نبيل الخوري *
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، وخروج منظمة التحرير الفلسطيني من بيروت إلى تونس، بين 21 أغسطس/ آب والأول من سبتمبر/ أيلول، برعاية قوات متعدّدة الجنسيات، أميركية – فرنسية – إيطالية، طُوِيَت صفحة من تاريخ حرب لبنان لتُفتَح صفحة جديدة لا تقلّ عنها مأساوية.
انسحبت القوات الغربية، من بيروت قبل انتهاء النصف الأول من سبتمبر. كان الجيش الإسرائيلي على مشارف العاصمة. وكان رئيس الجمهورية المنتخب، بشير الجميل، يستعد لاستلام مهامه. كان الأميركيون يعتقدون أن لبنان سيعود إلى مدار السياسة الغربية، بعدما أسرته المقاومة الفلسطينية، الحليفة للاتحاد السوفييتي، منذ العام 1969، أي منذ تكريس العمل الفلسطيني المسلح في جنوب لبنان، بموجب ما يُعرف باتفاق القاهرة. وكانوا سيعوّلون على الدبلوماسية للحصول على انسحاب الإسرائيليين والسوريين، ومن بقي من فلسطينيين في البقاع والشمال، معتقدين بقدرة الحكومة الجديدة على إعادة بسط سيادة الدولة على كامل أرضها. وكانوا يأملون أيضاً تحقيق مصالحة وطنية لبنانية – لبنانية، لإعادة بناء السلام والاستقرار الدائميْن في هذا البلد.
كذلك، كانوا يراهنون على مساعيهم الهادفة إلى مدّ الجسور بين بشير الجميل والسعوديين، كون السعودية ودول الخليج تعتبر بمثابة “رئة اقتصادية” لا يُستغنى عنها للبنان. بالطبع، هدفهم المتمثل بتوقيع اتفاقية سلام بين لبنان وإسرائيل كان في مقدّمة قائمة أولوياتهم آنذاك.
السياسة الأميركية حيال لبنان، بعد الاجتياح الإسرائيلي وخروج منظمة التحرير، كانت طموحة إذاً. لكن كل الطموحات تبخّرت على مراحل: بدءاً من اغتيال بشير الجميل في 14 أيلول/ سبتمبر 1982، وصولاً إلى 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1983، يوم سقط 241 جندياً أميركياً و58 جندياً فرنسياً في هجومين عنيفين. فماذا حصل على مدى هذين العامين؟ وكيف فشلت الولايات المتحدة في إعادة وضع لبنان في خانة الدول الخاضعة لنفوذها، لا لنفوذ خصومها؟
العودة:
إثر اغتيال بشير الجميّل، وما مثّله ذلك من نكسة لموارنة لبنان، شهدت بيروت حدثيْن خطيريْن آخرين: احتلال الجيش الإسرائيلي للعاصمة بيروت، وهو أمر قوبل بإطلاق اليسار “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” مجازر صبرا وشاتيلا بحق الفلسطينيين على يد عناصر كتائبية بإشراف إسرائيلي.
بسرعة، دانت واشنطن المجازر بحزم، واعترضت على دخول الإسرائيليين بيروت، خلافاً لما كان اتفق عليه في إطار خطة إخراج منظمة التحرير من لبنان، التي توصّل إليها المبعوث الأميركي، فيليب حبيب. وتُرجم هذا الاعتراض بتصويت واشنطن لصالح القرار 520 الصادر عن مجلس الأمن، في 17 أيلول/ سبتمبر، والذي دان دخول القوات الإسرائيلية بيروت. وعلى الفور أيضاً، دعمت واشنطن انتخاب القيادي الكتائبي، أمين الجميّل، شقيق بشير، رئيساً للجمهورية، في 23 أيلول/ سبتمبر.
وذهبت الإدارة الأميركية إلى أبعد من ذلك بتصميمها على إعادة إرسال “المارينز” إلى لبنان في إطار قوات متعدّدة الجنسيات مجدّداً، وليس تحت راية الأمم المتحدة. وقد أعلن الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، في العشرين من الشهر نفسه، أن هدف هذه القوات لا يتمثل في “تأدية دور الشرطي، بل في تمكين السلطات الشرعية في لبنان من الاضطلاع بمهامها”. هكذا عادت القوات متعدّدة الجنسيات إلى بيروت، اعتباراً من 24 سبتمبر/ أيلول، بمشاركة أميركية وفرنسية وإيطالية (ولاحقاً بريطانية)، وبطلب رسمي من الحكومة اللبنانية.
ومنذ بداية المَهَمّة، لم تخف الولايات المتحدة الطابع “الأطلسي” لتدخّلها العسكري في لبنان، عندما رفضت أن يكون التدخل الدولي ضمن إطار قوة تابعة للأمم المتحدة، كانت تريد أن تحرم الاتحاد السوفييتي من فرصة التحكّم بعمل قوة كهذه وأهدافها، كونه عضوا دائما في مجلس الأمن، وكون القبعات الزرق ستكون خاضعة للإرادة الأممية الجامعة، وليس للإرادة الأميركية والغربية.
الأمن وسلطة الدولة:
كانت بيروت لا تزال تنزف دماءً، حين وصل إليها الجنود الغربيون. بالطبع، أحد الأهداف الرئيسة كان توفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين في المخيمات، لعدم تكرار مجزرة صبرا وشاتيلا. كان انسحاب إسرائيل من بيروت هدفاً معلناً أيضاً للقوات متعدّدة الجنسيات. وهو أمر تحقّق في 26 سبتمبر/ أيلول، تحت الضغط الدبلوماسي الدولي، وعلى وقع عمليات “جبهة المقاومة”. بالإضافة إلى ذلك، كانت إحدى مهام هذه القوات “الأطلسية” تتمثل في مساعدة الجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية على ضبط الأمن، لكن من دون المشاركة المباشرة في ذلك. وعلى المدى الطويل، كانت هناك نيّة لمساعدة الدولة اللبنانية على إعادة بسط سلطتها الحصرية على كامل أرضها، ما كان يتطلب انسحاب جميع الجيوش الأجنبية من لبنان. بيد أن كل هذه الأهداف لم تتحقق. بدأت العراقيل تنكشف الواحدة تلو الأخرى. وكذلك الأخطاء الأميركية.
العقبات والأخطاء:
فرضت العقبة الأولى امتناع كل من سورية وإسرائيل عن الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة فوراً. وفّرت المماطلة الإسرائيلية ذريعة لدمشق، لكي ترفض سحب قواتها من لبنان. في الواقع، كانت إسرائيل تشترط انسحاباً سورياً من لبنان حتى تسحب جيشها، في حين كان الرئيس السوري، حافظ الأسد، يشترط انسحاباً إسرائيلياً مسبقاً، حتى يسحب جيشه. وكانت لعبة الشروط هذه تعجيزية، وحالت دون انسحاب أيٍّ من الاحتلاليْن آنذاك.
تتعلق العقبة الثانية بعدم توسيع النطاق الجغرافي لانتشار قوات متعدّدة الجنسيات، ليشمل بيروت الشرقية إضافةً إلى بيروت الغربية. كان الفرنسيون يصرّون على هذا التعديل لمهمة قوات متعدّدة الجنسيات. لكن إسرائيل رفضت ذلك، وسط تقاعس أميركي، فكانت النتيجة أنْ عجزت السلطة الشرعية اللبنانية، برئاسة أمين الجميل، عن السيطرة على المليشيات المسيحية التي كان يقودها بشير وليس أمين في السابق. كانت هذه الثغرة بمثابة نقطة ضعف للقوات متعدّدة الجنسيات وللسلطة الشرعية اللبنانية، لأنه كان من المفترض أن تسير عملية نزع سلاح المليشيات في كل من جهتي بيروت، الغربية والشرقية، بوتيرة واحدة، وبيد من حديد في المنطقتين، من دون تمييز، حتى يتحقّق هدف إعادة صون سلطة الدولة بشكل كامل وشامل.
العقبة الثالثة تتمثل بالأعمال الثأرية المتعمّدة التي قام بها الكتائبيون في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة الفلسطينيين و”حلفائهم المسلمين واليساريين”. وكانت التجاوزات “هناك تُرتكب بلباس الجيش اللبناني”، بحسب ما ورد في تقرير دبلوماسي فرنسي، رقم 187، في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1982. ولم تساعد هذه التصرفات على توفير أرضية ملائمة لانطلاق مسار المصالحة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين.
تتعلق العقبة الرابعة بتصرفات إسرائيل في منطقة الشوف في جبل لبنان، حيث يعيش ويتعايش الدروز والموارنة. منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1982، كانت هناك مؤشّرات على أن “من شأن عدم بدء الانسحاب الإسرائيلي” أن يزيد “مخاطر زعزعة الاستقرار والمواجهة في الشوف”، بحسب تقرير دبلوماسي فرنسي، رقم 220، في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1982. في محاولة لاستباق أي تدهور أمني خطير، وأي فتنة مارونية – درزية، فضّلت فرنسا توسيع النطاق الجغرافي للقوات متعدّدة الجنسيات من أجل تمكينها من مساعدة الجيش اللبناني على ضبط الأمن في منطقة الشوف لتجنب اقتتال طائفي كان يلوح في الأفق، على أن يجري إدراج المهمة هذه المرّة برعاية الأمم المتحدة. هذا ما تظهره تقارير وبرقيات دبلوماسية فرنسية عدّة عن تلك الحقبة. لكن الولايات المتحدة لم تستجب للطروحات الفرنسية.
نتجت العقبة الخامسة عما يمكن تسميته الهجوم المضاد من خصوم الأميركيين والغربيين وأعدائهم في لبنان، فالنظام السوري بدأ العمل على إعادة تعزيز نفوذه ونفوذ حلفائه في لبنان. وقد حصل ذلك بدعم عسكري سوفييتي، وبالتوازي مع تنفيذ خطة ممنهجة لبناء قاعدة نفوذ إيرانية، عبر وجود مباشر لخبراء من الحرس الثوري الإيراني وبواسطة ما سيعرف لاحقاً باسم حزب الله اللبناني. سواء تعلق الأمر بالدينامية السورية أو تلك الإيرانية، فإن التداعيات ستكون واحدة على وجود القوات متعددة الجنسيات ودورها: العام 1983 سيكون دموياً ومكلفاً جداً.
الرهان على الجيش اللبناني:
بالطبع، كان لدى واشنطن حساباتها، ولو أن التجربة دلّت على خللٍ ما فيها. هي كانت تريد فعلاً إحلال الأمن والاستقرار بشكل دائم في لبنان. لكنها، وبحسب السفير الفرنسي آنذاك، جان – مارك هنري، في كتاب مذكراته (Les jardiniers de l’enfer)، الصادر سنة 1984، كانت تراهن “ضمنياً على التحالف الإسرائيلي – الكتائبي للحفاظ على النظام في بيروت الغربية”، وهو ما نظر إليه هذا السفير باعتباره “خطأ كبيرا” في التقدير. في الواقع، بحثت إدارة ريغان في شأن فكرة توسيع النطاق الجغرافي لعمل القوات متعدّدة الجنسيات من أجل التصدّي للتحدّيات الأمنية كافة.
إلا أنها اكتفت، في المحصلة، بإقرار خطط لتعزيز قوة الجيش اللبناني، بحسب الباحثة الأميركية Gail Yoshitani في كتابها (Reagan on War. A Reappraisal of the “Weinberger Doctrine, 1980-1984)، الصادر سنة 2012. كانت واشنطن تراهن رسمياً إذاً على الجيش، وتنظر إلى دوره في ضبط الوضع بتفاؤل، وقد قدّمت له مساعداتٍ بقيمة 50 مليون دولار، أواخر خريف 1982، مخصّصة للأسلحة والتدريب، بحسب ما ورد في كتاب (The Multinational Force in Beirut, 1982-1984)، بإشراف كل من Anthony McDermott و(Kjell Skjelsbaek)، والصادر سنة 1991.
اتفاق 17 أيار:
كذلك، بدأ الأميركيون يفاوضون إسرائيل، في فبراير/ شباط 1983، بشأن انسحابها من لبنان، مقابل حصولها على ضمانات بشأن الأمن على حدودها. ويتمثل الهدف الفعلي هنا في رعاية اتفاقية سلام بين لبنان وإسرائيل، على أن تحظى بموافقة عربية، سعودية وسورية خصوصاً. حاولت إدارة ريغان إقناع إسرائيل بعدم وضع شروط للانسحاب، وبالتالي، سحب الذريعة التي تتسلح بها دمشق لسحب جيشها أيضاً. اتهم ريغان علناً إسرائيل، في 7 فبراير 1983، بأنها “تؤخّر بشكل غير مجدٍ” انسحاب جميع الجيوش الأجنبية من لبنان. وهدّدها بتجميد عملية تسليمها مقاتلات “أف-17″، بحسب ما ورد في مذكرات وزير الخارجية اللبناني الأسبق، إيلي سالم، بعنوان (Violence and Diplomacy in Lebanon: the Troubled Years, 1982-1988) الصادرة سنة 1995.
لم يؤثّر ذلك كله على الموقف الإسرائيلي. لكن، وبدلاً من التمسّك بمقاربة متوازنة وشاملة لحل مشكلة لبنان، مقاربة تقوم على إلزام كل من إسرائيل وسورية بالانسحاب الكامل والمتزامن من لبنان، كما كان يقترح وزير الدفاع الأميركي آنذاك، كاسبار واينبرغر، اتّخذت إدارة ريغان خياراً آخر. تمسّكت بضرورة توقيع اتفاق سلام منفرد بين لبنان وإسرائيل، وهو ما سيُعرف باتفاق 17 أيار. ضغطت على السلطات اللبنانية من أجل إقراره، علماً بأنه ينص على إقامة منطقة أمنية على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية تُشرف عليها لجنة مشتركة.
وكان معروفا آنذاك أن تقديم لبنان مثل هذا التنازل الأمني لإسرائيل سيُستَخدم كذريعة من قبل سورية للحصول على تنازل أمني مماثل. هنا، وقبل 17 مايو/ أيار 1983، ورد تصريح لوزير الخارجية الأميركية، جورج شولتز، يبدي فيه استعداد واشنطن للتباحث بشأن “بعض المسائل المشروعة”، التي تطرحها دمشق، لكنه طالبها بالانسحاب من لبنان وبالموافقة على الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي، بحسب ما أوردته صحيفة لوموند الفرنسية، في 13 مايو 1983.
بمعنى آخر، كانت واشنطن مستعدّة للموافقة على حل يمنح إسرائيل وسورية ضمانات أمنية على حدود كل منهما مع لبنان. لكن دمشق كان لديها طموح بالحصول على أكثر من مكاسب أمنية محدودة. لذا هي لم تقايض، وأعلنت معارضتها الاتفاق، فكان هدفها يتمثل في إعادة فرض هيمنتها على لبنان وإسقاط السلطة الكتائبية، مراهنةً على حلفائها المحليين. وكان هؤلاء قد أطلقوا بالفعل حملة سياسية وعسكرية ضد القوات متعدّدة الجنسيات، وضد حكم أمين الجميل، وضد اتفاق 17 أيار وساهمت هذه الحملة في تغيير المشهد السياسي والأمني اللبناني بشكل غير ملائم للأميركيين والغربيين.
ضربات موجعة:
كانت الضربة القاسية الأولى التي تلقتها واشنطن في بيروت باستهداف سفارتها بهجوم انتحاري، في 18 إبريل/ نيسان 1983، أودى بحياة 66 شخصاً. تُنسَب هذه العملية لحزب الله ومن خلفه إيران. بعد ذلك، تعرّضت قوات متعددة الجنسيات لعدة عمليات، ما أدّى إلى مقتل جنود أميركيين وفرنسيين، في صيف وخريف 1983.
كان هناك ضربة ثانية أظهرت فشل السياسة الأميركية في لبنان، حين اندلعت حرب الجبل في سبتمبر/ أيلول بين المليشيات الدرزية والمارونية، متسبّبة بمذابح وبعمليات تهجير واسعة النطاق. شارك الجيش السوري مباشرة في هذه الحرب لمؤازرة حلفائه وتجنّب هزيمتهم. في المقابل، شاركت القوات متعدّدة الجنسيات في الحرب، واستهدفت المليشيات الدرزية واليسارية، ومواقع للجيش السوري أيضاً. صحيح أن تبرير واشنطن هذا التدخل في الحرب استند إلى حجّة دعْم الجيش اللبناني، أي الشرعية اللبنانية، ضد قوى مليشياوية. لكن هذه الحرب عبّرت عن مدى حدّة الانقسام اللبناني الداخلي على خلفية طائفية. التبرير قانوني من جهة، لكن على المستوى السياسي فإن انزلاق الأميركيين والغربيين في مستنقع الحرب الأهلية، جعل القوات متعدّدة الجنسيات طرفاً في عملية اقتتال لبناني – لبناني، بينما كان نجاح مهمتها يتطلب عدم الانحياز لأي طرف ضد آخر.
كانت الضربة الثالثة قاضية. بعد فشل واشنطن في الحصول على انسحاب الجيوش الأجنبية من لبنان، وفشلها في انتزاع معاهدة سلام بين بيروت وتل أبيب، وبعد تعثر مسار المصالحة الوطنية اللبنانية، وصل التصعيد العسكري ضد القوات الأطلسية في بيروت الغربية إلى ذروته في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1983.
في ذلك اليوم، انفجرت شاحنتان مفخّختان بالقرب من مقر القوات الأميركية ومقر القوات الفرنسية في منطقتين مختلفتين بمحيط بيروت. تسبّب الهجوم بمقتلة لم يكن في وسع الغربيين تحملها. أنْ تنجح أطراف خارجية (إيران وسورية) بالتحالف مع طرف محلي (حزب الله) بـ”اصطياد” 241 جندياً أميركياً من المارينز، و58 جندياً فرنسياً، بهذه السهولة، يعني أن الجهود التي بذلتها القوات متعدّدة الجنسيات من أجل إعادة بسط سلطة الدولة اللبنانية في بيروت، باءت بالفشل. وكانت هذه الخسارة بالأرواح مرتفعة جداً، الأمر الذي وضع الأميركيين أمام خيارين: زيادة عدد القوات الأميركية والانزلاق أكثر في المستنقع اللبناني، حيث أظهر حلفاء سورية وإيران قدرتهم على التسبّب بالأذى المؤلم؛ أو الانسحاب.
في المحصلة، وبعدما استمرّت الهجمات المسلحة ضد القوات متعدّدة الجنسيات، أعلنت إدارة ريغان، في 7 فبراير/ شباط 1984، عزمها على سحب “المارينز” من البرّ اللبناني، والتمركز مؤقتاً في البحر فقط. كان ذلك تدبيراً يهدف إلى حفظ ماء الوجه، من دون وجود نية فعلية بالعودة. إثر هذا القرار، لم يكن في وسع لندن وروما وباريس إلا أن تحذو حذو واشنطن، ولو في أوقات مختلفة. هكذا، بين أوائل فبراير/ شباط وأواخر مارس/ آذار 1984، انسحبت القوات متعدّدة الجنسيات من لبنان، تاركةً خلفها بلداً يرزح تحت الاحتلالين، الإسرائيلي والسوري، وضحيةً لحرب أهلية مستمرة بين طوائفه.
أرادت واشنطن هذا التدخّل الأطلسي من أجل استعادة لبنان دولة حليفة للغرب، فحصدت هزيمة عسكرية موجعة، فضلاً عن هزيمة سياسية أدّت إلى تعزيز الهيمنة السورية ثم الهيمنة الإيرانية في لبنان.
* باحث أكاديمي وكاتب لبناني
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.