الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

غيوم وأفاق على مشارف عام جديد

عبد الله السناوي *

كل عام جديد يحمل معه تحديات وأزمات العام الذي قبله. كان عام (2022) هو عام تقوضْ النظام الدولي، الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية وطرأت عليه تحولات عميقة عند سقوط سور برلين وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم. في ذلك العام تَبَدَّى اضطراب غير مسبوق في العلاقات الدولية وموازين القوى وحسابات الدول.

السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه على عام جديد يوشك أن يحل: ما مصير الحرب الأوكرانية؟ هل تتوقف آلة الحرب.. أم أنها سوف تتمدد في الزمن بنيرانها وتكاليفها الباهظة؟

في مثل هذه الأجواء الدولية المأزومة من المنتظر أن يبدأ سباق تسلح جديد، كما لم يحدث منذ ثمانينيات القرن الماضي، لإثبات القدرة العسكرية الفائقة. مع قدوم الشتاء من المؤكد أن ترتفع وتيرة الحرب وتتزايد معدلات ونوعية التسليح والتدريب.

تحت ضغط الاستنزاف العسكري والاقتصادي من المرجح للغاية اتساع نطاق الإضرابات الاجتماعية في دول أوروبية رئيسية كفرنسا وإنجلترا وتتفشى ظواهر اليمين المتطرف، كما حدث في ألمانيا وإيطاليا. اليمين الفاشي يستدعى بالضرورة التنظيمات الإرهابية، كلاهما يحتاج إلى الآخر ويبرر وجوده.

بنفس الوقت فإن روسيا بحاجة إلى أن توقف النزيف الاقتصادي تحت وطأة العقوبات المفروضة عليها. التسوية السياسية ليست مستبعدة لكنها محفوفة بالمخاطر إذا أفلتت حساباتها على البيت الأبيض والكرملين معاً.

الجانبان يدركان أنه لا يمكن الاستمرار في حرب مفتوحة منهكة دون أفق سياسي يعمل على إنهائها، لكنهما لا يبديان استعداداً لأي تنازل عما يسعيان إليه من أهداف في تلك الحرب. لا الولايات المتحدة مستعدة أن تسلم بأي انتصار روسي، حتى ولو كان محدوداً ورمزياً، فهو يعني تسليماً بتراجع مكانتها الدولية كقطب أوحد في النظام الدولي. ولا روسيا مستعدة لأية خسائر استراتيجية تفقدها مكانتها في محيطها المباشر، كما في بنية العلاقات الدولية كلاعب فاعل ومؤثر كلمته مسموعة.

بين طلب التسوية وفعل التصعيد لتحسين الموقف التفاوضي تتكثف الغيوم على المسرح الدولي كله، فلا أحد يعرف أين يقف؟.. ولا إلى أين يمكن أن يمضى؟

لا النظام الدولي القديم مستعد أن يغادر ولا الجديد بوسعه أن يعلن وجوده.

كان لافتاً في عام (2022) اتساع الكلام الدبلوماسي عن نظام دولي جديد. لم تنشأ الحاجة إلى نظام دولي جديد بأثر الحرب الأوكرانية وحدها.

عند كل منعطف يضع مصير العالم بين قوسين كبيرين تتأكد أهمية البحث عن قواعد جديدة أكثر عدلاً واستقراراً في العلاقات الدولية.

التحول من نظام دولي إلى آخر لا يتم بين يوم وآخر، بل يستغرق وقتاً طويلاً نسبياً حتى تتأكد حقائقه الجديدة على ما حدث إثر الحرب العالمية الثانية بين عامي (1945) و(1956) التي كشفت معاركها وحسابات القوة فيها أن العالم قد تغير.

في حرب السويس سقطت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية وتأكدت مكانة القطبين الجديدين الأمريكي والسوفييتي وأعلنت حركات التحرير الوطنى بقيادة «جمال عبدالناصر» حضورها على مسارح التاريخ.

اللافت- هنا- تبني الرئيس الأمريكي «جو بايدن» دعوة توسيع مجلس الأمن الدولي ليضم دولاً جديدة، بينها ألمانيا والهند وممثل للاتحاد الإفريقى، أي الحفاظ على جوهر النظام الدولي الذي تتسيده مع توسيع المشاركة فيه. أين الصين من ذلك كله؟

هذا سؤال جوهري يطرح نفسه على تفاعلات العام المقبل.

بالوزن الاقتصادي فإنها القطب الدولي الثانى. وبالوزن السياسي فإنها عنصر مرجح في حسابات القوة والنفوذ والمصالح.

تتحالف مع روسيا لكنها تترك مساحة كافية للمناورة الاستراتيجية وكسب النقاط لمشروعها الاقتصادي.

تتحدى السياسة الأمريكية في تايوان بمظاهرات سلاح لتؤكد حقها في «صين واحدة»، دون أن تكون مستعدة لإرباك مشروعها طويل المدى بأية مغامرات عسكرية.

تنشأ نزاعات حدودية مع الهند دون أن تفكر في استعراض عضلاتها العسكرية.

فوق ذلك كله فإنها طرف رئيسي في نزاعات أخرى بالمحيطين الهندي والهادي، وطرف رئيسي في معادلات الأمن والاستقرار في محيطها الأسيوي.

بالنظر إلى طبيعة التوجهات الصينية التي تميل تقليدياً إلى الحذر فإن القواعد الحالية التي تحكم حركتها سوف تتمدد في عام (2023) دون تغييرات دراماتيكية.

الصراع على أفريقيا عنوان رئيسي آخر للأزمة الدولية الراهنة. طرافاها الرئيسيان هذه المرة، الولايات المتحدة والصين. القمم الموسعة التي يدعوان إليها تدخل في صراعات القوة وتأكيد النفوذ.

الإقليم الذي نعيش فيه ميدان رئيسي لاختبارات القوى. أزماته شبه مجمدة وقضاياه شبه مرحلة. لا حسم قريب في أي ملف.

السؤال التقليدي هنا: يوقع أو لا يوقع الاتفاق النووي الإيراني؟!.. وهو يتعدى نصوص الاتفاق إلى حسابات المصالح والتوازنات في الإقليم.

من ناحية نظرية لا توجد مشاكل يعتد بها لإحياء الاتفاق النووي.

ومن ناحية فعلية تخشى الإدارة الأمريكية الحالية تبعات إحياء ذلك الاتفاق على حظوظها في تمديد رئاستها (2024)، تريد أن تقول لمواطنيها إنها لم تتنازل، وأنها أجبرت إيران على تنازلات جوهرية تعيد تعريف أدوارها في الإقليم.

هذا ما لا تريده إيران لأسباب تتعلق بشرعية النظام أولاً وقبل كل شيء.

بين الشد والجذب كل الاحتمالات واردة، أن يوقع الاتفاق أو لا يوقع أبداً.

أن يفلت الموقف عن السيطرة أو أن تظل كل الحسابات تراوح مكانها.

مرة بعد أخرى تنتج أزمات العالم العربي نفسها بصيغ جديدة دون أن تطويها، كما في ليبيا واليمن والعراق ولبنان وسوريا، فضلاً عن القضية الفلسطينية التي كانت توصف عن حق بأنها قضية العرب المركزية.

أسوأ ما هو ماثل على مشارف عام جديد أن كلمة العرب ممزقة وأزماته تنحر بحقوقه فيما العالم تتكاثر عليه الغيوم دون أن ينتابه اليأس في نظام دولي أكثر عدلاً وإنصافاً.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.