينيات مفتياً لمدينة دمشق، قبل اختياره لمنصب المفتي العام لسورية عام 1964، وبقي في منصبه إلى وفاته عام 2004، وعُرف كفتارو بأنه من أتباع الطريقة النقشبندية الصوفية، وهذا ما جعل مريدتهُ ‘منيرة’ تتبع هذه الطريقة، وتلفت نظره بنشاطها، ولكن صراعها مع ابنته وفاء  على قيادة الجناح النسائي في الطريقة دفعها للانسحاب والانضمام لجماعة زيد، نسبة لمسجد زيد بن ثابت الأنصاري، والذي يقع في باب سريجة بدمشق، ويشرف عليه الشيخ عبد الكريم الرفاعي والد الشيخ أسامة الرفاعي، الذي انتُخب رئيساً للمجلس الإسلامي السوري في تركيا ومن ثم مفتياً للجمهورية العربية السورية بعد إلغاء هذا المنصب بعد وفاة أحمد حسون، وكانت تحضر بعضاً من دروس جماعة الميدان التي يقودها المرحوم الشيخ حسن حبنكة، وكذلك جماعة الفتح التي يقودها الشيخان عبد الفتاح البزم وصالح الفرفور.

إلى جانب تدريسها لمادة العلوم الطبيعية، بدأت أواسط الستينيات تُلقي دروساً الخاصة في بيتها، وبناء على دعوات سيدات دمشق من الطبقة الأرستقراطية المخملية في المهاجرين القريب من حيي أبو رمانة والمالكي، وهما من أرقى أحياء دمشق، قبلت بالمشاركة فيما يُسمى حفلات الاستقبال النسائية، لتلقي بعضاً من دروسها، والتي لاقت الإعجاب من جانب هذه الشريحة.

كانت الدروس البيتية معروفة في دمشق، لعلَ الشيخة ‘وهيبة’ في حي العمارة، والشيخة ‘أم محمد الشامية’ في أرياف دمشق، من أشهرهن في الستينيات من القرن المنصرم، وجميعهن من أتباع الطرق الصوفية.

قررت الشيخة ‘منيرة’ الاستقلال بتيار خاص بها، واستفتت شيخها أحمد كفتارو، ومن ثم أستاذها سعيد رمضان البوطي، اللذان وافقا على ما تسعى إليه، بل وقاما بتأمين كل ما تحتاجه من دعم مالي وسياسي وأمني.

بدأ نشاطها كما أسلفنا ينّصب على بنات وسيدات المجتمع الأرستقراطي، لتأمين التمويل والدعم والحماية، بما تملكه أسرهُن من علاقات واسعة مع أنظمة الحكم، ثم توسعت في نشاطها إلى جميع الطبقات، من المدن إلى الأرياف، ومع مرور الأيام وصل نشاطها إلى الدول القريبة في لبنان (الشيخة سحر الحلبي وعرف اتباعها بالسحريات) والأردن (الشيخة الدمشقية الأصل فاديا الطباع وعرف أتباعها بالطباعيات) والكويت (بنات البيادر والتي أشرفت على تأسيسها أميرة جبريل أخت أحمد جبريل زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، والذي وقف مع النظام السوري في قمع الثورة السورية) وصولاً أخيراً إلى أوربا وأمريكا وأستراليا.

استراتيجية ناعمة في كسب التأييد والدعم والحماية:

اعتمدت الشيخة منيرة لكسب التأييد والدعم والحماية، عبر عمليات التزويج من الشخصيات ذات الوزن والفعل اقتصادياً ودينياً.

فمن قيادات الصف الأول، تزوجت نهيدة طرقجي من رجل الأعمال الدمشقي هيثم السيوفي، بينما أختها رصينة تزوجها إبراهيم الهواري أحد قيادات الإخوان المسلمين المقرب من عصام العطار وتوفي في آخن/ألمانيا عام 2015، كما تزوجت آمال الشيشكلي وهي ابنة أخ الرئيس السابق أديب الشيشكلي من الإخواني المصري يوسف ندا، وكذلك فإن الزوجة الثانية للشيخ سعيد رمضان البوطي هي أميرة العرجا، وحين توفيت رثاها بنص عاطفي تضمنه كتابه من الفكر والقلب، وكذلك فإن بنات محمود الأبرش رئيس مجلس الشعب السوري من عام 2003 إلى عام 2012 كن من أتباعهن.

التسلسل الهرمي لجماعة القبيسيات:

أشرفت الشيخة ‘منيرة’ على بناء صارم في تسلسل الهرم التنظيمي لجماعتها، تترأس هي هذا الهرم، وتقبع تحته ما يسمى بمجموعة الشيخات، وهن النواة المركزية لجماعتها، ويُشرفن على وضع برامج التعليم والإدارة، والإشراف على المنشآت الطبية والخيرية التابعة للجماعة، فيما يأتي بعدهن مجموعة الخالات، وهن المنوط بهن تنفيذ البرامج الموضوعة، والقيام بعمليات الاستقطاب والتعليم وقيادة مجموعات الأخوات اللواتي انخرطن في الجماعة، ويطلق عليهن اسم المريدات، وهن القاعدة الشعبية للجماعة.

ولا يُعرف للجماعة أي نظام داخلي معلن، أو وثائق مكتوبة فيما يتعلق بطريق الإدارة، وربما تكون هذه القضايا تُتلى شفاها.

ومن أشهر قيادات الصف الأول في دمشق، وهن من العائلات الغنية، سميرة الزايد، ولها مؤلف عن السيرة النبوية كتب مقدمة له الشيخ البوطي، خيرية جحا، نهيدة طرقجي واختها رصينة، رفيدة الكزبري، رجاء تسابحجي، أميرة جبريل، منى قويدر، سعاد ميبر، سوسن حلاق، خلود خدام السروجي البوق الأشهر في الدفاع عن النظام، سلمى عياش التي تم تسميتها معاونة لوزير الأوقاف.

ختاماً:

التنظيم الذي أنشأته الشيخة “منيرة القبيسي”، والذي عُرف فيما بعد باسم القبيسيات نسبة لها، استهدف الشريحة الأضعف في المجتمع، شريحة النساء، لا ليَعِدوهن بتحصيل حقوقهن، في مجتمع غارق في البؤس والشقاء والاستبداد الشرقي، والذي يعانين منه ضعف ما يعانيه الرجال، بل انصبت دعوات الجماعة على الوعد الآخروي، تحت شعار بعْ دنياك بآخرتك، ولأن القاعدة الفكرية الأساسية للجماعة ذات منطق صوفي، فقد التزمت الجماعة والزمت أتباعها بمقولات يرددها الصوفيون، وعلى سبيل المثال، من لا شيخ له شيخهُ الشيطان، وعلى المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله؛ ولأن الطرق الصوفية غلبَ عليها القول بوحدة الوجود وما يتبع ذلك من مفاهيم حلولية، استدعت الإسراف في تعظيم قياداتهن، لدرجة تصل بهن إلى مرحلة القداسة والإلهام والكشف أيضاً؛ وواجب اتباعهن دون سؤال أو استفسار.

وكل الدراسات والمقالات حول هذه الجماعة، ماتزال مقولات وصفية، وإليها تنتمي هذا المقالة أيضاً، ترى الخارج والقشرة ولا تصل إلى لب الجماعة ونواتها الفاعلة، لغياب المواد التي تتعلق بهذه الجماعة، وغياب أي انشقاق من القيادات العليا، والتي غالباً ما تصاحب كشف الأوراق وفضح المستور، إلا من بعض مقالات هنا وهناك من المريدات اللواتي تركن الجماعة وكتبن عنهن.

ولا ننسى المواقف المُعلنة للجماعة من النظام ومن الثورة السورية، بل ومن كل الثورات، والتي تتماشى مع مواقف الشيوخ الذين أشرفوا على قيام هذا التنظيم ودعمه، والذين “حرّموا القيام على الحاكم لو أكل مالك وجلد ظهرك”.

هذه التنظيم النسائي وإن كان يتخفى تحت ستار الدعوة الدينية، لكنه لعب ويلعب دوراً سياسياً واجتماعياً، ظهرت بعض نتائجه وستظهر نتائج أخرى له لاحقاً.

واعتدنا أن الجماعات الدينية ما أن تلد حتى يصبح من الصعب محاصرتها أو التخلص منها، إلا بقيام الدولة الوطنية الديمقراطية المتقدمة والناهضة، والتي يصبح فيها الدين شأن شخصي، والخلاص الآخروي أيضاً، لا دخل للأسرة ولا للدولة به، على الضد من الخلاص الدنيوي الذي يحتاج الى العمل الجماعي، وذلك يحتاج إلى تحوّل تاريخي، وذلك موضوع آخر.    

ونختم..

الملفت للنظر هذا الكم الكبير من النعوات، التي صدرت عن شخصيات تبوأت مناصب قيادية في الحراك الثوري السوري، وإن كان من تعليل مبدئي لذلك،  فهو المرجعية الفكرية والإيديولوجية لهذه الشخصيات، والتي لا تستطيع إخفاءها، وتُطل برأسها في كل حدثٍ وحين.

التعليقات مغلقة.