الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بانتظار «جودو».. الذي لن يأتي

سمير العيطة *

رغم كلّ ما يقال، هناك ترابطٌ عضوي بين الاقتصادين وأسواق صرف العملات بين لبنان وسوريا، سواء على صعيد المبادلات الرسميّة أو غير الرسميّة. ترابطٌ يظهر أكثر وضوحاً فى لحظات الصدمات التي يتعرّض لها أحد الاقتصادين أو كلاهما سوية.

يشهد الاقتصاد السوري اليوم أزمة جديدة بسبب تراكم آثار تدمير آليّات الإنتاج والتبادل في الصراع وبسبب «العقوبات»، أي الإجراءات الأحادية الجانب المفروضة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. ولكنّ تحدث أيضاً صدمة الآن خاصّةً بسبب عدم إمكانيّة الاقتصاد السوري على التأقلم مع السياسات والإجراءات التي فرضتها السلطات القائمة في دمشق من أجل كبح انخفاض أسعار صرف العملة السوريّة وبغية زيادة إيرادات الدولة. وما يعني خنقاً للاقتصاد وتعديات لا نهاية لها على الفعاليّات الاقتصاديّة. وحده الاقتصاد ذو الطبيعة الإجرامية (الكبتاجون وغيره) ما زال يعمل بحماية «أمراء الحرب»، الذين لا قدرة، أو لا رغبة في كبحهم.

ويشهد الاقتصاد اللبناني أيضاً أزمةً جديدة، عبر وصوله إلى حدود إمكانيّات التأقلم مع «اقتصاد الكاش». إنّ المصارف لا تعمل سوى لصرف مستحقات المودعين بالتنقيط وبخسارات كبيرة لهم. وتستمرّ السياسات العامّة بالتخبّط دون إصلاحات بنيويّة ودون انتخاب رئيس للدولة ودون حكومة فعليّة… وخاصّة دون أفق مفتوح سوى السجالات العقيمة في البرلمان وعلى وسائل الإعلام.

في سوريا كما في لبنان تضغط تداعيات الأزمتين على الناس وعلى معيشتهم بشكلٍ لا سابق له حتّى مقارنةً مع أقسى أيّام الحرب. وبالطبع، الأمر في سوريا أشدّ قسوةً من لبنان.

                                                                         *            *            *

إنّ قلّةً من المسؤولين والخبراء اللبنانيين يشهدون بأنّ بداية تقلّص الموجودات بالعملة الصعبة في البلاد قد تزامن مع بداية الصراع! في سوريا عام 2011. هذا بعد أن كانت الموجودات قد تضاعفت بشكلٍ كبير من جرّاء الأزمة العالميّة الشهيرة عام 2008. وهذا ما أخّر الأزمة اللبنانيّة المحتومة من جرّاء السياسات النقديّة المعتمدة عقداً من الزمن. سياسات امتدحها صندوق النقد والبنك الدوليان في حينه، إلاّ أنّ تقريراً حديثاً للبنك الدولي وصفها- ولكن بعد وقوع الأزمة- بأنّها كانت تُشكِّل «منظومة بونزي Ponzi»، أي على شاكلة المنظومة الاحتياليّة التي سميت باسم الإيطالي شارل بونزي الذي كان يدفع أرباحاً كبيرة وهميّة لـ«مستثمرينه» في الولايات المتحدة أوائل القرن العشرين، وذلك من أموال المودِعين الجدد. وهكذا حتّى إفلاس المنظومة وتبخّر الودائع و«الاستثمارات».

هؤلاء المسؤولون والخبراء لا يتحدّثون عن سبب تزامن التقلّص اللبناني مع بداية تفجّر الصراع السوري، حتّى قبل وصول الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين إلى لبنان. في ذلك الوقت، كان سعر صرف العملة السوريّة ينهار بشكلٍ متسارع، في حين تمّ تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانيّة قسريّاً. وتراجعت موجودات سوريا من العملات الصعبة بشكلٍ كبير، هذا بعد أن كانت قبل 2011 تصِل إلى صافي بأكثر من 20 مليار دولار في المصرف المركزي، كانت قد تجمّعت تدريجيّاً منذ بداية التسعينيات مع اكتشافات النفط الجديدة حينها ومع سياسات التقشّف في الإنفاق التي اتّبعتها الدولة على شاكلة سياسات «الإصلاح الهيكلي» التي طالما كان صندوق النقد الدولي يوصي بها لكثيرٍ من البلدان.

تبخّرت اليوم هذه الموجودات الرسميّة السوريّة الكبيرة (وهي غير تلك التي تبخّرت فى فساد مرحلتي «رأسماليّة الدولة» ومن ثمّ «رأسماليّة الأقرباء والأصدقاء»). ولم تذهب حقّاً إلى النظام المصرفي اللبناني. هذا بالرغم من أنّه من المفترض أن تكون ودائع السوريين من القطاع الخاصّ قد ازدادت في تلك الفترة في لبنان. إذ إنّ كثيرين فقدوا الأمل من الخروج من الصراع وباعوا أملاكهم، قبل فوات الأوان (!). كما أودع كثيرٌ من السوريين مدّخرات سنين عملهم في لبنان. واعتمدت التجارة الخارجيّة لهذا القطاع الخاص أكثر فأكثر على الاستيراد عبر لبنان من جرّاء العقوبات الأحاديّة الجانب وحوّل السوريّون أرباح تجارتهم هناك لضمان استمراريّة عملهم.

لقد هدأت وتيرة حركة هروب الأموال من البلدين قليلاً عام 2015 مع التدخّل الروسي في سوريا. وثبت سعر صرف الليرة السوريّة لثلاث سنوات، بالرغم من ازدياد الصادرات التركيّة نحو سوريا عبر مناطق «المعارضة» أو “عبر ما يسمى” «قوات سوريا الديموقراطيّة».

ثمّ جاء الانهيار المالي في لبنان في 2019، وانهارت معه بالتوازي أسعار صرف الليرتين اللبنانية والسورية. وفقد المودعون اللبنانيّون، أفراداً ومؤسّسات، ودائعهم وقيمتها في المصارف اللبنانيّة، وكذلك السوريّون. هذا بعد أن كانت تلك الأزمة قد تمّ تأخيرها قصداً منذ بروزها الواضح لجميع المؤسسات الدوليّة عام 2016. هذا كي يتمكّن من كان يعرف أنّها واقعة لا محالة- وهم كبار عناصر السلطة- من إخراج أمواله. فالهروب الكبير للأموال حدث قبل سنة 2019 وليس بعدها.

وفى ظلّ الانهيار المستمرّ في البلدين، عمَدت السلطات السوريّة في أوائل 2021 إلى تجريم التعامل بالعملة الصعبة والضغط على الفعاليّات الاقتصاديّة بشكلٍ كبير، مما أدّى إلى إبطاء انهيار أسعار صرف الليرة السورية مقارنةً مع انهيار الليرة اللبنانيّة. هكذا حتّى حدوث الصدمة التي بدأت في الأسابيع الماضية، حيث عادت أسعار صرف العملتين السورية واللبنانية بالانهيار المتوازي لمستويات لا يُعرف مداها، مع آثارٍ اجتماعيّة مرتقبة ستكون على الأغلب أكثر قساوةً ممّا شهده البلدان حتّى الآن.

                                                                         *            *            *

إنّ آليّات إدارة الاقتصاد والأزمات مختلفة بين البلدين. ففي سوريا، تفرض السلطة آليّاتها عبر الدولة ومؤسّساتها، خاصّةً وزارة المالية وأجهزتها، التي تقوم «بزيارات» دوريّة للفعاليّات الاقتصاديّة للضغط عليها بالتعاون مع الأجهزة الأمنيّة. أمّا في لبنان، فالمصرف المركزي هو الذي يدير الأمور عبر تعاميمه وفرض آليّات في القطاع الخاص، مثل منصّة «صيرفة» وتعاملات شركات تحويل الأموال، في حين تتخبّط مؤسّسات الدولة الأخرى في سياساتها.. حتّى لوضع ميزانيّة وتطبيقها.

لا تنبغي الاستهانة بصعوبة إدارة أزمات حادّة كتلك التي يشهدها البلدان، سوريا ولبنان. إذ إنّها تحتاج إلى وضع «سياسات» واضحة وإلى آليّات مؤسساتيّة لتنفيذها، بشكلٍ تستطيع معه الفعاليّات الاقتصادية قراءتها والوثوق بها واستباقها للتأقلم ولاستعادة النشاط. إلاّ أنّ «فعاليّة» المؤسسات السوريّة لن تُخرِج سوريا من أزمتها لأنّ «السياسات» القائمة لا تخدم سوى الاقتصاد «الريعي» الذي يموّل «أمراء الحرب»، في حين تقضي تباعاً على الاقتصاد المنتِج. وكذلك لن تُخرِج «حركيّة» الإدارة الماليّة لمصرف لبنان البلاد من أزمتها لأنّ «السياسات» القائمة لا تعمل إلاّ لتجميد الوضع المصرفي والمالي القائم ولفائدة الاحتكارات التجارية الكبرى ولكسب الوقت.. بانتظار «جودو».. الذي لن يأتي. هذا في ظلّ تداعي الاقتصاد المنتِج تدريجياً والهروب الكبير لقطاع الخدمات نحو الخارج.

إنّ اقتصادي سوريا ولبنان يقومان حاليّاً على تحويلات المغتربين والمساعدات الخارجيّة. وهذا بالطبع يحدّ قليلاً من التهاوي نحو الفقر المدقِع ولكن ذلك لا يكفي بأي شكل. ثمّ إنّ «السياسات» السورية غير قادرة لا على إحداث الانتعاش، بل على العكس، ولا على احتواء الصدمات القادمة من لبنان. والسياسات اللبنانيّة بدورها غير قادرة لا على إحداث الانتعاش، بل أيضاً على العكس، ولا على احتواء الصدمات الآتية من سوريا. سواءً بقي اللاجئون السوريّون في لبنان أم عادوا.

* رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.