عبد الله السناوي *
الأحلام الكبرى، التي أطلقتها ثورة كانون الثاني/ يناير، ما زالت ماثلة في المشهد العام تستعصى على أي إنكار. وقد تنقضي الثورات دون أن تغادر أحلامها الوجدان العام.
في السنوات الأخيرة من حكم «حسنى مبارك» تلخصت الإرادة العامة في طلب «الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة».
عند نشر تلك الصياغة لأول مرة في جريدة «العربي» أبدى مفكر سياسي معروف استغرابه قائلاً: «لا يوجد في العلوم السياسية مثل هذا التعبير» قاصداً أن يقال «علمانية» بدلاً من «مدنية».
كان تقديري أن التوصيف الأول «ملغم سياسياً» لا يصنع توافقاً عاماً تحتاجه مصر وهي توشك أن تغادر مرحلة من تاريخها إلى مرحلة أخرى، وأن التوصيف الثاني يكفي ويزيد لمنع أي خلط بين ما هو ديني وما هو سياسي.
بصورة أو أخرى استقرت تلك الصياغة في الخطاب العام بما يشبه الإجماع. لم يكن مستغرباً أن تستقر بعد ذلك في البناء الدستوري إثر ثورة كانون الثاني/ يناير (2011).
المفارقة الكبرى أن قد جرى تفريغ محتوى طلب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة مرتين، الأولى- على يد جماعة «الإخوان المسلمين»، التي سعت لـ«أخونة الدولة» وبناء دولة دينية حين كسبت الانتخابات الرئاسية عام (2012).. والثانية- على يد أشباح الماضي بنفس الوجوه والعقليات التي بررت دولة الرجل الواحد في العقود السابقة.
لم تضرب ثورة كانون الثاني/ يناير أركان نظام «مبارك» بغير انتظار، كان كل شيء يجري في بنية المجتمع والسياسة يومئ بمقدماتها.
بدا النظام في عام (2005) كأنه استنزف طاقته على البقاء ومشاهد الانتخابات الرئاسية الهزلية أوحت بأننا قرب النهاية، لكن عمر النظام امتد لنحو خمس سنوات أخرى بفضل اتساع هامش الحريات الصحفية والإعلامية.
كانت تلك حقيقة، فالحريات الصحفية والإعلامية رفعت سقف الآمال المعلقة على إصلاح النظام من الداخل.
عندما تبددت أية آمال في إصلاح النظام من الداخل بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام (2010) انفسح المجال واسعاً للثورة.
هناك من توقع «ثورة جياع»، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز، أو «انتفاضة خبز جديدة» كما جرى في انتفاضة كانون الثاني/ يناير (١٩٧٧)، أو «حريق قاهرة آخر» على النحو الذى جرى فى كانون الثاني/ يناير (١٩٥٢)، أو تغيير النظام بتدخل عسكري كما حدث في (23) تموز/ يوليو.
لم يخطر ببال أحد إطاحته بانتفاضة شعبية مدنية تدعو إلى نظام ينسخ الماضي ويلتحق بعصره.
هبت ثورة يناير من خارج السياق السياسي، الذى اخترقت أحزابه وهمشت منابره.
لم يكن يعني تدجين السياسة أن النظام في منأى عن عاصفة التغيير.
اقتحمت مسرح الحوادث أجيال شابة جديدة بروح جديدة وخيال مختلف، أصابت وأخطأت، لكن روحها تعلقت بفكرة الثورة، التي حسمت خيارها قطاعات جماهيرية واسعة نالت المظالم الاجتماعية من أبسط حقوقها في الحياة.
لعبت الحركات الاحتجاجية، وفي مقدمتها الحركة المصرية للتغيير «كفاية» والجمعية الوطنية للتغيير، أدواراً جوهرية في معارضة سيناريو التوريث للابن والتمديد للأب وصنع مسار سياسي للغضب المتصاعد يتبنى التحول إلى الديمقراطية وبناء دولة مواطنة وعدالة وقانون.
كانت النُذر تتجمع في الأفق المحتقن.
لخص «مشروع توريث الجمهورية» من «الأب» إلى «نجله الأصغر» أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة.
كان ذلك المشروع تعبيراً عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين في صلب القرارين الاقتصادي والسياسي بزواج بين السلطة والثروة.
لم يكن ممكناً بأي حساب توريث الحكم بغير أثمان باهظة واضطرابات لا قِبلَ لأحد بها.
لم يخترع أحد شعارات ثورة يناير، فقد نشأت من قلب المعاناة، تصدرها طلب الحرية السياسية، كما الحق في رغيف الخبز تلخيصاً مباشراً للعدالة الاجتماعية بأبسط معانيها.
قيمة ثورة يناير في التاريخ أنها عكست الإرادة العامة التي لا سبيل لتحديها بقدر ما طمحت إلى الانتقال لعصر جديد أكثر عدلاً وحرية وكرامة إنسانية.
قبل الثورة تبدت حالة غضب بين الأجيال الجديدة وجماعات المثقفين وكل ما له قيمة في البلد، استقطبت المشاعر العامة حتى بدا النظام كله في العراء السياسي.
رغم الاحتقانات السياسية والاقتصادية التي دعت الطبقة الوسطى والفئات الأكثر احتياجاً إلى إعلان تذمرها فقد كان «مشروع التوريث» هو نقطة التفجير التي استدعت كل الغضب إلى كل الميادين.
لم يكن الجيش في وارد الصدام مع الإرادة الشعبية لتمرير «التوريث»، أو الدفاع عن نظام فقد شرعيته.
ولم يكن بوسع الأمن توفير أي ضمانات لتمرير هذه الخطوة الخطيرة دون اهتزازات عميقة قد تأخذ البلد إلى المجهول.
في لحظات النهاية بدا النظام بلا ظهير سياسي، فقد انهار حزب السلطة مع أول هتاف في ميدان «التحرير».
ما هو مصطنع يسقط في كل اختبار.
سقط «مبارك» لأن نظامه تقوض من الداخل دون حاجة إلى مؤامرة ولم يكن بوسعه الاستجابة لحقائق عصره وأولها التحول إلى دولة مدنية حديثة ديمقراطية وعادلة.
في صلب ذلك الطلب رفض مزدوج وصريح لـ«الدولة الدينية» و«الدولة البوليسية» معاً.
كان الدور الأمني قد توسع خارج طبيعة مهامه وتدخل على نحو غير مسبوق في الحياة العامة من البحث العلمي إلى اختراق الأحزاب إلى الاقتصاد ومشروعاته.
تعمقت فجوات بين الأمن ومجتمعه، وكانت النتائج قاسية في تجربة يناير.
كان هناك من يعتقد أن الاستغناء عن السياسة بمعناها المؤسسي الحديث يخفض من الصداع العام في بنية الدولة ويوفر قدراً أكبر من الاستقرار.
مرة أخرى كانت النتائج كارثية.
لم يكن «الحزب الوطني الديمقراطي» حزباً حقيقياً بقدر ما كان تجمعاً لأصحاب المصالح يلتصق بالسلطة، أي سلطة.
كان مزيجاً من بيروقراطية الدولة ونفوذ الأمن.
في لحظة الثورة بدا الانكشاف كاملاً للبنية السياسية المصطنعة.
دفع النظام ثمناً مستحقاً لاختراق الأحزاب السياسية من داخلها، وتفجيرها في بعض الحالات، ومنعها من ممارسة أي دور يتجاوز مقراتها.
بقدر ما تكون الحياة السياسية صحية وقابلة لاكتساب الثقة العامة فإن قواعد النظم تتأسس على أرض صلبة.
هذا ما يجب أن نتعلمه من تجارب التاريخ.
إذا لم يكن الشعب طرفاً مباشراً في تقرير مصيره فإن كل شيء بالعراء السياسي وكل انهيار وارد.
لم يستمع أحد إلى الأنين الاجتماعي تحت ضغط العوز والحرمان رغم ادعاءات النمو الذي لم يسبق له مثيل وأعداد السيارات والهواتف المحمولة!
ذهبت عوائد النمو إلى طبقة رأسمالية متوحشة توغلت في الفساد وجنت أموالها من زواج السلطة بالثروة.
في الغنى الفاحش بغير إنتاج حقيقي والفقر المدقع بغير أمل بالحياة تعمقت التناقضات إلى حدود استدعت قلقاً داخل قطاع الأعمال الخاص نفسه.
بعد ثورة يناير بما صاحبها من زخم شعبي يطلب الانتقال إلى عصر جديد وحقائق قوة مختلفة ارتفعت فرص بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، كما لم يحدث في التاريخ المصري كله.
لم تكن هناك مشكلة في إسناد رئاسة الدولة بالانتخاب الحر المباشر إلى شخصية مدنية، غير أن تحرش جماعة «الإخوان المسلمين» بالجيش وسعيها لـ«أخونة الشرطة» وتغيير هوية الدولة أجهض التجربة كلها ودخلت مصر إلى منعرج جديد.
رغم القصة الأليمة، التي قوضت ثورة يناير، فإن أحلامها في بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، لا دينية ولا أمنية، مدنية بالكامل، ما زالت تسكن الوجدان العام لأجيال المستقبل فيما حقائق العصور الجديدة تستدعيها إلى الواجهة مرة بعد أخرى.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.