الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بين «أبو غريب» وخاشقجي: اختلف السياق وتماثلت الحال

صبحي حديدي *

في إطار تفنيد تقرير الاستخبارات الأمريكية حول جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وردّ التهمة عن ولي العهد محمد بن سلمان، كتب عبد الله المعلمي السفير والمندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى الأمم المتحدة سلسلة تغريدات؛ لعلّ أطرفها، وأهمها دلالة، تساؤله التالي (والترجمة من عندنا): إذا كانت هذه (أنّ الأمير كان على علم بالضرورة، لأنه يسيطر على النظام الاستخباراتي) حجّة مقبولة، فلماذا لم يقع الرئيس الأمريكي ونائب الرئيس ووزير الدفاع، تحت طائلة المسؤولية عن جرائم أبو غريب؟

السياقات مختلفة، بالطبع، بين جرائم سجن «أبو غريب» وجريمة تصفية وتقطيع أوصال خاشقجي داخل أروقة القنصلية السعودية في اسطنبول؛ وكذلك تختلف طبائع المساءلة، السياسية والأمنية والاخلاقية، بين التوجيه باستدراج أو اعتقال أو اغتيال مواطن معارض صحافي، أو العلم بالخطة مسبقاً، كما في حالة بن سلمان حسب التقرير الاستخباراتي الأمريكي؛ وبين المسؤولية المباشرة عن سلوكيات بربرية في التعذيب والتنكيل الجسدي مارسها جنود أمريكيون ولكن لم يأمر بها، أو يطلع عليها مسبقاً، أمثال جورج بوش الابن وديك شيني ودونالد رمسفيلد.

المسؤولية المعنوية، في المقابل، ليست متماثلة ومتقاطعة ومتقاربة في كثير من عناصرها، فحسب؛ بل ثمة مقدار من المساءلة أشدّ وأكبر يطال المسؤولين الأمريكيين الثلاثة، بالنظر إلى القيود القانونية التي يتوجب أن يلتزم بها أبناء قوة عظمى تزعم قيادة العالم على أصعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي والمواثيق الخاصة بالتزامات سلطة احتلال عسكرية تجاه أهل البلد الخاضع للاحتلال. وقد تكون تغريدة المعلمي رمية من غير رامٍ، لجهة اللجوء إلى المقارنة مع جرائم جيش احتلال كان ويظلّ حامي حمى المملكة، لكنها في الآن ذاته دخلت ضمن مغزى راهن أوسع، حتى إذا لم يتقصد السفير إدخالها فيه: موقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة من مسائل التعذيب والاعتقال والتحقيق و«السجون الطائرة» وانتهاكات حقوق الإنسان من جهة أولى؛ والعداء المستحكم المزمن بين الولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، من جهة ثانية.

والحال أنّ الأمر طُرح مؤخراً، ومجدداً، بعد أن لوحظ تحاشي الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلغاء قرارات سلفه ترامب الخاصة بالمحكمة، كما فعل بالنسبة إلى إجراءات عديدة داخلية مثل تأشيرات مواطني عدد من البلدان «المسلمة» والمقاربة المرنة لمعاملات اللجوء، وأخرى خارجية مثل العودة إلى اتفاق باريس حول المناخ. ومن المعروف أنّ ترامب كان، في حزيران (يونيو) السنة الماضية، قد فرض عقوبات على موظفي المحكمة الجنائية الذين يتولون التحقيق في جرائم حرب يُحتمل أن الجيش الأمريكي ارتكبها في أفغانستان. بالإضافة إلى أنّ واشنطن ليست في عداد الدول الموقّعة على معاهدة تأسيس المحكمة، ولا تعترف تالياً بولايتها القانونية على المواطنين الأمريكيين.

كذلك فإنّ الملفّ فُتح مؤخراً بعد أن لجأت أكثر من 80 منظمة غير حكومية، حقوقية وإنسانية ومناهضة للتعذيب وأكاديمية، أمريكية وعالمية، إلى توجيه نداء يحثّ الرئيس الأمريكي على طيّ إجراءات ترامب العقابية، وكذلك تجاهل الأصوات الجديدة التي تعالت مؤخراً لفرض المزيد من القيود على المحكمة؛ الأمر الذي لا يُلحق الأذى بالعاملين فيها وحدهم، بل يشمل جميع الجهات والمنظمات التي تتعاون معها. وغير خافٍ أنّ المحكمة تعرضت، مؤخراً، إلى هجمة شرسة إضافية من جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسارعت بعض مجموعات الضغط الصهيونية إلى اتهام المحكمة بـ«النفاق» و«العداء للسامية» بعد أن أعلنت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا العزم على فتح تحقيق رسمي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بصدد جرائم مفترضة خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة في عام 2014.

بنسودا، من جانبها، خرجت عن صمتها مؤخراً وصرّحت بأنّ الوقت قد حان كي تعيد الولايات المتحدة ترتيب علاقتها مع المحكمة، موضحة أنّ العقوبات التي فرضها ترامب تخصّ عادة «كبار منتهكي حقوق الإنسان، وليس المهنيين والموظفين المدنيين الدوليين المنخرطين في مناهضة الحصانة ضدّ الجرائم الفظيعة». وصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية توجهت بالسؤال إلى وزارة الخارجية الأمريكية، فأجابت هذه أنّ الوزارة بصدد «مراجعة» خطواتها المقبلة بهذا الصدد. لا أحد، مع ذلك، يتوجب أن يتناسى حقيقة أنّ الموقف الأمريكي العدائي من قانون روما، الذي أتاح إنشاء المحكمة في سنة 2002، يتجاوز ترامب وإجراءاته لأنّ واشنطن رفضت المصادقة على القانون أو قبول صيغة المحكمة؛ على نقيض 123 دولة وافقت على صلاحياتها في مختلف قارّات العالم.

الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي عمل بايدن نائباً له خلال رئاستين كما يصحّ التذكير، أغدق على مواطنيه سلسلة وعود انتخابية حول إغلاق سجن غوانتانامو، ونشر ما يُسمّى «مذكرات التعذيب» الصادرة عن كبار مسؤولي وزارة العدل والبنتاغون في إدارة بوش الابن السابقة. لكنّ الشهور مرّت، ومثلها انقضت السنوات، وذهبت وعود أوباما أدراج الرياح، وأصرّ أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة على عدم الذهاب خطوة واحدة أبعد في هذه الملفات: سواء في رفض تعيين قاض مستقلّ للتحقيق في المسؤولية عن «مذكرات التعذيب» تلك، أو التذرّع بضرورة الحفاظ على «مبدأ الإجماع» في مسائل الأمن القومي الأمريكي؛ الأمر الذي تساوى فيه مع معظم الرؤساء الأمريكيين السابقين، وبوش الابن على رأسهم، ويتساوى فيه بايدن اليوم، بعد سلفه ترامب.

وبات جلياً أنّ تراجع أوباما عن وعود أخرى، بتأمين شفافية المعلومات حول سجن «أبو غريب» إنما تمّ بضغط مباشر من رهط الجنرالات المتشددين في البنتاغون، من جهة أولى؛ والحملة الشعواء المتواصلة التي شنّها نائب الرئيس السابق شيني، واحتضنتها مختلف وسائل الإعلام الأمريكية بحماس بالغ، من جهة ثانية. وفي غمرة هذا كله، لا ينبغي للمرء أن ينسى حقيقة اصطفاف الحزب الديمقراطي خلف معظم سياسات الرئيس بوش الابن، بصدد غزو أفغانستان والعراق وما سُمّي بـ«الحملة على الإرهاب»؛ بما في ذلك التواطؤ على استخدام تقنيات التعذيب، والإبقاء على معتقل غوانتانامو، و«السجون الطائرة» وسواها.

وبالعودة إلى فظائع سجن أبو غريب، كانت مجلة «نيويوركر» الأمريكية، في أيار (مايو) 2004، على موقعها الإلكتروني ثمّ في الطبعة الورقية لاحقاً، قد نشرت تحقيقاً مذهلاً للصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش برهن فيه أنّ انفضاح أخبار الهمجية الأمريكية في سجن أبو غريب (كما كانت قد ترددت قبلئذ، مدعمة ببعض الصور الأولى، في البرنامج الإخباري 60 Minutes، على قناة CBS)؛ هي الفصل الأوّل من مجلّد خزي رهيب، أشدّ مقتاً وبشاعة وشناعة. وأمّا في ناظر العالم، المراقب لما مارسته أمريكا في أفغانستان قبل العراق، فإنّ تلك الهمجية كانت تتجاوز السياسات الأمنية، لتضرب بجذورها عميقاً في باطن ثقافة العنف، ونزعة التفوّق، وتحقير الآخر، وامتهان النفس الإنسانية، وشهوة الاستعباد…

الصلات غير منقطعة، إذن، بين فظائع سجن أبو غريب، التي ضربت في الهمجية كلّ مقياس متخيَّل؛ وفظائع التعذيب في زنازين التحقيق الأمريكية (التي تمّ تطبيق طرائقها بموجب مذكرات إدارية التي كتبها أمثال جون يو، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا والمتعاقد مع وزارة العدل، وتضمنت تزويد المحققين بالمسوّغات القانونية للالتفاف على اتفاقية جنيف حول تحريم التعذيب)؛ وفظائع القنصلية السعودية في اسطنبول، حيث تمّ تقطيع جسد الصحافي السعودي خاشقجي، وإخفاء جثته حتى الساعة.

فلا يفرحنّ السفير المعلمي باستعادة ذاكرة «أبو غريب» لإفحام الإدارة الأمريكية، فالحال متماثلة حتى إذا تباينت السياقات في قليل أو كثير!

* كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.