حسين عبد العزيز *
ما زالت الكتابة العربية عن العلمانية قليلة من حيث العدد، على الرغم من الاهتمام الذي حظيت به على مستوى الفكر في السنوات العشر السابقة، بعيّدَ اندلاع موجات الربيع العربي.
تراوحت القراءة العربية للعلمانية بين قراءة بسيطة (حسن حنفي)، أو غير مبالية بها (محمد عابد الجابري)، وبين قراءة ارتفعت بها إلى مستوى الرؤية الإبستيمولوجية (عادل ضاهر)، والدفاع المستميت عنها في صيغة راديكالية (محمد أركون)، وبين قراءة وصلت بين علمانيتين (عبد الوهاب المسيري)، إلى قراءة للعلمانية ذات مستوى عقلاني وموضوعي عميق تناولتها على المستوى النظري والتاريخي والتطبيقي في الفضاء الأوروبي القديم والمعاصر وفي الفضاء العربي المرجو، لتشكل بذلك قطيعة مع مجمل القراءات السابقة (عزمي بشارة).
حسن حنفي:
يقدّم حسن حنفي في كتاب المقالات المشترك مع محمد عابد الجابري “حوار المشرق والمغرب”، قراءة تاريخية سريعة للصراع بين الديني والسياسي في أوروبا خلال العصور الوسطى، ليستخلص أن العلمانية مقولةٌ غربيةٌ نشأت للإجابة عن أسئلة غربية ملحّة هي من صميم التاريخ الأوروبي المسيحي. ويرى أن تصدير العلمانية إلى عالمنا العربي جاء من بوابة المسيحيين الشرقيين (فرح أنطوان، شبلي شميل، سلامة موسى، وغيرهم)، بهدف فصل الدين عن الدولة لأغراضٍ تتعلق بحماية الأقليات، ثم لحقهم مفكّرون مسلمون (قاسم أمين، علي عبد الرازق، زكي نجيب محمود، وغيرهم). ورأى حنفي أن نقل العلمانية الغربية إلى بيئتنا أدّى إلى نشوء مقابلٍ لها هو الحاكمية. وهنا تساءل، كيف يمكن تحقيق العلمانية وتطبيق الشريعة في آن واحد في العالم العربي، منعا للازدواجية بين الدين والدنيا؟
بدا الجواب عنده بسيطا، لا يحتاج إلى عناء تفكير وبحثٍ واستبطان، فالشريعة الإسلامية وضعية، تقوم على تحقيق الصالح العام، وهي مقاصد الشريعة التي حدّدها الأصوليون بالضروريات والحاجيات والتحسينات، والضروريات خمس: المحافظة على الدين والحياة والعقل والعرض والمال، وهي مقوّمات الحياة، وهذه الضرورات الخمس يأخذها العلمانيون من الحضارة الغربية، وليس من الشريعة الإسلامية.
وبناء عليه، يذهب حنفي إلى أن الإسلام ديني علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانيةٍ زائدةٍ مستمدّة من حضارة أخرى… ويخلط حنفي بين العلمانية مصطلحا سياسيا قائما على الفصل بين الدولة والدين لجهة الوعي بهذا الفصل، والتدابير الدنيوية الموجودة في كل الأديان المحورية، بل وحتى في الأديان السابقة، لأن الخطاب الديني موجّه إلى البشر من حيث إنهم بشر يعيشون في مجتمع قائم على علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية دنيوية، وهو خطابٌ يقدّم مقولات قيمية لما ينبغي أن يكون عليه السلوك الاجتماعي من جهة، ومقولات روحية تتعلق بالإيمان بالله من جهة أخرى.
وعليه، القول إن الإسلام دين ودنيا شيء، وأنه دين علماني شيء آخر تماما. صحيح أن الإسلام نظام للحياة الخاصة والعامة معا، فهو يقوم في المستوى السياسي على البيعة والشورى، وفي المستوى الاقتصادي على المساواة والعدالة الاجتماعية، وفي المستوى القانوني على فصل القضاء، كما كتب خلال مناقشته لندوة “الدين والدولة في الوطن العربي” التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية عام 2013، لكن كل هذه المستويات مغلفة بخطاب ديني مصدره الشريعة.
نعم، ثمّة تمايز في المجالات داخل الحكم الإسلامي أكثر وضوحا وتميزا مما هو عليه في أوروبا العصر الوسيط، لكن التمايز العملي بحكم مقتضيات الحياة الاجتماعية شيء والعلمانية شيء آخر تماما.
محمد عابد الجابري:
على غرار حنفي، يعتبر الجابري مسألة العلمانية في العالم العربي مزيفة، بمعنى أنها تعبّر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات، والحاجات التي يقصدها الجابري هي الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والعقلانية السياسية كحاجة موضوعية تصدر عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية. ويذهب إلى أن العلمانية نشأت في الغرب من أجل فصل الدولة عن الكهنوت المسيحي، وهي تجربةٌ لم يعشها العالم الإسلامي. وبالتالي، لا حاجة بنا للعلمانية، كما أن رفضه العلمانية ناجم من حضور الإسلام العقدي والثقافي في المجال الحضاري العربي وحتمية مراعاة ذاك الحضور في أي مشروع للتجديد أو التغيير.
يصعب تماما فهم أطروحة الجابري، هل هو فعلا اختزل العلمانية بالخصوصية الأوروبية فقط، وتجاهل كونها مقولة عالمية كمقولة الديمقراطية والليبرالية؟ أم أنه كان مسكونا بالوحدة الإسلامية، وأن العلمانية قد تؤدّي إلى تفتيت هذه الوحدة، إذا ما طرحت أو فرضت قبيل نشوء نظام ديمقراطي. هل تنطلق رؤية الجابري هذه من خصوصية مجتمعه المغاربي المتجانس، الذي لا يتطلب تطبيقا مستعجلا للعلمانية مقارنة بالديمقراطية؟
لكن، في كل الأحوال، ليست العلمانية مجرّد فصل بين مؤسستين، سياسية ودينية، فحسب، بل فصل الدين ذاته عن الدولة، بغض النظر إن كان الدين ممأسساً في كهنوت أم لا.
محمد أركون:
مع محمد أركون، تصبح عملية فهم العلمانية والعلمنة عملية عسيرة على الفهم، حيث تتداخل الممارسة العملية التاريخية للعلمنة مع مفهوم العلمانية، وتتداخل العلمنة مع التاريخ الإسلامي في تشكله السياسي.
ينطلق أركون في فهمه للعلمنة من صيرورتها كما مورست على أرض الواقع في السياق التاريخي الأوروبي، وفي سياقات أخرى لا تنتمي للفضاء الأوروبي (التاريخ السياسي الإسلامي). وفي المقابل، يقول إنه لا يمكن اختزال العلمنة بعملية الفصل بين الديني والسياسي، فهي أبعد وأعمق من ذلك، لأنها ترتبط بالبحث عن الحقيقة، ما يجعلها نظرية في المعرفة، وقد قال إن العلمنة هي موقف للروح، وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة، وهي بالتالي مسألة تخصّ المعرفة.
تكمن إشكالية العلمانية والعلمنة عند أركون عند هذين المستويين، النظري والعملي. على الصعيد العملي، يعتبر أن العلمنة حالة تاريخية عرفتها كل البشرية، فالتمايز بين الديني والسياسي ظاهرة تاريخية تعمّ المجتمعات. ومن هنا كانت الدولتان الأموية والعباسية علمانيتين برأيه، لأنها فرضت سلطتها على أرض الواقع بالقوة، والإشكالية تكمن في أن هذا الواقع العلماني الإسلامي لم يجر له تنظير فلسفي فقط ليس إلا.
على الصعيد النظري، تظهر الإشكالات أكثر، فهو وإن جعل العلمانية نظرية في المعرفة، فإنه رفض، في المقابل، تحويل العلمانية إلى أيديولوجيا تحدّ من حرية التفكير كما في صيغتها اللائكية الفرنسية، وهي الصيغة التي اعتبرها لاحقا مكسبا عظيما للحداثة، ودافع عنها على اعتبارها تحرّض على التفكير والتأمل. وهذه اللائكية الفرنسية، في نظره، ليست معادية للدين، لأنها لم تمنع الدين وتحاربه في المجتمع المدني، كما حدث في علمانياتٍ أخرى، مثل العلمانية الشيوعية.
بناء على ما تقدّم، ثمة محطتان يجب التوقف عندهما في رؤية أركون إلى العلمنة والعلمانية: الأولى أنه اعتبر أي تمايز بين الديني والسياسي علمنة، وجعله هذا الخلط يعتبر الحكم الإسلامي علمانيا، فلحظة الخلافة هي لحظة العلمانية. والثانية اعتباره العلمانية نظرية في المعرفة مهمتها البحث عن الحقيقة، وهذا يتعارض مع المحطة الأولى التي تجعل كل تمايز بين الديني والسياسي علمنة.
مع أركون، يصبح تلمّس معنى العلمانية والعلمنة والدنيوية أمرا صعبا، حيث تتداخل التجارب التاريخية في الفضاءات المختلفة تحت عباءة المصطلح الواحد.
عادل ضاهر:
يأخذ مفهوم العلمانية عند عادل ضاهر بعدا فلسفيا واضحا، فالعلمانية نظرية فلسفية، والسبب في هذه الرؤية أنه يميّز بين السمات الجوهرية للمفهوم والسمات الأخرى غير الجوهرية، وهو تمييزٌ ضروري لفهم المعنى الجوهري لمصطلح العلمانية.
السمة الجوهرية، والتي يسميها النواة السيمانتية للمفهوم، هي تلك السمة الأبسط للمفهوم ذات الأسبقية المنطقية على كل السمات الأخرى، إنها المكوّن الأساسي للمفهوم، ومنها تشتقّ كل السمات الأخرى، أما هي فلا تقبل الاشتقاق. وهذه النواة السيمانتية أو السمة الجوهرية للعلمانية، هي المبدأ الذي يقضي بإعطاء الأولوية للاعتبارات العقلية في كل ما له علاقة بالشؤون الدنيوية.
غير أن جعل العلمانية قائمةً على مبدأ واحد، هو أولوية الاعتبارات العقلية، قد يجعل جزءا كبير من البشر علمانيين، لأنه حتى الإنسان المتديّن يعيش حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفق اعتبارات العقل، أي وفق القوانين العلمية القائمة، من دون أن يتخلّى عن رؤيته الدينية رافدا قيميا وروحيا يغني حياته بالمعنى.
على غرار أركون، يرفض ضاهر اختزال العلمانية بالأغراض التي استهدفت تحقيقها الحركات العلمانية في الغرب (الفصل بين الدين والسياسة)، ذلك أن قضية العلمانية تتعلق بالموقف الصحيح من طبيعة الدين وطبيعة الإنسان وطبيعة القيم. ومن هنا، ليست عملية الفصل بين الدين والسياسة سوى تجسيد لفصل أعمق، فصل إبستيمولوجي بين الدين والسياسة.
هذا الفصل هو الذي يقوّض الأسس المعرفية التي يقوم عليها مفهوم الدولة الدينية، فالعلماني هو ذاك الذي يعتقد بأسبقية العقل على النقل. ولذلك، جاء رفض عادل ضاهر الدولة الدينية مفهوميا وعمليا من بوابة التنظير الفلسفي للعلمانية باعتبارها موقفا ونظرية إبستيمولوجية تتعارض بنيويا مع منطوق الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية، لأن الدولة الدينية لا تقوم على اعتبارات عقلية.
يفرّق ضاهر بين العلمانية اللينة، وهي التي تنبع رؤيتها من اعتبارات تاريخية أو سوسيولوجية أو سياسية، والعلمانية الصلبة، وسمّاها “روحية العلمانية”، وهي التي تأخذ الاعتبارات الفلسفية والمنطقية فوق أي اعتبار. ووفقا لهذه الرؤية، إما أن يوجد إنسانٌ متدينٌ أو إنسان علماني، ولا وجود لنمط ثالث يجمع بين الاثنين. إنه فصل حدّي لا يستقيم مع تركيبة الإنسان العقلية والروحية المعقّدة، ولا يستقيم مع تركيبة الإنسان الدينية والاجتماعية.
عبد الوهاب المسيري:
يعتبر عبد الوهاب المسيري أكثر المفكرين العرب إشكالية حول طرح العلمانية، فتقسيمه العلمانية إلى جزئية وشاملة أربك الطرح العلماني على المستويين النظري والعملي معا. العلمانية الجزئية تعني فصل الدين عن الدولة، فيما لا تعني العلمانية الشاملة فصل الدين عن الدولة فحسب، بل فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة فقط، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان.
يعتبر المسيري العلمانية الشاملة خاصّة بمجتمعاتٍ غربية محدّدة، وهي لا تنطبق ولا يريد لها أن تنطبق على العالم الإسلامي. أما العلمانية الجزئية فهي موجودة في كل المجتمعات عبر التاريخ، لأنها تقوم على تمايز الدين والسياسة. وبالتالي، هي ليست معادية للدين. وهذا الرأي الذي جاء من شخصية تنتمي إلى دائرة الفكر الإسلامي جعل العلمانية الجزئية تحظى بقبول داخل الأوساط الإسلامية، وقد بدا ذلك واضحا عند راشد الغنوشي الذي قبل العلمانية عملية إجرائية ليس إلا.
تبدو مقاربة المسيري للعلمانية مجتزأة وغير منضبطة، فالفصل بين الدين والدولة مقتصر لديه على الشخوص فقط، فهو يطالب بأن يكون الإسلام المرجعية الأساسية للدولة.
عزمي بشارة:
ليست العلمانية خارج المفكّر فيه عند عزمي بشارة، بل جزءٌ أصيل في تفكيره على غرار الديمقراطية والليبرالية، لكنه ينتهي، وفق شروط الإمكان التاريخي، إلى ما انتهى إليه محمد عابد الجابري على ما بينهما من اختلاف، من حيث إنه إذا أدّى طرح العلمانية في هذا المفصل التاريخي الذي يمر به العالم العربي بعيد الثورات إلى توتر يعيد استفزاز الهوية والصراعات الطائفية، فيمكن عندها تأجيل المطلب العلماني، لصالح التركيز على الديمقراطية في البلدان العربية التي تشهد انتقالا من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي.. إنها مرحلة انتقالية ذات أهمية كبرى، تتطلّب تحديد الأولويات التاريخية.
حدث مع بشارة انزياح معرفي وعقلاني لجهة طرح العلمانية، فمعه لم تعد العلمانية نظرية إبستيمولوجية يضطرّ من خلالها الإنسان للقطع مع هويته وبنيته المعرفية الدينية (عادل ضاهر، محمد أركون)، ولم تعد في المقابل نفيا للروح (طه عبد الرحمن)، ولم تعد خارج المفكّر به (محمد عابد الجابري).
ليست العلمانية ذلك كله، وقيمة المفردة، حسب بشارة، ليست قائمة في ذاتها، بل في الاصطلاح عليها، ويمكن الاستغناء عنها إذا خشي المشرّعون من حمولاتها الأيديولوجية. فإذا كانت العلمانية، والكلام لبشارة، تقوم على فهم الظواهر بقوانينها، والتعامل مع الدنيا من دون الحاجة إلى إقحام الغيب، وإذا كان تجليها الأيديولوجي يتمحور حول قضية التعامل مع الدولة بموجب آليات السياسة الدنيوية، حيث لا تسيّرها اعتبارات دينية، وإذا كانت نتاج صيرورة تمايز في الوعي، وبين المؤسسات تسمّى العلمنة، فإنها بمعانيها هذه ليست خاصية ثقافية للغرب.
في مقطع مميز، يختصر عقلانية طرح العلمانية عربيا، كتب بشارة، في الصفحة 82 من كتابه “الدين والعلمانية في سياق تاريخي”، الجزء الثاني/ المجلد الأول: “لو حصرنا تعريف العلمنة في التمايزات بين المجالات المختلفة لدخل كثيرون من المتديّنين في فئة العلمانيين، فالعلمانية كفكر يؤكّد ضرورة إعمال العقل في فهم قوانين المجالات المختلفة من داخلها وفصلها عن الدين، يجعل مفكّرا إسلاميا أزهريا مثل علي عبد الرازق علمانيا بامتياز. وهو علماني بامتياز، لأنه علماني مؤمن ومتدين، ففي حالة هؤلاء أمثال عبد الرازق تمتاز العلمانية وتتميّز عن ظواهر مثل الإلحاد والمادية وغيرها.
هنا نجد تمييزا أدقّ للعلمانية، لأنهم في شخوصهم يجسّدون الفرق بين العلمانية والإلحاد. أما إذا اعتمدنا تعريف عادل ضاهر للعلمانية باعتبارها موقفا فلسفيا إبستيمولوجيا يتلخص باستقلال العقل ومرجعيته المطلقة في المعرفة النظرية والعملية، فإن علي عبد الرازق لا يكون علمانيا، لأنه لا يعتبر النص الديني مرجعا في السياسة، لكنه مرجعه حتى في تبرير موقفه هذا، وموقفه من علاقة الدين بالدولة.
وبموجب تعريفنا العلمانية لا يفترض أن يهمّنا ذلك، فهو يقول إن الدين ترك المجالات الأخرى للعقل ليحسم بها. وهذا يكفي لتعريف المقاربة العلمانية للأمور، ولا يفترض أن نعتبر العلماني هو من يحكم العقل أيضا في شأن الإيمان الديني، فعندها لا يبقى فرقٌ بين العلماني وغير المؤمن”.
لا تعني العلمنة انعدام الإيمان، كما لا تعني انتشار الإلحاد، فهذه تعبيراتٌ عن مرحلة تاريخية خاصة بأوروبا، لها ظروفها الخاصة جدا. تعني العلمنة، وفقا لبشارة، أن الإنسان الحديث يصبح عند تناوله موضوعات النشاط والتفكير الإنسانيين أكثر اعتمادا على علومها وقوانينها ومنطقها الداخلي منه على الإيمان نفسه.
وفي رؤيته لخصوصية العالم العربي الإسلامي، يحذر بشارة من فصل الدين عن السياسة، لأن الدين والسياسة قائمان ضمن نظام ضبط اجتماعي رمزي أو هوياتي، يتعامل مع الأيديولوجيا والمقدّس والهويات والرموز والعصبيات في المجتمع وفي الدولة، فكيف يمكن أن ينفصلا من دون علمنة الوعي؟ ولذلك، الأولوية في مجتمع يمتلك ثقافة دينية تكمن في تحييد الدولة دستوريا في شؤون الدين، شرط ألا يفصل الدين عن السياسة في المجتمع، ففرض فصل الدين عن السياسة سوف يتحوّل إلى قمع وإرهاب، كما أنه يتحوّل في بعض التجارب إلى عملية نزع للهوية. أما تحييد الدولة في الشؤون الدينية فشأن آخر يمكن فرضه بالقانون وحتى في الدستور، وينطبق ذلك على الفصل بينها وبين المؤسسة الدينية.
هنا، يقترح بشارة البدء بفرض الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة، أو بين الانتماء الطائفي لفرد ومواطنته، وبعدها يمكن أن تتشكّل الحياة الدستورية ذاتها، وما يمكن تشريعه من قوانين قبل علمنة الوعي وفرضه من الدولة، هو منع الدولة، أو أي قوة سياسية من فرض الدين بواسطة الدولة، هذه المرحلة من علمنة الدولة والقانون ممكنة التطبيق حتى قبل بلوغ المجتمع وأنماط الوعي فيه درجاتٍ عاليةً من العلمنة.
* كاتب وإعلامي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.