سميح صعب *
تفرض المقارنة نفسها، بين زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية وزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تموز/ يوليو الماضي. لا تقتصر على الشكل، وإنما تذهب عميقاً في المضمون لتلامس حدود تغيير جيوسياسي كبير في الشرق الأوسط، وإخلالاً بتوازن القوى الذي ساد لعقود خلت في المنطقة.
رمزية المصافحة الحارة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، مقابل المصافحة الباردة بقبضة اليد بين الرئيس الأميركي جو بايدن وبن سلمان في تموز/ يوليو الماضي بجدة، رسمت خطاً بين مرحلتين، وبعثت برسالة مزدوجة صينية وسعودية لا لبس فيها إلى واشنطن، عن تحولات كبرى تجري في المنطقة.
من الآن فصاعداً لم تعد المواجهة الأميركية-الصينية، التي يسميها بايدن “منافسة” من قبيل تخفيف وقعها، مقتصرة على المحيطين الهادئ والهندي، وهي المواجهة التي تحشد فيها الولايات المتحدة كل مقدراتها لمنع بكين من الهيمنة عليها، اقتصادياً وسياسياً. مواجهةٌ اتسع مداها الآن إلى الخليج، المنطقة المحسوبة تاريخياً على أميركا. هذه المنطقة لا تقل في الحسابات الإستراتيجية الأميركية أهمية عن أوروبا أو أميركا اللاتينية، على رغم خفض الولايات المتحدة اعتمادها على النفط الخليجي إلى أقل من عشرة في المئة.
ما كاد “شي جين بينغ” تطأ قدماه السعودية يوم الخميس الماضي (غادرها أمس السبت)، حتى أطلقت الولايات المتحدة أكثر من موقف ينم عن الاستياء، مما يعني أنها لم تنسحب من المنطقة، وإنما خفّفت الاهتمام بها في أفضل الحالات. سارع البيت الأبيض إلى التحذير من مخاطر أمنية محتملة نتيجة اندفاع الدول الخليجية إلى إبرام اتفاقات مع شركة “هواوي” الصينية. وهذا منسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي “جون كيربي” يعلق وعلامات الانزعاج بادية عليه “إننا مدركون لمحاولة تعزيز النفوذ الصيني في أنحاء العالم.. الكثير من الأمور التي يسعون إليها (الصينيون)، وطريقة سعيهم إليها، لا تتلاءم مع الحفاظ على النظام الدولي الذي تحكمه قواعد محددة”.
وفي اليوم التالي، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على مسؤولين صينيين كبيرين بتهمة انتهاك حقوق الإنسان في التيبت. وربما اختار بايدن توقيت صفقة مبادلة لاعبة كرة السلة الأميركية “بريتني غرينر” بتاجر الأسلحة الروسي فيكتور بوت، في لحظة أراد أن يخطف فيها الضوء عن زيارة شي جين بينغ للسعودية.
ما لا بد من التذكير به أن العلاقات الصينية-السعودية ليست بالأمر الجديد، لكنها لم تبلغ مرحلة إعلان “الشراكة الإستراتيجية الشاملة” إلا في وقت بلغت فيه العلاقات الأميركية-السعودية أدنى مستوياتها في عقود. لذا، تفوقت قمم الرياض على قمم جدة.
لم تُزِح الصين أميركا عن مركز الشريك التجاري الأول للسعودية فحسب. بل أن ثمة الكثير من القواسم المشتركة التي تجمع بكين والرياض ومعظم عواصم الخليج حيال التحولات والأزمات الدولية الكبرى. الصين ودول الخليج وقفت على الحياد حيال النزاع الروسي-الأوكراني، وحافظت جميعها على علاقات جيدة مع كل من موسكو وكييف!
وإذا كانت أميركا تتفهم الحياد الصيني، فإنها لا تجد تفسيراً مقنعاً للموقف الخليجي، في وقت حاسم احتاجت فيه الولايات المتحدة إلى زيادة إنتاج النفط لتعويض السوق العالمية، وتحديداً السوق الأوروبية، بالتزامن مع الانفصال الغربي عن موارد الطاقة الروسية. السجال بين القادة الأميركيين والخليجيين حيال قرار تحالف “أوبيك+” بخفض الإنتاج بمعدل مليوني برميل يومياً مؤخراً، كان غير مسبوق، إلى حد إتهام بايدن للسعودية بـ”الاصطفاف” إلى جانب موسكو، والتقليل من شأن مساعدة الـ500 مليون دولار التي قدمتها الرياض إلى كييف.
الخليجيون عاتبون منذ سنوات على الولايات المتحدة وأسبابهم عديدة، بينها حرب اليمن ومحاولات إحياء الإتفاق النووي مع إيران وتخفيف وجودهم العسكري في المنطقة تحت شعار حشد المقدرات في جنوب شرق آسيا لاحتواء النفوذ الصيني.
تراكم الاستياء الخليجي من سياسات واشنطن، قابله تعهد من جو بايدن بعيد انتخابه رئيساً بجعل السعودية دولة “منبوذة”، رداً على مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول عام 2018.
لكن الحرب الروسية-الأوكرانية، اضطرت بايدن إلى التصالح مع ولي العهد السعودي، أملاً في حصد ثمن سياسي يحمل الرياض على التجاوب مع مطالب واشنطن بفرط عقد تحالف “أوبيك+” وزيادة الإنتاج، بغرض خفض أسعار الطاقة التي شهدت ارتفاعاً جنونياً عقب الحرب الروسية ـ الأوكرانية، ودفعت التضخم في أوروبا وحتى في أميركا إلى مستويات غير معهودة. والزيارة التي قام بها بايدن إلى جدة، كان حافزها أيضاً الشعور بأن استمرار التضخم بالارتفاع سيؤدي إلى هزيمة ساحقة للحزب الديموقراطي في انتخابات منتصف الولاية في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. أثبتت الأشهر الأخيرة أن بايدن أخفق في مسعاه بإقناع الرياض بزيادة إنتاج النفط، فعادت العلاقات الأميركية- السعودية إلى نقطة التوتر.
بعد الاتجاه السعودي شرقاً، كيف يمكن أن يكون الرد الأميركي؟ هنا تجدر الإشارة إلى الإجراء الذي اتفقت عليه مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى والإتحاد الأوروبي وأستراليا لتحديد سقف لأسعار النفط الروسي عند 60 دولاراً للبرميل الواحد على النفط المحمول على متن الناقلات، وذلك بهدف حرمان روسيا من العوائد التي تمكنها من مواصلة حربها ضد أوكرانيا.
والسؤال بعد هذه الفقرة، ماذا يمنع أميركا إذا نجحت تجربة تسقيف سعر النفط الروسي، من أن تُعمّم هذه التجربة على تحالف “أوبيك+” في مرحلة لاحقة وذلك عن طريق “كارتل المشترين” الذي ستكون له الكلمة العليا في تحديد الأسعار؟
أخذاً في الاعتبار هذا الاحتمال، يأتي تعميق العلاقات السعودية والخليجية مع الصين، فضلاً عن إثارة تكهنات بشأن احتمال اعتماد اليوان في المبادلات التجارية الصينية-السعودية، برغم أن وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان استبعد هذا الاحتمال.
ومع ذلك، فإن واشنطن التي لا ترى منافساً لها في العالم يُهدّد النظام العالمي القائم، سوى الصين وفق استراتيجية الأمن القومي الأميركي، تنظر بعين القلق إلى “الإنقلاب” الجاري في السياسات الخليجية التقليدية.
إتفاق الشراكة الإستراتيجية مع السعودية، يُعزّز مبادرة “الحزام والطريق” الصينية لزرع النفوذ في أنحاء العالم. وهذا الإتفاق يضاف إلى الإتفاق الاستراتيجي الذي وقعته الصين مع إيران قبل سنوات. وحتى قبل وصول شي جين بينغ إلى الرياض، وقّعت بكين مع الدوحة، اتفاقاً لاستيراد الغاز القطري لمدة 27 عاماً.
هاجس الأميركيين الآن ماذا بعد هذا التوسع الإقتصادي للصين في الشرق الأوسط؟ هل يستتبع ذلك دور سياسي متعاظم يخلخل التوازن في النظام الإقليمي السائد ويفرض بكين لاعباً محورياً موازياً للولايات المتحدة التي استأثرت بالمنطقة منذ نهاية الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود من الزمن؟
إنه عالم ما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية. والصين تسارع إلى حجز مكان لها في النظام العالمي الذي سيولد بعد هذه الحرب التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً. والصين تضيف اليوم ركيزة مهمة في مسيرة المواجهة المتصاعدة مع أميركا من تايوان إلى الخليج.
وثمة مقولة سائدة في الصين تنص على أن “ماو تسي تونغ نهض بالصين، ودنغ شياو بينغ أغناها، وشي جين بينغ قوّاها”. لا ريب في أن الولايات المتحدة أكثر من يُدرك ذلك!
* كاتب وصحافي لبناني
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.