منى فرح *
تطلب الأمر خمس انتخابات لكسر الجمود الذي أصاب السياسة الإسرائيلية بالشلل لأكثر من ثلاث سنوات. الخطوط الدقيقة للحكومة الجديدة لم تتضح بشكل كامل بعد، ولكن هناك شيئاً واحداً مؤكداً: لقد دخلت إسرائيل في المجهول، مع تصميم بنيامين نتانياهو على المضي قدماً نحو أقصى اليمين المتطرف، بحسب المحللة في صحيفة “هآرتس” داهليا شيندلين(**)
في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، ظهر أخيراً فائز حسم الأمر، عندما حصلت الأحزاب المتحالفة مع رئيس الوزراء السابق (الحالي) بنيامين نتنياهو على أغلبية مقاعد البرلمان (64 مقعداً من أصل 120 مقعداً)، لتنتهي فترة ولاية ائتلاف حكومي لم يدم طويلاً (تأسس في حزيران/يونيو 2021 وتوالى على رئاسته نفتالي بينيت ويائير لابيد). تلك الحكومة كانت تضم ثمانية أحزاب (يمينية، ويسارية، ووسطية، وحتى إسلامية)، وكانت تغلب عليها انقسامات أيديولوجية ما كان بالإمكان التوفيق بينها. كما ضمت رئيسين للوزراء: فقد شغل نفتالي بينيت (قاد حزباً يمينياً صغيراً) المنصب لأكثر من عام بقليل قبل أن يُسلم المنصب، وبشكل سلمي، إلى الوسطي يائير لابيد في حزيران/ يونيو الماضي.
لقد كان وضعاً غير مستقر بطبيعته. الآن يأمل نتنياهو وحلفاؤه في توفير الاستقرار للبلاد؛ حيث لديهم فرصة لتشكيل ائتلاف حكومي من أحزاب يلتقون حول مجموعة من الأفكار اليمينية المتطرفة المتعلقة بالمجتمع الإسرائيلي والسياسة الخارجية والقضية الفلسطينية. إن الخطوط الدقيقة للحكومة الجديدة (من المرتقب أن تؤدي اليمين أمام الكنيست الأربعاء) لم تتضح بشكل كامل بعد، ولكن هناك شيئاً واحداً مؤكداً: لقد دخلت إسرائيل (https://www.foreignaffairs.com/regions/israel) في منطقة المجهول. والسؤال الوحيد المطروح اليوم هو: إلى أي حد يمكن أن يكون نتنياهو متطرفاً يمينياً؟
مفاجأة.. لكن متوقعة:
منذ اللحظة التي تمت فيها الدعوة إلى الانتخابات، في حزيران/ يونيو 2022، ظَّلت كل استطلاعات الرأي تقريباً، ولفترة طويلة، تُظهر أن البلاد تتجه نحو مأزق انتخابي آخر، وتسير في طريق مسدود. لذلك، عندما بدأت استطلاعات الرأي تشير إلى أن حلفاء نتنياهو سيحققون الأغلبية، بدا الأمر وكأنه تطور دراماتيكي. ولكن لم يكن من المفترض أن يكون ذلك مفاجئاً.
خلال السنوات الأخيرة، ارتفع عدد الإسرائيليين الذين يُصَنَفون في خانة “اليمين المتطرف” بشكل مطرد، وأصبحوا يشكلون أكثر من نصف عدد البالغين (64% من السكان اليهود). أي أن عدد اليهود الذين يحق لهم الاقتراع أعلى بكثير من عدد السكان العرب في إسرائيل. كان أداء حزب الليكود، بزعامة نتنياهو، في الانتخابات الأخيرة أفضل بقليل فقط مما كان في عام 2021 (عدد الأصوات الجديدة التي حصل عليها لم تتجاوز الـ 50 ألف صوت، فحصل على 32 مقعداً مقارنة بـ30 مقعداً في الكنيست المنتهية ولايته). لكن أداء حزب “شاس” المُتشدد كان إلى حد ما أفضل مما كان متوقعاً (11 مقعداً). لكن الحدث الأكبر جاء مطابقاً لما توقعته نتائج استطلاعات الرأي؛ مراراً وتكراراً؛ وهو حصول التيار اليهودي القومي المتطرف، “الصهيونية الدينية”، على 14 مقعداً (مقارنة بـ6 مقاعد في الكنيست المنتهية ولايته)، مضيفاً أكثر من 290 ألف صوت جديد إلى حصيلته لعام 2021. وعلى الرغم من أن “الصهيونية الدينية” خاض الإنتخابات كمزيج من فصائل حزبية التي قد لا تبقى معاً، إلَّا أنه يشكل حالياً ثاني أكبر قائمة في كتلة نتنياهو. وقد أعلن قادتها، بمن فيهم المحرض المعادي للعرب، إيتمار بن غفير، إلى أنه يتطلع لمناصب وزارية رفيعة المستوى.
من الناحية النظرية، من الممكن أن يحاول نتنياهو إقناع أحد أحزاب أو نواب المعارضة، ذوي الميول اليمينية المتطرفة، بالانضمام إلى حكومته. لكن مثل هذا الاحتمال يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر. ففي عام 2020، كان بيني غانتس، الذي يشغل منصب وزير الدفاع في الحكومة المنتهية ولايتها، زعيم المعارضة في وجه نتنياهو قبل أن يقرر الانضمام إلى حكومة وحدة بعد انتخابات تشبه إلى حد ما الإنتخابات الأخيرة. لكن نتنياهو حَنَثَ بكل الوعود، ونقض الصفقة التي أبرمها مع غانتس للتناوب على منصب رئيس الوزراء (…)، ما جعل غانتس المخدوع يُقسم أنه لن ينضم إلى حكومة يقودها نتنياهو مرة أخرى. لذلك لم يكتسب الحديث عن حكومة وحدة وطنية أي زخم حتى الآن.
من هنا، يبدو أن إسرائيل تسير نحو تشكيل ائتلاف “يميني بالكامل”، مع أربعة أحزاب ستجر نتنياهو معها نحو المزيد من التشدد الأيديولوجي. وقد تكون الحكومة اليمينية المرتقبة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل على الإطلاق. ففي ما يخص السياسة الخارجية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، قد تشهد حكومة نتانياهو، في نسختها الموعودة، بعض الاختلافات عن الحكومات التي شكلها سابقاً، لكنها لن تشهد اختلافاً جوهرياً عن الحكومة المنتهية ولايتها. أما فيما يتعلق بالمسائل الداخلية الأساسية، بما في ذلك طبيعة المؤسسات الديموقراطية في البلاد، فإن التغييرات المرتقبة ستكون شديدة الأهمية بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي ودولة إسرائيل.
لا تغيير في السياسة الخارجية:
على الرغم من إدعاء نتنياهو أن حكومة “التغيير” في العام الماضي كانت يسارية، إلَّا أنها لم تفعل شيئاً يُذكر لتغيير سياسات نتنياهو بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. اتخذت الحكومة المنتهية ولايتها خطوات بسيطة نحو التنمية الاقتصادية للفلسطينيين، وفضلت “تقليص الصراع”، وهي عبارة اقترضها بينيت من المؤلف ميكا غودمان، وتعني تبني استراتيجية الحد من الاحتكاك المباشر مع تجنب الحديث عن أي حل سياسي شامل. بالكاد تختلف تلك السياسة عمَّا درج نتنياهو على تسميته بـ”إدارة الصراع”، والذي يعني احتواء التصعيد العرضي والسماح بتحسينات تدريجية بسيطة تتعلق بالظروف المادية داخل الأراضي الفلسطينية ولكن من دون السعي إلى إنهاء الصراع. ومن أوجه التشابه أيضاً بين سياسات كل من نتنياهو وبينيت ولابيد أنهم جميعهم عملوا على توسيع رقعة الاحتلال بطرق تجعل من حل الدولتين بعيداً أكثر من أي وقت مضى: فقد شدَّد بينيت ولابيد السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، ما أدى إلى إخراج الفلسطينيين من المنطقة (ج). وكان ذلك استمراراً للنهج الذي طالما أتقنه نتنياهو، الذي تمادى في قضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بـ”اسم القانون” في عام 2020، مدفوعاً على ما يبدو بثقته في أن المجتمع الدولي لن يعارض. وخلال عامهما الذي قضياه في السلطة، بدا أن بينيت ولبيد قد توصلا إلى النتيجة ذاتها التي كان يعمل بها نتنياهو. ومثل جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 2007، عندما بدأت سياسة الإغلاق، أبقت الحكومتان قطاع غزة محاصراً ومعزولاً بشكل تام، وفرضتا سيطرة صارمة على حركة الأشخاص والبضائع. صحيح أن الحكومة المنتهية ولايتها كانت قد زادت عدد تصاريح العمل الممنوحة لسكان غزة بعض الشيء، لكن ذلك كان إجراءً شكلياً بدون هدف نهائي محدد.
قد تبدو عودة نتنياهو وكأنها تُنذر بتحول في السياسة الخارجية الإسرائيلية. وكان لابيد قد أعاد علاقات إسرائيل بالأنظمة الديموقراطية، على الأقل في خطاباته، بينما منذ عام 2009، عزَّز نتنياهو العلاقات مع الأنظمة الاستبدادية (مثل أذربيجان وتشاد وغيرهما) ونجح في تطبيع العلاقات مع دول عربية غير ديموقراطية من خلال “اتفاقات أبراهام” وبوساطة أميركية. كذلك أقام صداقات مع قادة أقوياء، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وحافظ على علاقة تعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (https://www.foreignaffairs.com/tags/vladimir-putin)؛ حتى أنه كان روّج لصداقته مع دكتاتور الكرملين في لوحات إعلانية كبيرة خلال إحدى حملاته الانتخابية السابقة.
إسرائيل في منطقة المجهول:
لكن الوضع الدولي اليوم مختلف عمَّا كان عليه الحال عندما كان نتنياهو يقود إسرائيل آخر مرة. فالحرب في أوكرانيا (https://www.foreignaffairs.com/ukraine/ukraine-war-democracy-nihilism-timothy-snyder) تشكل تحدياً كبيراً وهناك دلائل على أن نتنياهو لا يخطط للخروج عن السياسة الحالية المتبعة مع هذه الحرب. فقد اتخذ بينيت، الذي كان رئيساً للوزراء عندما بدأت الحرب (https://www.foreignaffairs.com/tags/war-ukraine)، القرار المصيري بإعطاء الأولوية لتفاهمات إسرائيل مع روسيا، بدعوى الحفاظ على مساحة إسرائيل للمناورة في سوريا، حيث تسيطر روسيا في الغالب على المجال الجوي الذي تحتاجه إسرائيل لتنفيذ غاراتها الجوية المنتظمة ضد من تسميهم “وكلاء إيران وحلفائها”. وحتى الآن، لم ترسل إسرائيل أي مساعدة عسكرية إلى كييف، واكتفت بتقديم دعم إنساني فقط.
ففي مقابلة أجرتها معه مؤخراً قناة MSNBC، أصدر نتنياهو إيماءة نادرة للغاية إلى منافسيه اللدودين، عندما وصف سياسة الحكومة المنتهية ولايتها تجاه أوكرانيا بـ”الحكيمة”. وفي مناسبة أخرى، تحدث بحذر عن “النظر في” مسألة المساعدة العسكرية لكييف، لكن دون أن يقدم أية تفاصيل. كما حذَّر نتنياهو من أن الحرب الروسية الأوكرانية تهدد بنشوب صراع عالمي بين القوى النووية ويجب ألا تتوسع. وتعكس هذه النقطة الحجج المقدمة لصالح المفاوضات، والتي من المفترض أن تؤدي إلى تنازلات إقليمية- أوكرانية لصالح روسيا. إذا كان نتنياهو يؤيد ذلك، فسيكون هناك منطق من الاتساق في موقفه: فبعد كل شيء، إسرائيل أيضاً تحتل أراضي لم تكن لها ولا تُخطط أبداً لإعادتها لأصحابها.
قبل أيام من الانتخابات الأخيرة، وقَّعت حكومة لبيد إتفاقاً مع لبنان لحل نزاع طويل حول الحدود البحرية. وسيسمح هذا الاتفاق؛ للجانبين؛ بمباشرة مشاريع التنقيب عن الغاز واستخراجه. وبرغم الإشادة الواسعة التي أبداها خبراء أمنيون واقتصاديون إسرائيليون، دأب نتنياهو على مهاجمة الإتفاق؛ قبل وخلال المفاوضات، حتى أنه وصف ما جرى بأنه “استسلام تاريخي”، وهدَّد بأنه لن يحترم الاتفاق إذا فاز. لكن يبدو أنه من غير المرجح أن يمضي في تهديده هذا. فهو، ومنذ الانتهاء من توقيع الاتفاق، بدأ يخفف من حدَّة موقفه.
تغيير وجه إسرائيل:
في فترة ولايته الخامسة، يمكن لنتنياهو أن يُغيّر وجه إسرائيل بشكل دائم. فقد أطلق تيار “الصهيونية الدينية” خططاً شاملة لتقليص السلطة القضائية في إسرائيل وتقويض أي قيود ذات مغزى على صلاحيات الحكومة. وتأتي هذه الخطط في أعقاب حملة يمينية مستمرة منذ سنوات لنزع الشرعية عن القضاء، وهو جهد انضم إليه نتنياهو بعدما وُجهت إليه تُهم تتعلق بالفساد في عام 2020. يُذكر أن نتنياهو نفى تلك الاتهامات، ووصف المحاكمات التي خضع لها بأنها “اضطهاد سياسي” و”محاولة انقلاب”. كما وصف بعض القضاة بأنهم “أشخاص ينتمون إلى الدولة العميقة”.
تدعو خطة “الصهيونية الدينية” إلى إبطال الجرائم الرئيسية التي وُجهت إلى نتنياهو، على الرغم من أن التيار ينفي أنه يحاول حمايته شخصياً. وتقترح الخطة أيضاً فرض سيطرة سياسية شبه كاملة على التعيينات القضائية، وسنّ قانون جديد يسمح للكنيست بتجاوز أي حكم قد تصدره المحكمة العُليا بخصوص إلغاء تشريعات تنتهك الحقوق المنصوص عليها في القوانين الإسرائيلية الأساسية، والتي تعمل بمثابة شرعة حقوق في البلاد .
ومن شأن هكذا تغييرات؛ إن أُقرت؛ أن تسمح لإسرائيل بقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وفي الوقت نفسه تزيل العقبات القليلة المتبقية أمامها لإضفاء شرعيتها على المستوطنات التي بنتها في الضفة الغربية بطرق غير قانونية. كما أنها ستُضعف المعارضة المدنية لسياسة الحكومة، من خلال تقييد حق المواطنين في الوصول إلى المحكمة العُليا، المخولة النظر في الدعاوى المرفوعة ضد الدولة. ومن جملة ما تسعى إليه الأحزاب الدينية الثلاثة، التي يتشكل منها “تيار الصهيونية الدينية”، والتي تدعم نتنياهو، ما يلي: ضمان فرض قبضة القوى الدينية على الحياة العامة، بما في ذلك إلزامية التقيد بـ”الأكل الحلال” وفق الأحكام اليهودية في المؤسسات العامة، توقف وسائل النقل العام عن العمل وإغلاق المحال التجارية وأماكن الترفيه في أيام السبت. منع أي محاولة لتغيير السياسات القائمة منذ عقود والتي تمنح السلطات الدينية السيطرة على قانون الأسرة (مثلاً، سيكون من المستحيل تشريع الزواج المدني). ويعبر مؤيدو “الصهيونية الدينية” علانية وبانتظام عن آراء ومواقف معادية للعرب، فضلاً عن كراهيتهم للمثلية الجنسية. باختصار، مع وصول هكذا جماعات متطرفة إلى الحياة السياسة، ومع إدخال هكذا تغييرات على الحياة العامة، توشك إسرائيل على دخول حقبة يحدد معالمها طغيان الأغلبية اليمينية في السياسة المحلية، وطغيان الأقلية الأرثوذكسية المتطرفة في المجتمع.
المهم أن نتنياهو يخطط حتى الآن لتعيين وزير من حزب “الليكود” لتولي حقيبة وزارة العدل، بدلاً من عرضها على الأحزاب الأكثر تطرفاً- على الرغم من أن بعض شخصيات “الليكود” ليست أقل عداء لاستقلال القضاء. وتشير تقارير إلى أن نتنياهو وافق من حيث المبدأ على قانون التجاوز. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن لديه مصلحة شخصية في الحد من صلاحيات السلطة القضائية، فقد يفضل نتنياهو تجنب إلحاق ضرر جذري بها.
إن سجل نتنياهو يشهد على أن تحالفاته كانت دائماً مع من هم معادين للديموقراطية. كما أن سجله السياسي وتجاربه في الحكم لا تبشر بأي بارقة أمل في ما يخص القضية الفلسطينية. فهو لن يعير ملف حل الدولتين أي اهتمام، كما أنه لن يفعل أي شيء من شأنه كبح جماح احتلال وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية (…).
……………………….
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“:
https://www.foreignaffairs.com/israel/israels-hard-right-turn
(**) “داهليا شيندلين”، عضو “مركز مؤسسة القرن للبحوث والسياسات الدولية”، وكاتبة عمود في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.