الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 سلام الأوهام مرة أخرى!

عبد الله السناوي *

تلوح في الأفق السياسي محاولات لإعادة إنتاج نوع من السلام يكاد يشبه ما جرى قبل ثلاثين سنة في «مؤتمر مدريد»، وما تبعه من مفاوضات سرية في «أوسلو» أفضت إلى دخول القضية الفلسطينية دوامات متعاقبة من «سلام الأوهام».

بين العاصمتين الإسبانية والنرويجية جرت مناورات ومساومات وتنازلات جوهرية في صلب القضية الفلسطينية دون أن يترتب عليها أي سلام على أي أرض، كأنه «سلام بلا أرض» بتعبير المفكر الفلسطيني الراحل «إدوارد سعيد»، أو «سلام الأوهام» بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل».

التاريخ لا يعيد إنتاج نفسه، فالدنيا تغيرت وموازين وحسابات القوى في العالم والإقليم اختلفت، لكن دروسه تدق صفارات الإنذار في المكان حتى لا تتكرر الخطايا القديمة من جديد.

لم يسفر «مؤتمر مدريد» عن شيء، ولا كان وارداً أن تلتزم إسرائيل بشيء.

تحدثت في المباحثات متعددة الأطراف، التي ضمت الوفود العربية (الأردن وسوريا ولبنان) عن التطبيع والتعاون الاقتصادي الإقليمي قبل أن تتحدث في أية انسحابات يقتضيها الحديث عن السلام!

لم تعترف أن هناك فلسطينيين، أصرت أن يُمَثلوا ضمن الوفد الأردني وألا يكون من بينهم أحد من بين أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، ومع ذلك طرحت القضية نفسها على الرأي العام العالمي بقوة الحقائق. خشيت القيادة الفلسطينية في تونس من سحب البساط من تحت أقدامها، أو أن تكون هناك قيادة بديلة، فقفزت إلى «أوسلو» من خلف الوفود العربية، وتوصلت إلى أسوأ اتفاق في التاريخ!

لم يكن ممكنا إجهاض نتائج الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجر، دون اتفاقية «أوسلو».

شيء مقارب قد يحدث الآن بهدف إجهاض انعطافة ما جرى في الأراضي المحتلة حيث تأكدت وحدة الشعب والقضية بالسلاح والاحتجاج والوجدان على مجمل فلسطين التاريخية والشتات.

في أول مقاربة للمستجدات العاصفة بدت الإدارة الأمريكية الجديدة بلا خطة عمل محددة، أو أفكار واضحة تقود خطواتها القادمة. بدت زيارة وزير الخارجية «أنتوني بلينكن» للمنطقة أقرب إلى «عملية استكشاف» لما يمكن أن تطرحه الولايات المتحدة مستقبلاً لحلحلة أزمة مزمنة تهدد وتنذر بانفجارات أوسع وأخطر وقد تلحق بإسرائيل هزيمة استراتيجية لا يمكن تحملها. تضمنت أفكاره الأولية مفارقات وتناقضات يصعب أن تضمها خطة عمل متماسكة تفضى إلى نوع من السلام قابل للحياة.

قال- إنه قد جاء للمساعدة في تثبيت وقف إطلاق النار، وهذا هدف يكاد أن يكون هناك إجماع دولي وإقليمي عليه. وقال- إن بلاده سوف تعمل على بناء منظومة دولية تحشد المساعدات لإعادة إعمار غزة، التي تعرضت منازلها وأبراجها وبنيتها التحتية لأوسع عملية هدم وترويع جراء القصف الهمجي الإسرائيلي، دون إدانة العدوان نفسه، وما ألحقه بالمدنيين العزل نساءً وأطفالاً من تقتيل وتشريد حسب تقارير المنظمات الدولية الإنسانية.

كان ذلك تناقضاً في بنية الكلام الدبلوماسي الأمريكي، باسم «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، دون أن يمتد الحق نفسه إلى الضحية المعتدى عليها!

المسألة الإنسانية مهمة، لكن القضية في البدء والمنتهى قضية تحرر وطني لشعب رازح تحت الاحتلال. ثم كان استبعاد حركة «حماس»، التي تسيطر على قطاع غزة المحاصر، من جهود الإعمار، إمعانا في مجافاة الحقائق على الأرض. لا يمكن تمرير أية مساعدات عن غير طريقها، كما لا يمكن الحديث عن أي سلام بدون أن تكون طرفاً فيه، وإلا فإنه تحليق جديد في أوهام السياسات والرهانات وانزلاق إلى فشل محتم.

يتبدى عند ذلك المنزلق مفارقة مواقف بين الخارجية الأمريكية وشركائها الأوروبيين، الذين يدعون إلى صيغة حوار غير مباشر عبر مصر ودول عربية أخرى مع «حماس» يمهد لما بعده.

الوزير الأمريكي ألمح للمعنى نفسه، دون أن يذكره بصريح العبارات، عندما دعا لإعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس حتى يكون ممكناً الحوار مع الفلسطينيين، بينهم «حماس» بالضرورة، دون حاجة إلى السفارة الأمريكية، التي نقلت إلى القدس المحتلة برعاية «دونالد ترامب». كان ذلك نصف إقرار بما ترتب على ذلك النقل من تجاوزات قانونية واستراتيجية فادحة، لكن ما حدث قد حدث ولا تراجع أمريكي عنه.

وقفْ التصعيد في القدس كلام دبلوماسي آخر يفتقر إلى أية التزامات تلجم جماعات المستوطنين مدعومين من الأمن الإسرائيلي عن التحرش بالمسجد الأقصى وممارسة التهجير القسري بحق الفلسطينيين في حي «الشيخ جراح». التحرش عاد مجدداً عقب توقف العمليات العسكرية وحملات الاعتقال شملت مئات الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر في المدن العربية، أو المختلطة.

ما تريده إسرائيل «تعزيز التطبيع»، هكذا بالحرف تحدث «نتنياهو» أمام «بلينكن» في مؤتمر صحفي مشترك، دون أن يكون مستعداً لدفع أي استحقاق.

باليقين فإن التطورات العاصفة وجهت ضربة مزلزلة لهرولة التطبيع، فلا إسرائيل اليد الطويلة، التي تتحكم في مصائر المنطقة- كما ثبت بميادين المواجهات- ولا هي دولة متماسكة تضمن مستقبلها حيث بدأت ترتفع داخلها تساؤلات عن قدرتها على مواجهة أية أزمات أكثر اتساعاً. الكلام الإسرائيلي عن قدرتها على التصرف بمفردها لمنع حيازة إيران للسلاح النووي يتجاوز قدرة الدولة العبرية، التي بدت في حالة انكشاف استراتيجي أمام صواريخ المقاومة المسلحة، رغم فوارق القوة والتسليح والقبة الحديدية، التي عجزت عن الحد من خطورتها.

بصورة أو أخرى فإن حركة الحوادث مرشحة لإعادة استنساخ «مؤتمر مدريد»، الذى عقد خريف (1991)، أحاديث عن السلام دون أن يكون هناك سلام، أو شبه سلام، واستهلاك ما تحقق في المواجهات الأخيرة داخل سراديب لا تعرف أولها من آخرها، بلا آليات تفاوض معلنة وجداول زمنية ملزمة ومرجعيات دولية تحترم.

الأجواء الدولية والإقليمية، التي استبقت «مؤتمر مدريد»، تكاد تتلخص في ثلاثة تطورات جوهرية:

الأول، تصدع جوهري في بنية النظام العربي بعد اجتياح الكويت وحصار العراق وعزله تمهيداً لضربه وتقسيمه. كان ذلك داعياً- بعد اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي- إلى محاولة إنهاء الصراع نفسه بنوع من السلام لا يؤسس دولة على أرض، أولها سيادة على قرار.

الثاني، تصدع الاتحاد السوفييتي السابق بعد سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية وجناحها العسكري حلف «وارسو» وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي بمفردها. لم يكن للاتحاد السوفييتي، وهو يحتضر، أية أدوار باستثناء جلوس ممثليه على منصات المؤتمر!

الثالث، انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بأجواء ما بعد الحرب الباردة، وكان ذلك داعيا إلى محاولة أن تكون هناك مقاربة مماثلة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.

في الأحوال المستجدة الولايات المتحدة ليست وحدها، كما كان الحال في «مدريد». على الأغلب سوف يسند إلى الرباعية الدولية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) مهمة الدعوة إلى حوار يستأنف مباحثات السلام.

روسيا الطموحة تحاول أن تتمركز في قلب تفاعلات الشرق الأوسط، والاتحاد الأوروبي يحاول أن يبحث عن أدواره ومصالحه قريباً من الولايات المتحدة لكن ليس داخل عباءتها، والصين المنافس القوى على زعامة النظام الدولي الجديد تنظر إلى ما قد يحدث ودورها فيه.

المعضلة الكبرى في أحاديث السلام المنتظرة أن العالم العربي ممزق؛ مشرقه النار مشتعلة فيه ومغربه منكفئ على نفسه، فيما القلب مصر تحاول ترتيب أولوياتها وقضية سد النهضة تضغط على أعصابها. على الجانب الآخر فإن القيادة الإسرائيلية الحالية لا تقبل بـ«حل الدولتين» ويستحيل عليها تقبل «فكرة الدولة الواحدة»، ليست مستعدة أن تتنازل عن أي شيء.

في «مؤتمر مدريد» كان «نتنياهو» متحدثا رسميا باسم الوفد الإسرائيلي، الذى لم يكن رئيسه «إسحق شامير» مستعداً أن يقدم أدنى تنازل حتى لو استمر الفلسطينيون في التفاوض لعشر سنوات، كما يروى في مذكراته وزير الخارجية المصري بذلك الوقت «عمرو موسى».. السياسة نفسها سوف تُتبع هذه المرة إذا ما قدر أن يلتئم مؤتمراً مماثلاً.

في «مؤتمر مدريد» اكتسب التمثيل الفلسطيني شرعيته من منظمة التحرير الفلسطينية، رغم ما أبدته قيادتها من حساسيات مفرطة لا لزوم لها، هذه المرة قضية الشرعية تطرح نفسها بإلحاح غير مسبوق.

الشرعية تستدعى وحدة سياسية فلسطينية، كما التنبه إلى عدم الوقوع مجدداً في الأفخاخ القديمة.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.