فيصل عكلة *
“مع حلول ساعات المساء، يشتدّ البرد وتبدأ مدافئ النايلون والبالة بنفث دخانها الملون، عندها ترتفع حدة الربو عندي، وأشعر ضيقًا بالتنفس وأضطر لاستخدام البخاخ بشكل متكرر وطوال السهرة”.
ذلك ما قاله أبو حسن لصحيفة إشراق في زيارتنا المسائية له وسط السعال المتقطع وهو يضع بخاخ الربو جواره بعد أن ضغطه عدة مرات في فمه ليفتح مجرى التنفس الذي يٌضيق عليه أنفاسه، وأضاف أبو حسن النازح من ريف المعرة الشرقي منذ أربع سنوات والمقيم في مخيم الأمل القريب من مدينة الدانا الحدودية:
“غلاء الوقود بكافة أنواعه أرغم سكان المخيمات البحث عن البديل ووجدوا ضالتهم في ما يجمعه أبناؤهم خلال فصل الصيف من الكرتون والبلاستيك والنايلون، إضافة إلى أن البعض اشترى الألبسة المستوردة(البالة) لاستخدامها في التدفئة ومنهم من يستخدم الفوط (الحفوضات) لنفس الغرض، وبإمكانك معرفة نوع التدفئة من شكل عمود الدخان الذي يصعد من مدفأتهم”.
في كل مساء ومع حلول الظلام تظلل المخيم طبقة من الدخان الملون، تجعل كل من يجول بالمخيم يعاني من ضيق التنفس، حتى أن كثافة الدخان تدخل الخيم وتسبب مزيدًا من الضيق للناس وخاصة الأطفال الصغار وكبار السن.
لم يقتصر التلوث في مناطق المخيمات على أدخنة المدافئ بل تعداها إلى المقالع الحجرية، التي تنتشر في كل مناطق المخيمات الجبلية وخاصة في منطقة “دير حسان” المكتظة بالمخيمات والمحاطة بالمقالع من كل الجهات، والعمل في تلك المقالع يعتمد على استخدام المتفجرات لتفتيت الصخر، ثم استخدامه في البناء وترميم المباني ورصف الطرقات.
ذلك ما يسبب تصاعد الغبار وانتشاره، ليملأ أجواء المنطقة المحيطة بذرات الغبار الأبيض المتناثرة حتى وصل تأثيرها على أنها تكسو وجوه الناس، تقول أم محمد التي تقيم في مخيم دير حسان والنازحة من سهل الغاب أنها تضطر لشطف الأرض عدة مرات في اليوم دون جدوى، فالغبار يعود ليكسو الأرض ويغطي الأواني الأمر الذي يفرض علينا غسل كل شيء قبل استخدامه، وبينت لنا أم محمد أن هناك أذى آخر من المقالع:
“قوة التفجيرات الصادرة من المقالع وقربها من المخيمات تسبب تشققات في جدران البلوك المحيطة بالخيم أو انهيارها، وقد تصل بعض الحجارة المتناثرة شوارع المخيم مما قد يسبب خطورة على العابرين، حيث أن بعض الناس استبدلوا جوانب الخيمة القماشية ببعض أدوار البلوك والسقف بقي (شادر)على حاله، كما أن هذه الأصوات تثير الرعب لدى الأطفال الذين لم ينسوا بعد قصف طيران الأسد وحليفه الروسي”.
وسألنا ام محمد لماذا لا تقدموا شكوى، قالت أنهم اشتكوا وتلقوا وعود بمعالجة المشكلة ولكنهم لم يلمسوا استجابة أو تغيرًا على أرض الواقع، الغبار مازال يصعد وأصوات الانفجارات تعلو”.
كما أن كثافة الغبار تحجب الرؤيا في الطرقات المجاورة للمقلع مما يسبب الكثير من الحوادث المرورية، ولا يقف ضرر الغبار عند هذا الحد، بل تتضرر رئات الناس المجاورين من غبار المقالع أيضًا، ويُحدث مشكلات أخرى في العيون، ويؤثر على رئات الأطفال والعجزة.
قريب من المقالع أيضًا وبين المخيمات تنتشر المناشر الحجرية التي تواصل عملها ليلًا في كثير من الأحيان والتي تصدر أصوات ضجيج مرتفع تمنع الجيران من النوم أو الإحساس بالهدوء ناهيك عن الغبار المنتشر والذي يدخل الخيم دون استئذان، أبو عدنان يسكن في مخيم غرب سرمدا وتحيط به مناشر الحجر من جهات ثلاث، قال أنه محروم من النوم حاله حال ساكني المخيم بسبب أصوات الآلات الصادرة عن هذه المناشر كما أنهم يعانون من تلوث الهواء وخاصة أيام الصيف وعند اشتداد الرياح، وضحك أبو عدنان عندما سألناه لمَ لَم يتقدم بشكوى ضد المناشر فقال:
” اللي بجرب المجرب عقلو مخرب”.
من عوامل التلوث التي تحيط مناطق المخيمات أيضًا مجاري الصرف الصحي المكشوفة والتي تمر قرب الخيم وتنبعث منها الروائح الكريهة إضافة إلى أنها باتت مرتعًا للبعوض والحشرات الحاملة للجراثيم والتي تسبب الكثير من الأمراض الجلدية.
فريق “منسقو الاستجابة” أصدر إحصائية لمخيمات النازحين شمال سورية الشهر الماضي حدد من خلالها أبرز المشاكل التي يواجهها النازحون ضمن مخيمات الشمال السوري موضحًا أن أبرزها هي البيئة غير الصحية ومخاطر التلوث، ولاسيما في المخيمات العشوائية، وانتشار حفر الصرف الصحي المكشوفة، وشملت الأرقام “الوحدات السكنية المقامة حديثًا، والمخيمات العشوائية، حيث ارتفع عدد المخيمات الكلي وفق بيان “منسقو الاستجابة” إلى 1633، في حين بلغ عدد الأفراد الكلي مليوناً وأكثر من ثمانمائة ألف نازح يتوزعون على هذه المخيمات.
محمد مصطفى ممرض يعمل في أحد مستوصفات مخيمات الدانا، أخبرنا بأنهم يستقبلون العديد من المرضى في فترة المساء وهم يشكون من ضيق التنفس ويحتاجون جلسات الرذاذ نتيجة لارتفاع نسب التلوث في الهواء في فترة البرد، كما أنهم سجلوا حالات عدة من مرض الكوليرا الذي انتشر مؤخرًا في مناطق المخيمات ومن أهم أسبابه مياه الشرب الملوثة بالصرف الصحي إضافة إلى الخضار المروية بمياه الصرف، وقال أن هناك حاجة لحملة توعية تشمل كافة المخيمات وتشرح طرق الحماية من المرض. ويبقى التلوث حاضرًا في مناطق الشمال وسط غياب الحلول من طرف السلطات أومن قبل المنظمات والمهجرون هم من يدفع الثمن من صحتهم وصحة أطفالهم!
* كاتب سوري
المصدر: إشراق
التعليقات مغلقة.