منى فرح *
عندما قررت منظمة “أوبك بلاس” خفض الإنتاج، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ظهرت إدارة الرئيس جو بايدن بموقف المتفاجئ، وسارعت إلى إتهام السعودية بأنها تدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا. في الواقع، أن واشنطن تُصر على التعامل مع حلفائها بـ”نرجسية استراتيجية”. وإذا لم تغير نهجها تكون تغامر بموقعها في عالم متعدد الأقطاب، الذي أصبح على قاب قوسين أو أدنى، بحسب “فورين أفيرز”(**).
في العام الماضي، أمضت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وقتاً طويلاً في البحث عن طريقة تستطيع من خلالها خفض أسعار النفط التي أصبحت صادمة في ظلّ الحرب الروسية الأوكرانية. لذلك، عندما قررت منظمة “أوبك بلاس” خفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كان رد فعل واشنطن قاسياً جداً، اختصرته المتحدثة الإعلامية للبيت الأبيض، كارين جان بيير، بقولها “أوبك بلاس تتحالف مع روسيا.. هذا واضح جداً”. كان هذا النقد الحاد هو الأكثر إثارة للدهشة كونه كان موجهاً للسعودية بشكل مباشر: أكبر منتج للنفط، والشريك الأهم بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
بالمعنى الضيّق، يمكن القول إن هذا الاتهام صحيح. تنتمي كل من السعودية وروسيا إلى “أوبك بلاس”، وهي منظمة وُجدت لمساعدة أعضائها في تجنب كل منافسة من شأنها أن تخفض عائدات صادراتهم (…). ومع ذلك، بدا أن البيت الأبيض أراد القول إن الرياض تدعم روسيا سياسياً، وإن هذا ما أدَّى إلى تقوية عصبها في حربها ضدَّ أوكرانيا (https://www.foreignaffairs.com/tags/war-ukraine) وبالتالي تقويض الجهود الغربية لمحاسبتها.
تتعامل الإدارة الأميركية مع الدوافع السعودية من منظور “إما أبيض أو أسود”، تماماً كما تتعامل مع جميع شركائها. تتبنى إدارة بايدن؛ في كثير من الأحيان؛ وجهة نظر ثُنائية للنظام الدولي (https://www.foreignaffairs.com/topics/biden-administration)، ألا وهي: “منافسة الديموقراطيات والأنظمة الاستبدادية”. ونتيجة لذلك، تتعامل مع ما يقرره شركاؤها على أنه اختبار حاسم للولاء للولايات المتحدة.
لكن العديد من الشركاء لا يحبذون هذه الرؤية في التعامل معهم. وبالنسبة للأغلبية منهم، فان التحالف الدائم مع روسيا أو الصين، أو حتى مع الولايات المتحدة ليس مسألة “خيار” عليهم أن يدفعوا ثمنه للأميركيين. فلدى بكين وموسكو عملاء وليس حلفاء، كما أن الولايات المتحدة تمر بفترة من التقلب بخصوص أولوياتها الدولية، ما يترك لشركائها ضمانات ضئيلة، فهؤلاء لم يعودوا واثقين من أن دعمهم الثابت لواشنطن سوف يرتد عليهم بالمثل. نتيجة لذلك، يسعى عددٌ متزايد من الشركاء إلى تجنب الاصطفاف لطرف دون غيره، والحفاظ على مسافة واحدة مع جميع القوى العُظمى، وابقاء العلاقات مفتوحة مع الجميع. وإذا ما أرادت واشنطن ضمان موقعها وتعظيم نفوذها في عالم مُتعدد الأقطاب؛ أصبح على قاب قوسين أو أدنى؛ فعليها تعديل نهجها في التعامل مع شركائها، وإعادة صياغة استراتيجية أكثر دقة وذكاء في إدارة قضايا النظام الدولي.
كل شيء.. أو لا شيء!
معظم الدول تعتبر أن التحدي الأكبر لمصالحها هو التنافس القائم بين القوى العُظمى وليس التهديد الذي قد تشكله أي قوة بمفردها. السعوديون، على سبيل المثال، يعتبرون الصين الشريك الاقتصادي الأكبر والأهم (نحو خُمس صادرات المملكة يذهب إلى الصين). في الوقت نفسه، يعتبرون الولايات المتحدة الشريك الأمني الأكبر والأهم. إن الاضطرار إلى اختيار علاقة على أخرى؛ أو حتى تقليص العلاقات؛ سيكون مُكلفاً. لذلك فإن السعودية، مثل العديد من الدول المتوسطة والصغيرة، تسعى بدلاً من ذلك إلى الحفاظ على كليهما (واشنطن وبكين) كشريك وحليف. ومن أجل تحقيق هذا المسعى، يتبع السعوديون؛ وغيرهم من شركاء أميركا؛ نهجاً محدداً في علاقاتهم الدولية يقوم على مبدأ “الاستفادة من كل ما سبق”.
ففي منطقة الشرق الأوسط، مثلاً، تُعد مصر وقطر والسعودية والكويت والبحرين والإمارات شركاء حوار حاليين أو محتملين لمنظمة “شنغهاي”، التي تُوصف أحياناً بأنها بديل (https://www.foreignaffairs.com/topics/nato) لحلف شمال الأطلسي (الناتو). كما أن الرياض والقاهرة أعربتا عن اهتمامهما بالانضمام إلى منظمة “بريكس”، التي تضم أيضاً الهند والصين برغم التنافس العميق بين الدولتين. كذلك أبدت تركيا (https://www.foreignaffairs.com/regions/turkey) اهتماماً صريحاً بأن تكون عضواً في المنظمتين.
وقد اقترح بعض الباحثين، مثل بول بواست (من جامعة شيكاغو) (https://www.foreignaffairs.com/authors/paul-poast) توسيع “بريكس” و”شانغهاي” بهدف تأسيس “نظام دولي بديل”. لكن الدول التي تسعى إلى مشاركة أكبر مع هاتين المنظمتين لا تنأى بنفسها عن مجموعة الدول السبع أو “الناتو” أو منظمة الأمم المتحدة. وبدلاً من بناء نظام دولي منافس، فإن عدداً متزايداً من الدول يرفض ذلك ببساطة؛ أو على الأقل يسعى للإفلات من القيود والعواقب التي يفرضها نظام عالمي ثُنائي، وذلك من خلال إبقاء قدم في المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة وأخرى في المؤسسات المتعددة الأطراف بقيادة روسيا والصين (…).
من خلال تبني مثل هذا النهج، تسعى دول؛ مثل تركيا والسعودية؛ إلى تقليل التكاليف التي يفرضها الإنحياز إلى هذه القوى العُظمى أو تلك، وفي الوقت نفسه تعظيم الفوائد. فمع تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، وجدت الدول الصغيرة والمتوسطة نفسها مطالبة بتلبية شروط المتنافسين، مثل الطلبات الواردة من الصين لدعم سياساتها تجاه هونغ كونغ وتايوان (https://www.foreignaffairs.com/china/xi-jinping-his-own-words)، أو تلك الواردة من الولايات المتحدة بمنع الاستثمار في البنية التحتية الصينية وتكنولوجيا 5G. إن إتباع خيار أن كلا الجانبين “شريك” يسمح بخفض تكلفة التحالف مع هذا الجانب أو ذاك دون استفزاز أي منهما.
هذه الإستراتيجية تحمل للعديد من الدول الصغيرة والمتوسطة فوائد أخرى أيضاً. إن الإنحياز الاختياري بدلاً من عدم الانحياز يعني القدرة على التأثير في عملية صنع القرار لدى القوى العظمى، والاستمتاع بامتيازات المواءمة نظراً لأن أياً من القوى العظمى لا تريد خسارة أياً من شركائها. والانحياز الاختياري يتيح الفرصة للتنبؤ بسلوك القوى العظمى، أي “التحوط”، وهو ما بدأ يظهر بوضوح في الشرق الأوسط (https://www.foreignaffairs.com/regions/middle-east)، حيث لا يزال مستقبل انخراط أميركا والصين في المنطقة غير واضح، وحيث بدأ حتى أقرب الشركاء يشعرون بأن علاقاتهم مع واشنطن لم تعد مستقرة بسبب التحول في السياسة الخارجية الأميركية.
من المؤكد أن لمثل هذا “التحوط” ثمن. فعندما اشترت تركيا (وهي عضو في “الناتو”) نظام الدفاع الجوي الروسي S-400 (عام 2017) تم استبعادها من برنامج الطائرات الأميركية المقاتلة F-35. كذلك عندما أحجمت الإمارات عن تقليص علاقتها الأمنية والتكنولوجية مع بكين استُبعدت هي الأخرى من برنامج طائرات F-35 الأميركية. وقد يؤدي امتناع المجر عن التصويت على العقوبات الأوروبية ضد روسيا إلى حرمانها من أموال الاتحاد الأوروبي. حتى إسرائيل (https://www.foreignaffairs.com/regions/israel)، وهي الحليف الأقرب لأميركا، رأت كيف أن علاقاتها مع روسيا والصين طغت على النووي الإيراني والقضية الفلسطينية كنقاط احتكاك أساسية مع واشنطن.
قد تميل الولايات المتحدة إلى إصدار إنذار نهائي لشركائها هؤلاء، وهو أنه في موضوع التنافس مع روسيا أو الصين يجب عليهم اختيار أحد الجانبين. فإذا استمر الشركاء في خيار التعامل مع كلا المتنافسين، يمكن لواشنطن القول إنها مضطرة لتقليص علاقاتها معهم. لكن هذا النهج غير عملي، لسبب رئيسي واحد، وهو: أن معظم أشكال التعاون القائم بين شركاء أميركا من جهة وروسيا أو الصين من جهة ثانية لا يشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الأميركية، وبالتالي لا داعي للاعتراض عليه. علاوة على ذلك، وفيما يتعلق بالصين (https://www.foreignaffairs.com/regions/china) تحديداً، قد يكون من المستحيل تنفيذ مثل هكذا إنذار، نظراً لأن اقتصاديات شركاء أميركا أصبحت متشابكة مع اقتصاد بكين على عكس ما كانت عليه في الأمس القريب. أضف إلى ذلك أن الشركاء أنفسهم يمكن أن يطلبوا بالمقابل ضمانات اقتصادية وأمنية إضافية أقوى، قد تكون واشنطن مترددة أو غير قادرة على تقديمها.
نرجسية أقل.. وتعاون أكثر:
بدلاً من السعي إلى تقسيم العالم على غرار الحرب الباردة، يجب على صُنَّاع السياسة في واشنطن السعي لاكتساب شركاء جُدد مستعدين للاصطفاف معها، حتى لو كانوا منخرطين في مصالح وعلاقات مختلفة مع قوى عُظمى أخرى.
وبدلاً من التركيز على منتديات واسعة وإثارة قضايا متعددة، مثل “مجموعة العشرين”، يجب على واشنطن أن تسعى لبناء وتعزيز شراكات أصغر بين الدول ووضع أجندات بمواضيع محددة ومركزة، مثل “المجموعة الرباعية”، و”اتفاقيات أبراهام”، وما يُسمى بتجمع I2U2 (الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة). يمكن لمثل هكذا تحالفات أن تعزز المصالح المشتركة ذات الأولوية العليا، بما في ذلك الاستثمار في الأمن والبنى التحتية، مع تنحية القضايا الدخيلة التي قد يجدها الأعضاء أكثر إثارة للجدل والتي يمكن أن تعكر قوة العلاقة. ويمكن لهذه المجموعات أيضاً أن تكون بمثابة ثقل موازن وفعَّال للنفوذ الصيني دون الحاجة إلى استهداف بكين بشكل مباشر، وبالتالي خفض التكلفة المحتملة للمشاركين. على سبيل المثال، تثير مبادرة I2U2 الناشئة احتمالية زيادة الاستثمار الهندي في الشرق الأوسط، وتُقدّم خياراً ثالثاً للدول الإقليمية التي تتردد في الاختيار بين واشنطن وبكين، وقد أدَّت “اتفاقيات أبراهام” (https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2022-02-22/axis-abraham) بالفعل إلى زيادة تدفقات الاستثمار داخل المنطقة بطريقة قد تقلل من الحاجة إلى أي دعم خارجي من أي قوة عُظمى.
في الوقت نفسه، يجب على أميركا العمل مع الحلفاء الحاليين من أجل ترسيخ قواعد ولوائح مشتركة، مثل خصوصية البيانات وتصدير التكنولوجيا، وذلك بهدف زيادة الحوافز لدى الشركاء غير المتحالفين للامتثال لتفضيلات واشنطن. من المرجح أن يقبل بعض الشركاء بالتخلي عن فرص اقتصادية توفرها الصين وروسيا إذا كان ذلك يعكس يضمن فوائد ملموسة على شكل تسهيل الوصول إلى مزيد من الأسواق الأميركية والأوروبية والتكنولوجية.
يجب على الولايات المتحدة أيضاً اختيار معاركها قبل أن تطلب أي شيء من شركائها. ففي أغلب الأحيان، يفشل صانعو السياسة في واشنطن في مراعاة كيف ينظر الشركاء إلى مصالحهم الخاصة. وهم يفترضون أن شركاءهم يرون الأمور من المنظور الأميركي، وأن لديهم شعور تلقائي بالتضامن مع المصالح الأميركية… وهذه مغالطة مؤسفة، لا بل “نرجسية استراتيجية“(https://www.foreignaffairs.com/authors/h-r-mcmaster)، كما سمَّاها مستشار الأمن القومي السابق إتش آر ماكماستر وآخرون.
هذه “النرجسية” في الإستراتيجية الأميركية يمكن أن تؤدي إلى نوعين من الإخفاقات السياسية: الأول، أن تستخف الولايات المتحدة بالتزام شركائها بنهج سياسي معين. فواشنطن مثلاً لم تستوعب طوال العقود الماضية أن الرياض ترفض أي تأثير أميركي على قراراتها المتعلقة في إنتاج النفط، وهذا ما جعل إدارة بايدن تتفاجئ بقرار “أوبك بلاس” في تشرين الأول/ أكتوبر 2022. والنوع الثاني من الإخفاقات السياسية هو المبالغة في تعظيم إلتزام الولايات المتحدة بأولوية سياسية معينة (…). على سبيل المثال، في عام 2015، طلبت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما (https://www.foreignaffairs.com/topics/obama-administration) من شركائها، في جميع أنحاء العالم، عدم التعامل مع “بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية” الذي تقوده الصين. لكن الجميع رفض الانصياع، بمن فيهم بريطانيا وأستراليا (أقرب الحلفاء). يجب على الولايات المتحدة دراسة مطالبها بدقة وتقدير تكاليف الرفض بدقة أكبر، وإلَّا ستضاءل نفوذها أكثر وأكثر، كما يحدث الآن.
معاً في السراء فقط:
أخيراً، يجب أن تهتم أميركا بموضوع تنمية شراكات مستقرة وطويلة الأمد حتى مع شركاء جُدد حتى لو كانوا غير ديموقراطيين (…)، وأن تُعطى الأولوية لمعالجة المخاوف الأساسية، مثل مواجهة النفوذين الروسي والصيني، والقبول بأن إحراز تقدم في القضايا الأخرى سيكون أكثر بطئاً (…). فالافتراض الذي أصبح سائداً لدى معظم الشركاء هو أن واشنطن تهتم بمصالحها الذاتية أولاً، والدليل أنها تحول اهتمامها ومواردها إلى آسيا.
إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في تنمية علاقات وتحالفات متينة ومستدامة، فعليها أولاً أن توضح أن الامتيازات المستقبلية للشركاء مضمونة بالفعل. فجميع عواصم الشرق الأوسط تقريباً لم تعد واثقة من أن الاستجابة المطلقة للطلبات الأميركية ستضمن لها أن لا تكون “كبش محرقة” في أي أزمة قد تحصل في العلاقات الثنائية، أو أن واشنطن ستعيرها الآذان الصاغية والتعاطف. هذا يعكس معضلات (https://www.foreignaffairs.com/regions/united-states) بالنسبة لواشنطن في مواقع بات الاهتمام الأميركي فيها يتضاءل؛ مثل منطقة الشرق الأوسط (…).
وعلى الرغم من رؤية إدارة بايدن لعالم مقسم بدقة بين أنظمة ديموقراطية وأخرى استبدادية، فمن الواضح أن الحقبة الأخيرة من عصر المنافسة بين القوى العظمى الحالية لن يكون عنوانها “كل شيء أو لا شيء”. فالدول المتوسطة والصغيرة تتجنب الإنحياز الكلي إلى أي من القوى العظمى دون الأخرى.
وتختار بدلاً من ذلك استراتيجية المواءمة الشاملة: اي المشاركة في المؤسسات المتعددة الأطراف. وبدلاً من الاستمرار في محاولة تركيب بنيتها المفضلة والبسيطة على الواقع الأكثر تعقيداً في العالم، يجب على الولايات المتحدة التكيف من خلال خلق المزيد من الفرص المخصصة لعلاقات تعاون متين ومستدام. ولا ينبغي أن يكون السؤال المطروح على الشركاء على شاكلة “إما معنا أو ضدنا”، بل ينبغي طرح السؤال التالي: عندما تشتد أزمة ما، مع من سيقف معنا، ومن سيكون معهم؟
……………………
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز”:
https://www.foreignaffairs.com/middle-east/middle-east-multipolar-era
(**) مايكل سينغ، مدير إداري في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. تلوى ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في إدارة جورج دبليو بوش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.