خطيب بدلة *
الحكاية التي رواها أبو الجود عن خاله “النقيب خالد” الذي جُنَّ وسُرِّحَ من الجيش تشعبت، وصار فيها أكثر من رواية. تنص الرواية التي تبدو أكثر اقتراباً من المنطق على أن النقيب خالد انزعج ضمنياً من الاجتماع الذي عقدته قيادة الكتيبة، في مقر القيادة، وجرى فيه التحضير للاحتفال بترشيح حافظ الأسد.
تحدث الضباط القادة (من رتبة رائد وحتى رتبة لواء) في الاجتماع عن ضرورة التعاقد مع خطاطين لكتابة اللافتات التي تحيّي صمود سوية بقيادة حافظ الأسد في وجه المؤامرات الاستعمارية والصهيونية والرجعية، وتشيد بسعي حافظ الأسد لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني الغاصب، وضرورة تشكيل لجان لشراء الأعلام وصور حافظ الأسد، والاتفاق مع عدد من الطبالين والزمارين على القدوم إلى الكتيبة والإقامة فيها طوال فترة الاحتفالات، ليكونوا جاهزين في لحظة الحاجة إليهم.
قال أبو الجود: خالي خالد كان مزعوج من هالجو كله، لأنه هوي متأكد إنه حافظ الأسد باقي في السلطة، باستفتاء وبلا استفتاء، يعني لأيش كل هالنفاق؟ واللي كان مضايقه أكتر المعاملة السيئة اللي كان عم يتعرض لها هوي والضباط الزغار اللي حطوهم على مقاعد خشبية، وصدفت قعدتُه على مقعد فيه شي ناتئ صار ينخزه في قفاه، ولحتى يتخلص من النخز خطر له خاطر فوقف وصاح: عاش حافظ الأسد…
وعلى أثرها وقفوا كل الموجودين وصاروا يعيشوا حافظ، ويهيصوا، ونزلوا لتحت ع الساحة، وصاروا يدبكوا، وشافوهم العساكر فانضموا إلهم، وصارت دبكة خلطبيطة بين الضباط وصف الضباط والعساكر، وفي واحد من العساكر شال العقيد قائد الكتيبة وحطه فوق البرميل منشان يلقي كلمة. والعساكر استغلوا فرصة كسر هيبة العقيد وصاروا يصيحوا: بدنا كلمة من العقيد..
كمال: ما في أروع من أبو الجود لما بيرسم هيك أجواء بطريقته الساخرة الساحرة.
أبو الجود: الله وكيلك أنا ما رسمت شي، عم إنقل إلكم الشي اللي سمعته من خالي خالد، وقال لي خالي، كمان، إنه بوقتها صارت شغلة غريبة، وهيي إنه كانوا حاطين فوق البرميل لوح كارتون (كونت بلاك)، والظاهر أن هاللوح مسترطب، وتخان، وبمجرد ما وقف عليه العقيد قائد الكتيبة انكسر، والعقيد زَبَطْ، ووقع جوات البرميل، والبرميل كان مليان نصه زيت سيارات “وَلْوَلين”.. هون صارت فوضى أكتر من السابق، وركضوا بعض العساكر، وشالوا العقيد، وصاروا يقولوا له (بسلامتكم سيدي)، ومشوا فيه لبرات الاحتفال.. وبالصدفة كان في مقدم اسمه “فادي”، هوي معاون قائد الكتيبة، وهادا فادي كان لازم يترفع لرتبة عقيد من سنتين، لكن ترفيعه واقف، متل خالي، الظاهر إنه في حدا كاتب بحقه تقرير من كعب الدست.
قلت لخالي: أي؟ وأشو صار بعدها؟
خالي خالد: اللي صار إنه المقدم فادي استغل الفرصة، وأحب يثبت للقيادة إنه هوي أهل للترفيع، وإنه قادر يكون قائد كتيبة ممتاز، فأعطى إيعاز:
– انتبه، استاعد. الكل جالساً.
فقعدنا ع الأرض، وأنا بوقتها تندمت على قعدتي عالمقاعد الخشبية، لأنها كانت أرحم بكتير من القعدة ع الأرض رغم النتوء الخشبي اللي بينخز في المؤخرة.. المهم، بلش المقدم يلقي خطابة، والحقيقة إنه خطابته أقوى بكتير من الخطابة اللي ألقاها العقيد في مقر القيادة.. العقيد لما خطب قال إنه بدنا (نجابه) الاستعمار والصهيونية والإمبريالية والرجعية، يعني بس مجابهة، بينما المقدم صار يحكي بالسَحْق. قال (سوف نسحق الاستعمار والصهيونية والرجعية، وسوف نحبط المؤامرات ونبيد المتآمرين). وأنا بهاي اللحظة عصبت كتير وصرت أنزّل راسي لتحت وأنفخ حتى ما إختنق.. وبعدما انتهت الهيصة طلعت لعند المقدم وطلبت مقابلته. ولما صرنا أنا وهوي لحالنا، قلت له:
– سيدي المقدم إنته بتعرف شقد أنا بحب القائد حافظ الأسد، وعلى طول بعيشه وبسقط الاستعمار والصهيونية والرجعية.
قال لي: بعرف.
قلت له: بدي إسألك كام سؤال إذا بتسمح.
وعطى إشارة للطبال والزمار الواقفين بره، وبلشنا يا سيدي ندبك، وأخدت ورقة الاستفتاء وكتبت عليها (غير موافق) ورحت طبيتها في الصندوق وأنا عم إدبك
قال لي: اسآل.
قلت له: الانتخابات بالعادة بتصير للمدنيين، نحن العسكريين ليش بدنا ننتخب؟
قال لي: هادا الشي جوابه عند القيادة العليا، أنا ما دخلني.
قلت له: طيب، في احتمال، لا سمح الله، إنه السيد الرئيس حافظ الأسد ما ينجح في هالاستفتاء؟!
قال لي: استغفر ربك يا خالد. ما في احتمال ولا صفر %.
قلت له: لكان ليش عم نعمل كل هالاجتماعات والاحتفالات؟ نحن هيك عم نضيع وقتنا، وعم تتكبد الكتيبة مصاريف ما إلها طعمة. لما أنا قلت هالحكي شال المقدم كاسة المَيّ وأجا لعندي وقال لي:
– امسيك اغسيل تمك سبع مرات، وهادا الحكي أوعى تحكيه قدام حدا. واحمد ربك إنه العقيد وقع في برميل زيت الولولين وشالوه من هون وما سمع هالحكي. من دون يمين كان بيبعتك على سجن تدمر.
قلت لخالي: بصراحة يا خال؟ إنته أكبر مني بالعمر، وبالمقدار والقيمة، ومع هيك بدي أقول لك الله لا يعطيك العافية. إنته يا خالي إذا شفت المركب غرقان لازم تعطيه رفسة. دخيل الله، كيف خطر لك هالعلاك؟
خالي خالد: هاد اللي صار يا أبو الجود. طلعت من مكتب المقدم ورحت على خيمتي. والعقيد رجع طبعاً لشغله، والكتيبة استنفرت، وبقينا نخطب وندبك ونقعد ع مقاعد الخشب المسوسة شي خمسطعش يوم لحتى صارت عملية الاستفتاء. هون بقى بلش معي الجنون، لكن بشكل خفي.
قلت له: شلون؟
خالي خالد: يوم الاستفتاء، دخلت ع المركز، لقيت الملازم أول فطين قاعد ورا الصندوق، لما شافني داخل وقف وقدم لي الصف، وناولني ورقة الاستفتاء وقال لي (تفضل سيدي).. أنا عملت حالي زعلت منه، وقلت له:
– أشو عم تقول يا فطين؟ أنا بنتخب السيد الرئيس حافظ الأسد بلا طبل وزمر كأني عندي حزن؟ مو عيب؟
فطين: أنا آسف سيدي. الحق علي.
وعطى إشارة للطبال والزمار الواقفين بره، وبلشنا يا سيدي ندبك، وأخدت ورقة الاستفتاء وكتبت عليها (غير موافق) ورحت طبيتها في الصندوق وأنا عم إدبك. وهادا اللي صار.
* قاص وسيناريست وصحفي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.