منى فرح *
سعد بن خالد بن سعدالله الجبري شخصية استخباراتية سعودية يلفُها الغموض. كان مقرباً جداً من ولي العهد السابق محمد بن نايف ثم توارى في العام 2017 في تركيا ثم كندا. أراد ولي العهد الحالي محمد بن سلمان رأسه بأي ثمن. في الجزء الثاني من تقرير “الغارديان”، يكشف الجبري للصحافي “أنوج تشوبرا” نصوص الرسائل المتبادلة بينه وبين بن سلمان.
في أيار/ مايو 2017، حاول محمد بن نايف شق طريقه الخاص إلى البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. وهو لذلك تعاقد (https://efile.fara.gov/docs/6399-Exhibit-AB-20170515-7.pdf) مع “مجموعة سونوران بوليسي”، وهي من اللوبيات الناشطة في واشنطن، ولديها علاقات وثيقة مع فريق ترامب، لتزويد وزارة الداخلية السعودية، التي كان بن نايف يتولى حقيبتها آنذاك، بـ”خدمات استشارية واسعة” في واشنطن. ومنذ ذلك الحين تم تغيير اسم “مجموعة سونوران بوليس” إلى “ستريك غلوبال دبلوماسي”، على اسم رئيسها، عضو اللوبي روبرت ستريك. وقال مقربون إن بن نايف فهم أن سجله السابق لن يكون له ذاك التأثير المطلوب عند “رئيس متهور وغير تقليدي، قرر من اللحظة الأولى التي دخل فيها البيت الأبيض أن تبقى العلاقة بينه وبين مجتمع وكالات الاستخبارات الأميركية متوترة“ (https://www.npr.org/2019/10/28/774178719/a-history-of-trumps-broken-ties-to-the-u-s-intelligence-community). وبالتالي فإن علاقته المميزة مع الـ”سي. أي. إيه”، واللقب الذي حاز عليه “حبيب المخابرات الأميركية” لن يشفعا له. فقد أراد بن نايف إقناع الرئيس الأميركي الجديد (ترامب) بأنه ليس مجرد صديق قديم ووفي، بل وأيضاً أكثر قيمة ومنفعة من ابن عمه (محمد بن سلمان). لقد شارك سعد الجبري، شخصياً وبشكل مباشر، في التفاوض مع “ستريك غلوبال دبلوماسي”، وتولى إتمام عقد معها بقيمة 5.4 مليون دولار، نيابة عن وزارة الداخلية السعودية.
مع انتشار خبر العقد، خشي الجبري من الوقوع “كبش فداء” بين الأمراء المتحاربين. وفي أيار/ مايو 2017، وقبل أيام قليلة فقط من الزيارة التي قام بها ترامب إلى الرياض، تسلل إلى تركيا. كانت مخاوفه مُبَرَّرة. فبعد فترة قصيرة من مغادرته السعودية، تلقى الجبري خبراً مفاده أن صاحب التوقيع الرئيسي على العقد، وهو ضابط في المخابرات السرّية التي تعمل تحت أمرة بن نايف، تم احتجازه من قبل موالين لمحمد بن سلمان، وخضع لاستجواب قاسٍ بسبب العقد.
“الصيام في البرد”:
في 4 حزيران/ يونيو 2017، أرسل الجبري رسالة نصية إلى عبد العزيز الهويريني، وهو مسؤول أمني مُخضرم، يسأله عمَّا إذا كان ينبغي عليه مواصلة “الصيام في البرد”، في إشارة مشفرة تعني “ضرورة بقائه في تركيا من عدمها”. وكان نص الردّ الذي بعث به الهوريني (يعمل الآن تحت إشراف محمد بن سلمان) بأنه يجب عليه ذلك. وفي 17 حزيران/ يونيو، أرسل الهويريني رسالة نصية أخرى إلى الجبري، يحذره فيها من أن “أشخاصاً موالين لمحمد بن سلمان يسعون لاعتقاله”. في غضون ذلك، أجبرت المعارضة بن نايف على إلغاء عقد “ستريك”، الذي رأى فيه MBS “مؤامرة لنسف علاقته مع عائلة ترامب، ويُراد منه سفك الدماء”، بحسب ما أسرَّ بن نايف للجبري.
في 18 حزيران/ يونيو، تلقى الجبري رسالة نصية مفاجئة من MBS، يطلب منه العودة إلى السعودية للمساعدة في حل “نزاعات” مع بن نايف. لم يحدد MBS نوع النزاعات التي يقصدها، ولكن نص الرسالة التي بعث بها كان مكتوباً بنبرة تصالحية استثنائية، وجاء فيها التالي: “لا أعتقد أن هناك من يفهم [بن نايف] أفضل منك”.
الجدير ذكره هنا، أن مشاعر كراهية متبادلة كانت تجمع بين MBS والجبري. ففي العام 2015، أقال الملك سلمان (بناء على طلب نجله على ما يبدو) الجبري من منصبه. كانت التهمة أن الجبري عقد اجتماعات سريّة مع كل من مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك، جون برينان، ووزير الخارجية البريطاني آنذاك، فيليب هاموند، وذلك من دون إبلاغ العاهل السعودي وأخذ موافقته. لكن الجبري واصل العمل مع بن نايف بشكل غير رسمي، معتبراً قرار إقالته “إحدى محاولات MBS العديدة لإضعاف راعيه” (بن نايف).
في الرسالة النصية المفاجئة التي بعث بها إلى الجبري، أصرَّ MBS قائلاً: “دعونا ننسى الماضي الآن. نحن لسنا أبناء اليوم.. سامحني، وأبرئني أمام الله. متى ستعود”؟. ورد الجبري عليه قائلاً بأنه بحاجة إلى الابتعاد لتلقي العلاج الطبي.
وبعد يومين من تاريخ تلك الرسالة، أطلق محمد بن سلمان انقلابه الشهير.
“فرقة النمور”:
في الأشهر التي أعقبت الانقلاب، استمر الجبري في الاختباء في تركيا، وكان كل أفراد أسرته الصغيرة معه، باستثناء اثنين من أبنائه اللذين مُنعا من السفر في يوم الإنقلاب. وظلَّ على “اتصال بشكل سرّي” مع بن نايف الذي كانت تحركاته مقيدة. في غضون ذلك، سارع MBS لتشديد قبضته على كافة الأجهزة الأمنية (https://www.reuters.com/article/us-saudi-decrees/saudi-king-overhauls-security-services-following-royal-shakeup-idUSKBN1A52N9) في السعودية، بما في ذلك وزارة الداخلية، التي جُردت من كل الموالين لبن نايف، وسُحبت منها وظائف رئيسية مثل مكافحة الإرهاب. كما فرض MBS عقوبات مشددة على أي معارض. وفي أول حملة قمع نفذها بعد الانقلاب، تم اعتقال (https://www.bbc.com/news/world-middle-east-41260543) عدد من المثقفين ورجال الدين المؤثرين ممن لديهم متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، في أيلول/ سبتمبر 2017.
في الشهر نفسه، ناشد الجبري MBS للسماح لأبنائه بمغادرة المملكة، فكان الرد أنه يجب عليه أن يعود أولاً إلى الرياض، مكرراً حجة مناقشة “ملف حسَّاس للغاية” يتعلق بالأمير محمد بن نايف. وفي رسالة الرد، سأل MBS الجبري: “يا دكتور، أخبرنا، أين يجب أن نرسل الطائرة لإحضارك”؟
لم تكن لدى الجبري أي نوايا بالعودة، ومع ذلك سعى لإقناع محمد بن سلمان بأنه لا يشكل أي تهديد. وبعث له رسائل مليئة بالتفاهات الخادعة، يتعهد له فيها بالولاء الدائم.
في واحدة من تلك الرسائل، كتب الجبري يقول: “لدي الكثير من المعلومات الحسَّاسة التي تخصّ الدولة، لكنني لم أسرّب أي شيء منها لأي شخص كان”. وقدم أمثلة تثبت ولاءه، مثل كيف أنه دحض، وبشكل علني، مزاعم “مجتهد” (مخبر على تويتر، مجهول الهوية، نشط في مهاجمة العائلة المالكة السعودية منذ فترة طويلة)، ليضيف: “أي مصير ينتظرني إذا عدت إلى السعودية؟ أليس من الأفضل لي أن أبقى خارج المملكة، وأبقى وفياً لحكمك، وأرفض قول أي شيء يضركم ويضر البلاد وأتعاون مع سُموِكم في كل ما يخدم الصالح العام”؟
لم يتأثر محمد بن سلمان بأي شيء. وبعث برسالة نصية إلى الجبري يهدده فيها بأنه سوف يلاحقه “بكل الوسائل المُتاحة”، ما دفع الجبري للفرار من تركيا إلى كندا. وفي أواخر عام 2017، حاولت الرياض اعتقال الجبري عبر “الإنتربول”، وزعمت أنه اختلس أموالاً حكومية تُقدر بالمليارات، وضغطت على كندا (https://www.theglobeandmail.com/politics/article-saudis-press-canada-to-end-refuge-for-ex-intelligence-officer/) لتسليمه. لكن جهود الرياض فشلت. ثم، في تشرين الأول/أكتوبر 2018، تلقى الجبري تحذيراً من جواسيس يعملون في دولة شرق أوسطية، أبلغوه أنه هدف اغتيال، وحثوه على ضرورة الابتعاد عن السفارات والقنصليات السعودية (طلب الجبري من “الغارديان” حجب اسم تلك الدولة، خوفاً من انتقام سعودي). في الشهر نفسه، قيل أن شرطة الحدود الكندية اعترضت أعضاءً من “فرقة النمور“ (https://www.cbsnews.com/news/mohammed-bin-salman-saad-aljabri-tiger-squad-henchmen-60-minutes-2022-07-10/)؛ فريق من القتلة ترعاهم السعودية؛ أثناء محاولتهم دخول البلاد بتأشيرات سياحية، وأجبرتهم على العودة من حيث أتوا. ونفت الرياض أن يكون لها أي تورط بالحادثة، لكن السلطات الكندية أقرت ضمنياً (https://www.publicsafety.gc.ca/cnt/trnsprnc/brfng-mtrls/prlmntry-bndrs/20201201/014/index-en.aspx) بالمؤامرة المزعومة، التي كانت تحمل أوجه تشابه تقشعر لها الأبدان مع الطريقة التي قتلت بها “فرقة النمور” الصحافي المعارض جمال خاشقجي في الشهر نفسه داخل مقر البعثة الدبلوماسية السعودية في اسطنبول بتركيا.
“الذراع الطويلة” للدولة السعودية:
بالنسبة للأميركيين الذين عملوا مع الجبري، كان من الواضح أن محمد بن سلمان كان يعتبره تهديداً جدياً له، “لأنه رجلٌ محبوب من قبل منظمات الدولة العميقة في جميع أنحاء العالم. ولأنه يعرف كل نقاط الضعف والأخطاء التي ارتكبها أفراد العائلة المالكة السعودية”.
في صباح شتوي هشّ من العام الماضي، دُعيت (كاتب التحقيق) إلى فندق خمس نجوم في واشنطن للقاء الجبري. كان قد سافر من تورنتو لزيارة ابنه خالد، وهو طبيب متخصص بأمراض القلب والمتحدث الرسمي باسم والده المنعزل. عندما وصلت إلى ردهة الفندق، تلقيت عبر هاتفي المحمول رسالة نصية غير متوقعة: “دعنا نلتقي خارج الفندق”. بعد دقائق، جاء رجل واقتادني إلى مبنى شاهق آخر في المنطقة (ناطحة سحاب). خارج المبنى، الذي تسكنه بعض النُخب السياسية في العاصمة الأميركية، كانت تركن سيارة رياضية- دفع رُباعي- وتحمل علامة “الخدمة السرّية الأميركية”.
في فناء مغلق على سطح المبنى، التقيت بالجبري. كان يرتدي بدلة داكنة ونظارات بإطار سلكي. وكان يجلس على أريكة، يُحدق في منظر وسط المدينة. كان الدفء يتسرب في المكان من مدفأة مثبتة على الحائط، وفي الخلفية كان يوجد بيانو كبير. عند وصولي، وقف الجبري وكوب قهوة “ستارباكس” في يده، ثم بدأ يشير بيده الأخرى إلى بعض معالم واشنطن: نصب جيفرسون التذكاري، نصب واشنطن، والبيت الأبيض.
قال لي الجبري إنه خلال رئاسة ترامب تجنب المجيء إلى واشنطن، برغم أن لديه الكثير من الأصدقاء المؤثرين هنا، منهم أعضاء في مجلس الشيوخ (https://www.barrons.com/news/us-senators-press-trump-over-detention-of-saudi-ex-spy-s-children-01594351808) (جمهوريون وديموقراطيون) ومسؤولون أمنيون. وأنه فضَّل أن يبقى حذراً من “الذراع الطويلة” للدولة السعودية، مضيفاً أن علاقة ترامب المتينة مع محمد بن سلمان جعلته “أكثر حذراً”.
أثناء حديثنا، تساءل الجبري؛ وهو الحاصل على درجة الدكتوراه في الذكاء الاصطناعي، من جامعة إدنبرة في بريطانيا؛ كيف كان ليكون مسار حياته لو لم يُقابل الأمير بن نايف؟
يُذكر أن الجبري بدأ حياته المهنية في وزارة الداخلية، في تسعينيات القرن الماضي. وعندما قرر ذات مرة الاستقالة من وظيفة في “أرامكو”، أوقفه بن نايف. الآن، تبدو أقدارهما ومصائرهما واحدة.
………………..
– النص بالإنكليزية على موقع “الغارديان“:
ـــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.