ميشيل كيلو *
لم يعِ العرب يوماً المعنى بعيد الأثر لاستزراع إسرائيل كياناً غريباً وعدوانياً في نقطة الفصل الاستراتيجية بين المجالين، الآسيوي والأفريقي، من وطنهم العربي. ولو وعوا ذلك حقاً، لعملوا على مواجهته ومنع قيامه، ولما ضيعوا فلسطين وأغرقوها في بحر خطب توعدت بتحريرها، من دون أن يترجموها إلى واقعٍ يردّ عنهم تحدّي السرطان الذي لم ينكر يوما تصميمه على تقويض محاولاتهم للخروج من عالم الضعف والتشتت، خدمةً لأهدافه كإسفين يسخّر موقع فلسطين في جغرافيا العالم ضد عالمها العربي، ويكرّس وظيفته لإدامة سيطرة امتداداته الدولية على أمةٍ لا يجوز أن تخرج من احتجازها التاريخي، ولا بد من بقائها خاضعةً، ومن احتوائها عبر سقوف سياسية شديدة الانخفاض، تقوّض جهود شعوبها لبناء أوضاعٍ ذاتيةٍ استنهاضية الطابع، تبارح بواسطتها ما ترزح تحته من تخلفٍ وركود، وتناحر وتبعية، وتكبح ما في واقعها من آلياتٍ تعيد إنتاج تأخرّها التاريخي المديد وتعميقه، وهو الذي يبقي هذه الشعوب أسيرة فشلٍ يستنزف تراكمه قدراتها، في ظل دور إسرائيل حارسة، ما يرهقها من هوياتٍ صراعية وتمزيقية، تغذّي انقساماتها الداخلية والبينية، وتقطع صلاتها بما قد يلحقها من توجهاتٍ بالعالم والعصر.
لم يعِ العرب أن إقامة كيان غاضب، توسعي وعدواني، في قلب كيانهم التاريخي الذي تمثّله فلسطين، لن يكون نهاية مطافهم معه، وأن تخليهم عن شعبها الذي مارسوه قبل طرده من وطنه وبعده، واستيلاء الصهاينة عليه، لن ينجيهم من شروره، بسبب دوره ومهامه التي لن تكون خارجيةً فقط بالنسبة لنظمهم، بل ستفرض عليهم واقعا ستتعين بمركزية دورها فيه، سياسات دولهم، في مجالها الدولوي الخاص وعلاقاتها الخارجية، المتصلة بتبعيتها للدول الداعمة له وبمصالحها، وفي مقدمتها أميركا التي أرادت لإسرائيل أن تبقي جوارها الأقرب محدود الاستقلال، منقوص السيادة.
… وها هو “السلام الأميركي” يفرض هذا الدور ونتائجه الواقعية على العالم العربي، فيقوّض وجود فلسطين، ويلحق الجولان، المطل على دمشق، بإسرائيل، ويضم ثلث الضفة الغربية، وصولا إلى حدود الأردن، تحقيقا لحلم جابوتنسكي، الإرهابي الصهيوني الذي كتب على خريطة فلسطين: ضفة الأردن الغربية لنا، وضفته الشرقية أيضا. بوصول إسرائيل إلى مشارف العاصمتين، تتخطى فلسطين بدعم عربي، ويمر مشروع صفقة العصر الذي وضعه صهر ترامب، والذي اعتبر تضامن الكويت مع فلسطين تطرّفا، وتزعّم أول وفد إسرائيلي رسمي إلى أبوظبي، ليبلغ سعادته برؤيتهم يتخلون عن التزامهم بفلسطين، وينضموا إلى إسرائيل الجديدة، التي سيرون من “السلام” فصاعدا قضاياهم بدلالة علاقاتهم معها، ويقيسون تقدّمهم بتقدّمها، ويفتحون مجالاتهم الجوية أمام طائراتها اليوم وطيرانها غدا، بعد قبولهم ما هو أكثر من صفقة قرن كوشنر، والانتقال من قضية فلسطين إلى قضية إسرائيل، وما تمليه من قضايا تتمحور جميعها حول سياساتٍ وخياراتٍ ستكون هي مركزها الذي دخل في طوْر نوعيٍّ لم يسبق له أن بلغه، بعد تدمير المشرق وتحييد مصر، ونجاح واشنطن في إدخال الخليج إلى حقبة مجاهيل، ليست الطرف التي يقرّر مآلاتها، الملبية أهداف إسرائيل، والمتفقة مع دورها الجديد العابر للإقليم، من دون أن تكون لدى بلدانه ضماناتٍ بأنه لن يستهدفها، أو يستخدمها في صراعاته الإقليمية التي أسهمت أيما إسهام في تدمير المشرق، بتخطيط واشنطن ومشاركة إيران والأسد وروسيا، وليس من المستبعد اطلاقا أن يكون الدور قد وصل إلى الخليج، الذي سيتعاون مع واشنطن لإعادة إنتاجه بالصيغة التي تفرض عليه ما صار بحكم المفروض على المشرق: رؤية نفسه وتحديد مواقفه، بدلالة مصالحها ورغبات أميركا.
تنتقل إسرائيل إلى دور إقليمي جديد، بفضل تدمير المشرق، بينما ينخرط الخليج في حقبة غامضة حافلةٍ بمجاهيل تعده بمصير مشرقي، ليبدأ بعد زمن ما بعد العرب، زمن إسرائيل العظمى!
* مفكر وكاتب سياسي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.